مشروعية طاعة الرؤساء
يعد مبدأ سيادة القانون من اهم عناصر الدولة القانونية، ويراد به ان تخضع الدولة حكاماً ومحكومين – افراداً وجماعات وهيئات – للقانون بمعناه العام أيا كان مصدره دستورياً أو تشريعاً، أو انظمة وتعليمات.
وحتى يتحقق هذا المبدأ يجب ان يخضع الرئيس والمرؤوس لسلطان القانون، مما قد يثير التساؤل حول الصراع بين مبدأ سيادة القانون وبين واجب المرؤوس في طاعة رؤسائه، عندما يتلقى أوامر رئاسية غير مشروعة، هل يغلب المرؤوس واجب طاعته الرئاسة، ويهدر مبدأ المشروعية، ام يهمل واجب الطاعة ويتمسك بطاعة لقانون.
يقصد بمبدأ المشروعية خضوع سائر سلطات الدولة لاحكام القانون بحيث تكون جميع تصرفاتها محددة بسياج قانوني لا تستطيع ان تتعداه.
ولا ينصرف هذا المبدأ الى تصرفات طائفة أو فئة دون اخرى. وانما يشمل المحكومين في علاقاتهم والرؤساء أو الحكام في مزاولة سلطاتهم، فهؤلاء وأولائك خاضعين لاحكام القانون على حد سواء، وهذا لايتحق الا في الدولة القانونية.()
ومن مقتضيات مبدأ المشروعية ان تتقيد الادارة ورجالها بالقوانين والانظمة والتعليمات بالاضافة الى احترامها القواعد الدستورية والمعاهدات والمبادئ العامة للقانون، ويراقب القضاء مدى التقيد بذلك في كل مايصدر عنها من اعمال قانونية ومادية. ويقرر في ضوء ذلك مشروعية تصرفاتها ويبطل ما يخرج على هذا المبدأ.
وقد استقر الفقه على اطلاق مصطلح الدولة المستبدة أو غير القانونية على الدول التي لا تراع مبدأ المشروعية في تصرفاتها، في حين ميز البعض بين الدولة البوليسية والدولة الاستيدادية، فذهب الى ان الاولى لا يملك فيها الافراد حق قبل الدولة، وللادارة سلطة تقديرية مطلقة في اتخاذ ما تراه محققاً للصالح العام، فالحاكم فيها يكون غير مقيد في الوسيلة الا انه مقيد من حيث الغابة.
اما الدولة الاستبدادية فان الادارة فيها تعسف بحقوق الافراد وحرياتهم لتحقيق مصلحة الحاكم وحسب هواه، فلا يكون مقيداً لا من الوسيلة ولا من حيث الغاية. ()
ومن الجدير بالذكر ان النظام القانوني السائد في الوقت الحاضر في مختلف دول العالم المتمدن يقيد الحاكم أو الرئيس بالعديد من القيود الدستورية والقانونية اللازمة لكفالة حقوق الافراد وحرياتهم، حتى اصبحت مسائله القادة أو الرؤساء امراً متاحاً على المستوى الوطني والدولي باعتبار هذا الخضوع المعيار المميز للحكم الديمقراطي من غيره من النظم الاخرى.
على ان التقيد بمبدأ المشروعية يختلف في حدوده في الظروف العادية من الظروف الاستثنائية، ففي الاخيرة يكون الالتزام على قدر من المرونة، فتملك السلطة صلاحيات واسعة واستثنائية حتى تستطع مواجهة الظروف الاستثنائية حرباً كانت ام كوارث طبيعية أو اضطرابات.
وعلى العموم فان الادارة تبقى ملزمة في تصرفاتها في ظل الظروف الاستثنائية بالتشريعات الاستثنائية المقررة لمواجهة هذه الظروف، فاذا خالفت تلك التشريعات عرضت نفسها للمسائله واعمالها للالغاء.
فالظروف الاستثنائية لا تلغي مبدأ المشروعية، ولكنها توسع من نطاقها وتسمح للادارة ان تلجأ الى تشريعات أخرى تختلف عن التشريعات العادية تضمن الادارة من خلالها سرعة العمل والحسم والوصول الى الهدف، ويقف القضاء في كل ذلك مراقباً لمدى تقيد الادارة بالنصوص التشريعية الاستثنائية، لما في خروج الادارة ورجالها حكاماً أو رؤساء عن المشروعية في الظروف الاستثنائية من خطورة على حقوق وحريات الافراد بحكم تمتعهم بصلاحيات واسعة في هذه الاوقات تحديداً.
ثانيا: خضوع الرؤساء الى القانون.
يقود مبدأ المشروعية الى القول بواجب الرؤساء والمرؤوسين بالامتثال الى احكام القانون، مثلما يجب على السلطات الاخرى في الدولة احترام القانون والامتثال الى احكامه، فالسلطة التشريعية تخضع الى القانون الدستوري الذي يبين حدود اختصاصها وسلطاتهم، والسلطة التنفيذية تخضع لاحكام القانون ولا تخالفه أو تخرج عليه، كما تلتزم السلطة القضائية بتطبيق احكام القانون على المنازعات المعروضة امامها وتتقيد بحدوده وظوابطه.
ومن ثم فان الرؤساء يفقدون سلطاتهم وصفة الالزام التي تتمتع بها اوامرهم، اذا انحرفوا عن القانون ولم يلتزموا باحكامه، فتصبح اعمالهم غير مشروعة، وتكون عرضه للطعن فيها والغائها. وفي كل ذلك حماية للافراد وحقوقهم من عسف السلطة ورجالها وما قد يتعرضون اليه من نزق الرؤساء وتصرفاتهم الشخصية التي تخرج في احيان كثيرة عن مبدأ المشروعية، مما يتطلب، وضع القيود على ممارستهم لسلطاتهم. وقد اتجه الفقهاء في تحديد معنى الخضوع للرؤساء وسلطاتهم الادارية الى ثلاثة آراء هي:
الرأي الاول:
يذهب هذا الرأي الى القول بانه لا يجوز للرؤساء ان يأتو عملاً قانونياً أو مادياً مخالفاً لاحكام القانون، ويمثل هذا الاتجاه الحد الادنى في تفسير مبدأ المشروعية.
لانه يقتضي ان يخضع الرؤساء والادارة الى القانون والتزامهم بتطبيق احكامه وعدم مخالفته، مما يتيح لهم سلطة واسعة في التصرف واتخاذ ما يشاؤون من تصرفات، ما دام القانون لم يتطرق الى منعها أو حضرها. فهذا الرأي يفسر مبدأ المشروعية تفسيراً ضيقاً. ()
وقد اخذ الفقه الفرنسي الحديث بهذا الراي فاضحى للسلطة التنفيذية ان تتصرف باصدار اللوائح المستقلة استناداً للمادة 37 من الدستور الفرنسي لعام 1958 لمعالجة كافة المسائل التي تخرج عن اختصاص المشرع المحدد على سبيل الحصر في المادة 34 من الدستور. فللادارة والحال هذه ان تسن قواعد جديدة، وتتمتع بسلطة تقديرية واسعة لا تحدها الا المصلحة العامة. ()
فاذا فرض القانون على الادارة القيام بعمل أو الامتناع عنه، وجب عليها الامتثال الى حكمه، واذا ترك القانون لها الحرية في ان تتصرف أو تمتنع عن التصرف تمتعت الادارة بسلطة وحرية واسعة في اتخاذ القرار.
الرأي الثاني:
يذهب انصار هذا الرأي الى ضرورة استناد الادارة ورجالها في كل تصرف تقوم به الى سند من القانون، فلا يكفي ان يكون التصرف غير مخالف للقانون وانما يجب ان يستند الى اساس من القانون والا كان عملها هذا غير مشروع. ()
وفي ذلك توسيع لمبدأ المشروعية، وحد من سلطة الرؤساء فلا يستطيعون اتخاذ أي قرار مالم يكون مستندأ الى قاعدة قانونية تمنحه الحق في اتخاذه وبعكس ذلك يكون أي تصرف قانونياً أو مادياً لا يستند الى اساس من القانون باطلاً ويوصم بعدم المشروعية.
الرأي الثالث:
ذهب الرأي الثالث الى ابعد مما ذهب اليه الرأي السابق، فوسع من مبدأ المشروعية على حساب سلطة الرؤساء الاداريين وحريتهم في اصدار القرارات واتخاذ الاوامر والتعليمات، فيعدهم مجرد وسيلة لتنفيذ احكام القانون.
وتطبيقاً لذلك يكون أي قرار اتخذه الرئيس باطلاً أو غير مشروع مالم يكون تنفيذا لقاعدة قانونية، ويكون للمرؤوس ان يمتنع عن الخضوع لاوامر رؤسائه ويتحلل من واجب الطاعة اذا لم يكن القرار الذي اتخذه الرئيس تطبيقاً لقاعدة قانونية. ()
واذا كان هذا الرأي يساهم في حماية المشروعية وسيادة القانون فانه يسلب من الادارة والرؤوساء الاداريين قدرة الابتكار وخلق المبادئ القانونية التي يتوصلون اليها اثناء مباشرتهم لوظائفهم ويجعلهم مجرد اداة لتنفيذ القانون.
ولاشك ان في ذلك تعطيل للوظيفة الادارية التي يتحتم ان تتمتع ببعض الصلاحيات التي تمكنها من العمل بحرية لتضمن حسن سير المرافق العامة وتحقيق الصالح العام، فالمشرع مهما بلغ من الفطنة والدراية لا يستطيع الالمام بكل صغيرة وكبيرة في وظيفة الادارة.
ومن ثم فان الرأي الاكثر قبولاً في هذا الشأن هو الاول والذي يفسر مبدأ المشروعية، تفسيراً ضيقاً، فيمنح الادارة سلطة التصرف ولا يرد عليها من القيود الا تلك التي تمنع من خروجها على مقتضيات القانون. فيكون للادارة حرية القيام بالتصرف واختيار الوقت المناسب والوسيلة الملائمة لاتخاذه على ان تلتزم بالا تخالف تصرفاتها احكام القانون، فدور الادارة لا يمكن ان يقف عند مجرد تنفيذ القوانين.
منقول