TODAY - 07 March, 2011
«عراق نوري السعيد»: انطباعات «ولدمار غلمن» آخر سفير أميركي في العهد الملكي
طلب السعيد حل البرلمان والأحزاب وإلغاء امتياز الصحف كشرط لتشكيل الوزارة
الحلقة الثانية
2
ولدمار جـ. غلمن waldemar J. Gallman هو آخر سفير أميركي في العراق الملكي عاصر وسجل مذكرات عن الأعوام الأربعة الأخيرة لرئيس الوزراء العراقي المخضرم نوري السعيد، وكان شاهدا على الإطاحة بالنظام الملكي، يراقب لحظاته الأخيرة عام 1958.
صدر كتاب غلمن بالانجليزية عام 1964 عن جامعة جون هوبكنز تحت عنوان "العراق تحت حكم الجنرال نوري". وهو يقدم صورة عن طريقة أميركا في التعامل مع عراق نوري السعيد "وديمقراطيته" التي لم يكتب لها النضج. وحرصنا على إعادة نشره خلال سنة حاسمة يفترض ان تشهد انسحاب أميركا العسكري من عراق يحاول ثانية بناء "ديمقراطية ناشئة".
السفير المتوفى عام 1980، كتب انطباعات تجاوزت البروتوكول الدبلوماسي لتعرض صورا عن الحياة السياسية التي رآها في بغداد، فيما سجل الكثير من خصوصيات نوري السعيد وطريقة حياته وحتى ولعه بتربية الطيور في حديقة مطلة على دجلة.
وهو يقدر كثيرا "لباقة" نوري ومزجه للسياسة بالظرف. وكان السفير يدعو لرئيس الحكومة يوما بالشفاء من زكام، لكن نوري قال له: اخلط دعاءك بقليل من المدفعية الأميركية التي يحتاجها جيشنا.
ولا يخفي السفير موقفه "العدائي" لثورة 1958، بل إنه يصفها بلغة لا تخلو من قسوة. لكنه كان قاسيا ايضا على العهد الملكي خاصة خلال وصفه لكيفية تنظيم الانتخابات المتتالية بسرعة أحيانا و"مؤامرات" القصر وموقف نوري من معارضيه.
وهو يبرع كذلك في وصف ظروف الحرب الباردة بين الشرق والغرب وكيف كان العراق يحاول ان يجد طريقه وسط الحالة الشائكة. ويصف صراعا أميركيا بريطانيا داخل بغداد، كما يتساءل: هل خذلنا نوري حليفنا القوي في المنطقة؟
وفي الكتاب وصف للعراق ربما كان صالحا للاستخدام حتى هذه اللحظة. ويقول السفير ان وزارة خارجيته كانت تقول ان العراق مؤثر جدا في المنطقة، لكن علاقات الحكومة مع شعبها ومع جيرانها تنطوي على مشاكل كبيرة!
كما يظهر لأول وهلة أن 14 مقعداً من بين 135 مقعداً هي عدد تافه لا يوجب الانزعاج. ولكن هذه الجماعة الصغيرة لديها الوسائل الكثيرة لإثارة المشكلة، ولذلك فإن اضطراب العناصر المحافظة كانت له أسبابه الوجيهة.
هذه الجبهة كوحدة متآلفة، تتحلى بالانضباط، تستطيع أن تعرقل أعمال مجلس الأمة، كما أن بإمكانها – ولديها منابر مجلس الأمة – أن تؤثر على الجماعات اليسارية والأفراد المتبرمين في البلاد بصورة عامة. وهذا الوضع بالذات كان المناسبة التي كانت تلك الجماعة الصغيرة تتمناها وتنتظرها منذ زمن طويل.
تكليف السعيد ثانية
وعقد البرلمان الجديد اجتماعات بمراسم الافتتاح في أواخر حزيران (يونيو)، ثم أجلت الاجتماعات إلى موسم الخريف. ولما تمت الانتخابات الحرة، لم يبق لارشد العمري إلا أن يستقيل، وقد فعل ذلك في 23 تموز (يوليو)، وكان على القصر أن يبحث عن رئيس وزراء آخر.
وأظهرت المشاورات التي قام بها القصر بانه لم يكن هناك بين المرشحين لرئاسة الوزارة متحمس للحكم في ذلك الجو السياسي المكهرب بهذه الدرجة، وان الدور الذي قد تلعبه "الجبهة الوطنية" كان مبعث قلق شديد. فاضطر القصر بعد أن جوبه بهذا الموقف أن يرجع إلى نوري مرة أخرى، كما فطن نوري إلى ذلك من قبل.
وكان نوري لا يزال في لندن، فتعهد ولي العهد عبد الاله نفسه بأن يفاتحه. ولم تكن علاقة هذين الرجلين بالصفاء أبداً، فإن صلابة نوري السعيد، وإصرار عبد الإله على أن يقول كلمته في كافة القرارات المهمة، لم تدعا مجالاً لحسن العلاقة بينهما. وما حدث الآن زاد في التوتر بينهما، فحاول عبد الإله عدة مرات أن يتصل بنوري تلفونياً ولكنه لم يحصل على جواب.
ولم تنجح وساطة السفير العراقي في لندن الأمير زيد، (شقيق) جد الملك فيصل مع نوري ولم يحصل منه على جواب سوى أن نوري وافق على الاجتماع بعبد الإله في باريس لبحث الموضوع. ولما التقيا في باريس وافق نوري على تسلم رئاسة الوزارة بشروط معينة.
منها ان يوافق القصر على حل البرلمان المنتخب حديثاً، وعلى إجراء انتخابات أخرى، وحل الأحزاب السياسية، وأن تطلق الحرية لنوري السعيد بان يلغي إجازات الصحف. ولم يعد نوري السعيد إلى بغداد لتولي رئاسة الوزارة إلا بعد أن قبلت هذه الشروط.
بدأ نوري أعماله بنشاطه المعروف. فقد وجه يوم 4 آب (أغسطس) كتاباً إلى الملك يلتمس فيه حل مجلس الأمة وإجراء انتخابات جديدة، وأوضح بانه كان يريد تمثيلاً واسعاً لتطبيق منهاجه، ثم جرى حل كافة الأحزاب، كما قام نوري شخصياً بحل حزبه (حزب الاتحاد الدستوري)، وبين أن كل من يستطيع ان يمثل بلاده يتمكن الآن أن يتبارى بظروف متكافئة!
وفي خطاب عام كان يبدو موجهاً ضد الجماعات الشيوعية وضد الجبهة الوطنية، حذر الرأي العام بأن يكون متيقظاً ضد الذين يخدمون المصالح الأجنبية، ويتكلمون بالديمقراطية والحرية والسلام. وقد اتضح معنى هذا الإنذار الخفيف في 1 أيلول (سبتمبر)، أي قبل الانتخابات باثني عشر يوماً. ففي ذلك اليوم نشرت الحكومة تعديلات لقانون العقوبات وسعت فيه سلطاتها لمكافحة الشيوعيين واليساريين الآخرين، كما وضع أنصار السلام والشبيبة الديمقراطية بنفس درجة الشيوعية التي كانت محرمة.
مع الخصوم السياسيين
وزود مجلس الوزراء بصلاحيات واسعة ضد من يوصم بالشيوعية أو يقوم بفعاليات لها علاقة بالشيوعية، وكذلك خول مجلس الوزراء سلطة إغلاق أي جمعية أو نقابة مؤقتاً أو بصورة دائمية، إذا كانت فعاليات تلك الجمعية أو النقابة مما تؤثر تأثيراً سيئاً في الأمن العام.
وهذه الإجراءات مع ما عرف عن نوري من سمعة قوية كرجل قوي لا يتردد باتخاذ الإجراءات الصارمة عند الضرورة، ثبطت عزم المعارضة، ومهدت الطريق إلى انتصار نوري السعيد الكاسح في الانتخابات.
جرت الانتخابات في 12 أيلول (سبتمبر). وكانت تبدو في هدوئها مناقضة لحملة الانتخابات السابقة في حزيران (يونيو). كان كل شيء يبدو هادئاً في الظاهر، وكان ينبغي الحصول على إجازة للتجمعات، كما أن أكثر هذه الطلبات للتجمعات رفضت، ولم تظهر من النداءات على الجدران إلا القليل. وبينما حدث في انتخابات حزيران (يونيو) ضغط غير خاف قامت به السلطات المحلية ضد المرشحين غير المرغوب فيهم ففي انتخابات أيلول (سبتمبر) لم يبد من ذلك إلا القليل، وذلك لأن الضغط كان يجري من وراء الستار، ولم يكن هناك لزوم لجلب شرطة إضافية. وجرى التصويت بهدوء.
حزب السعيد يكتسح
وفي صباح يوم الانتخابات فاز 116 مرشحاً بالتزكية، أي بدون معارضة، ولم يجر التصويت إلا في عشر مناطق انتخابية في بغداد والبصرة والسليمانية، حيث تبارى 25 مرشحاً على الـ19 مقعداً الباقية. وكانت الأغلبية الساحقة من المنتخبين من أعضاء حزب نوري المنحل (حزب الاتحاد الدستوري)، مضافاً إليهم عدد من المستقلين من جماعته أيضاً. كما نجح ثمانية مرشحين كانوا ينتسبون إلى حزب الأمة، واثنان كانا منتسبين إلى حزب الاستقلال، وواحد كان ينتسب إلى الجبهة الوطنية، وذلك بعد أن رشحوا أنفسهم كمستقلين، ولذلك فلم يكن متوقعاً أن يزيد عدد المعارضين على 12 شخصاً.
ولما كان هذا المجلس قد قدر له أن يبقى في الحكم لمدة ثلاث سنوات ذات فعالية غير اعتيادية في ميادين الشؤون الخارجية والتطور الاقتصادي، فمن الأفضل أن نبحث بتكوينه بتفصيل أكبر.
كان المجلس يتألف من 116 عربياً و19 كردياً. هذا من الناحية العنصرية، أما من الناحية الطائفية فقد كان فيه 73 سنياً و56 شيعياً و6 مسيحيين. كما أن 88 من النواب اشتركوا كنواب في المجلس السابق – المجلس الرابع عشر – ما عدا 16 منهم كانت للجميع منهم خبرة سابقة في مجلس النواب. وقد كان عدد الملاكين من غير شيوخ العشائر 49 نائباً، كما كان هناك 42 من رؤساء العشائر و18 من رجال الأعمال. أما الطبقة المهنية فكانت ممثلة بـ23 محامياً، خمسة منهم كانوا من القضاة السابقين، ومن ثلاثة أطباء.
وهكذا حصل نوري على أغلبية ساحقة، وعلى جماعة لها نصيبها من تمثيل الناس. وكان نوري بوضعه هذا قادراً على عمل الكثير لخدمة العراق في الداخل والخارج، وسأعطي آرائي في كيفية قيام هذا الرجل باستغلال هذه الفرصة للخدمة في الفصول التالية.
عند وصولي إلى بغداد في تشرين الأول (أكتوبر) كانت المعارضة مكبلة، وكان لنوري مجلس الأمة الذي يرضيه، وهكذا بدأ منهاجه ينكشف. ففي الميدان الداخلي كان من بين أهدافه المباشرة إكمال الإجراءات للسيطرة على الفيضان وذلك في منهاج الإعمار، أما في الميدان الخارجي فقد كان عازماً على أن يضع العراق في موقف قوي ليجابه أي اعتداء محتمل. وقد كان من حسن حظي ان كان لي المجال والاستعداد أن اتصل به باستمرار في كلا هذين المجالين.
فاتفاقية التعاون الفني والمساعدة العسكرية بين بلدينا خدمت هذا الغرض خدمة حسنة. وهكذا كان الوضع محفزاً على العمل وكان مجال الإنتاج كبيراً وإن كان الجو مكهرباً.
سلالة نوري السعيد
أعطاني أحد زملائي من الذين خدموا قبلي ببضعة سنوات في بغداد هذه الصورة الانطباعية عن نوري: إنه كردي المولد، تركي الثقافة، عراقي المهنة، هذا الاختصار الجذاب مقتضب أكثر مما يلزم، وإني أذكره هنا لانه يدعو إلى التساؤل حول نشأة نوري الحافلة بالحوادث، وإلى تجاربه المختلفة وسجيته المعقدة.
إني لا أدري كم من الدم الكردي يجري في عروق نوري، ولكن أصدقاءه العراقيين يقولون إن فيه قسطاً من ذلك الدم، ومما لا شك فيه أن لهذا الرجل خواص كردية مثالية: كالقوة البدنية، والقوة المعنوية والشجاعة.
ولد نوري سنة 1889، ولكن ليس في كردستان، فقد كانت بغداد مسقط رأسه. ويبدو هذا مناسباً أكثر لأنه قضى جل حياته في خدمة العراق. ويعتقد أن عائلته كانت تعرف أسلافها التي استوطنت بغداد منذ ثلاثمائة سنة، إلى أن صار رئيس العائلة الرجل المعروف بالملا لولو، وهو من السنة.
وفي أحد الأيام شعر بمهانة عظيمة حين قام جنود الفرس من طائفة الشيعة المناوئة، بربط خيولها في مسجده. فسافر لولو فوراً وحده إلى استانبول ليخبر بذلك السلطان نفسه. ثم عاد ومعه جيش طرد المعتدين الأجانب بعد أن قتلوا زوجته وأطفاله. فهب السلطان لمساعدته ثانية، وأرسل إليه زوجة جديدة. وهي فتاة تركية من الحرم السلطاني، كما أمر له بمخصصات شهرية يستمر دفعها له ولعائلته من بعده. وبالرغم من هذا الارتباط القديم باستانبول فإن العائلة قبلت واحترمت في بغداد كعائلة عربية.
كان نوري السعيد صغير السن جداً حين ابتدأ تعليمه، وقد أنهى تعليمه الأولي عند "الملا" في مدرسة أطفال محلية في الثامنة من عمره. وكان ذلك التعليم يتركز على الحفظ عن ظهر قلب. وهذا يفسر حافظته القوية جداً، التي كانت بارزة حتى أواخر أيام حياته.
وكان أبوه السيد طه أحد الموظفين المدنيين المحترمين في خدمة الحكومة التركية فشعر بأن عليه أن يقرر مبكراً هل يهيئ ابنه للحياة المدنية أو للحياة العسكرية. وكانت المناصب المدنية العليا في الحكومة محجوزة للأتراك من استانبول، أما الخدمة العسكرية فقد كانت مفتوحة من أعلى درجاتها لجميع الناس في الإمبراطورية. ولابد أن هذا الاختبار كان موفقاً، فقد دخل نوري السعيد في المدرسة الابتدائية العسكرية مباشرة، ويقال بأنه ألف هذه الحياة من البداية.
وفي سنة 1903 ونوري لم يكمل الرابعة عشرة بعد، سافر من بلده إلى الكلية العسكرية في استانبول. فقد كان نجاحه حسناً بالرغم من أن عمره كان يقل بسنتين عن أعمار معظم زملائه في صفه، وبعد وصوله إلى استانبول بمدة قصيرة توفي والده. وكانت أمه في بغداد منشغلة بالعناية بأخواته، ولذلك فقد ترك نوري وشأنه ليدبر نفسه بنفسه. وقد قام بذلك خير قيام في ظروف الحياة العسكرية الصعبة ومتطلباتها.
يتبـــــــــــــــع الحلقة الثالثة 3