بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى في سورة الإسراء : (وقَضَينا إلى بني إسرائيلَ في الكتابِ لَتُفسِدُنّ في الأرضِ مرّتينِ ولَتَعلُنّ عُلوّاً كبيراً 5 فإذا جاءَ وعدُ أولاهما بَعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأسٍ شديدٍ فجاسُوا خِلالَ الديارِ وكانَ وعداً مفعولاً 6 ثمّ ردَدنا لكم الكرّةَ عليهم وجعَلناكم أكثرَ نفيراً 7 إنْ أحسنتم أحسنتم لأنفسِكم وإنْ أسَأتم فلَها فإذا جاءَ وعدُ الآخرةِ لِيَسوءوا وُجوهَكم ولِيَدخلوا المسجدَ كما دَخَلوهُ أوّلَ مرّةٍ ولِيُتبّروا ما عَلَوْا تَتبيراً 8 عسى ربّكم أنْ يَرحمَكم وإنْ عُدتُم عُدنا وجَعَلنا جَهنّمَ لِلكافرينَ حَصيراً .)
ألمعنى :
لَمّا أسلم من اليَهود عبد الله بن سلام وجماعة معه ، دعا الباقين إلى الإسلام فلم يستجيبوا له ولم يسلموا . وذلك قوله تعالى في سورة الأحقاف (قل أرأيتم إنْ كانَ مِنْ عِندِ اللهِ وكَفرتُمْ بِهِ وشَهِدَ شاهدٌ مِنْ بني إسرائيلَ على مِثلِه فآمَنَ واستَكبَرتم إنّ اللهَ لا يَهدي القومَ الظّالِمينَ ) ، فحينئذٍ أنذرهم الله بالدّمار في هذه الآيات ، فقال تعالى (وقَضَينا إلى بني إسرائيلَ في الكتابِ ) أي في القرآن ، يعني بني إسرائيل المعاصرين لرسول الله محمّد بن عبد الله ، ومعنى (قَضَينا) : أنذرناهم وحكمنا عليهم بالدمار إن لم يُصلحوا أعمالَهم ويُسلِموا ، فالقضاء هو الحكم القطعي الّذي لا تغيير فيه ، ومثله قوله تعالى (وقَضى ربّكَ ألاّ تَعبُدوا إلاّ إيّاهُ ) أي حكم ربّك حكماً قطعيّاً ، ومن ذلك قول عنترة :
جاروا فحكّمنا الصّوارمَ بيننا فقضتْ وأطرافُ الرّماحِ شُهودُ
والمعنى قل يا محمّد لبني إسرائيل المعاندين الّذينَ لم يُسلموا (لَتُفسدُنّ في الأرضِ مرّتينِ ولَتعلُنّ عُلُوّاً كبيراً) فاللام من قوله تعالى (لَتفسدنّ) لام العاقبة وكذلك قوله تعالى (ولَتعلنّ عُلُوّاً كبيراً) وهذا إخبار عن المستقبل ، وتقديره لتفسدنّ إلى[ المسلمين و] الإسلام مرّتين في المستقبل ، وليس هذا إخباراً عن الماضي كما ذهب إليه المفسِّرون لأنّ فسادهم في الماضي كثير وليس مرّتين ، وقد أيّد هذا القول الأستاذ عبد الرحيم فودة في مجلّة لواء الإسلام في العدد الأوّل للسنة الحادية والعشرين والمؤرّخة غرّة رمضان سنة 1386 هجريّة والمقال في صحيفة 55 ، ومن جملة ما قاله الأستاذ : "إنّ كلام المفسِّرين ليس حجّة ، حجّة لو أنّ كلامَهم تُرشد إليه مفاهيم اللغة ، لقد قالوا أنّ بختنصّر هو دمّر بني إسرائيل ، وكان هذا وعد أولاهما . وأنا أقول بكلام القرآن نفسه : ليس هذا هو الصحيح وليس كلام المفسِّرين حجّة على القرآن ، يعني أنّ القرآن لم يستوعبْه المفسِّرون ، وأعظم مفسِّر كان يفسّر القرآن فينتهي بقوله ’والله أعلم بمراده‘ " انتهى .
والدليل على أنّ هذا إخبار عن المستقبل قوله تعالى (فإذا جاءَ وعدُ أولاهما ) فكلمة "إذا" تستعمل للمستقبل ، فلو كان إخباراً عن الماضي لقال تعالى : فلمّا جاء وعد أولاهما ، ثمّ قوله تعالى ( بَعَثنا عليكم عباداً لنا أولي بأسٍ شديدٍ) فلو كان إخباراً عن الماضي لقال : بعثنا عليهم ، ولم يقل (بَعَثنا عليكم) ، فكلمة (عليكم) تدلّ على اليَهود الّذينَ كانوا في زمن النبيّ (ع) ومَن يأتي بعدهم .
وقد جاءت الآيات القرآنيّة الّتي تخبر عن الماضي مبتدئةً بكلمة (فلمّا) ولم تأتِ مبتدئةً بكلمة (إذا) ، ومن جملتِها قوله تعالى في سورة الزخرف (فلَمّا آسَفونا انْتَقمنا منهم فأغرقناهم أجْمعين) وقال تعالى في سورة آل عمران (فلَمّا أحسّ عيسى مِنهم الكفرَ قالَ مَنْ أنصاري إلى الله) وقال تعالى في سورة الأنبياء (فلَمّا أحسّوا بأسّنا إذا هم يَركضونَ ) وكثير في القرآن مثل هذه الآيات الّتي تخبر عن الماضي .
ففسادهم الأوّل وغدرهم في الإسلام [والمسلمين] كان في سنة 1948 ميلاديّة حيث قتلوا المسلمين في فلسطين وأخرجوهم من ديارهم وأخذوا أموالَهم وديارهم وتركوهم بلا مأوى ، وذلك بمساعدة الإنجليز وأمريكا ووعد بلفور لَهم بأن يجعل لَهم وطناً في فلسطين ، فخرج جيش العراق والعرب لمحاربتِهم وحاربوهم وانتصروا عليهم ودخل الجيش أرض فلسطين وجاس خلال الديار وكاد أن يدخل تل أبيب ، ولو لم تكن السلطة حينئذٍ بيد الإنجليز والخيانة من بعض رؤساء العرب لقضى جيش العراق على الصهاينة ولكنّ الإنجليز خدعوهم بكلمة الْهدنة ، فكانت الْهدنة دسيسة وخديعة من الإنجليز ، ورجع الجيش إلى العراق . فجيش العراق هم الّذينَ عناهم الله تعالى بقوله ( عباداً لنا أولي بأسٍ شديدٍ فجاسوا خلال الدّيارِ وكان وعداً مفعولاً ) أمّا قوله تعالى ( ثمّ رَدَدنا لكم الكرّةَ عليهم) فالخطاب لليَهود ، والمعنى : ثُمّ قوّيناكم على المسلمين ونصَرناكم عليهم ، وذلك بسبب تفرّق كلمتِهم وتركِهم للدِّين الحنيف وتقليدهم للأجانب والتزيّي بزيّهم لتكون هذه النّكسة تأديباً لَهم .
(وأمْدَدْناكم ) أيّها اليَهود (بأموالٍ وبنينَ وجَعَلناكم أكثرَ نفيراً) أي أكثر المسافرين إليكم من أبناء دينِكم من كلّ قطرٍ من أقطار الأرض ، ومِمّا يؤيّد هذا قوله تعالى في نفس السّورة ( وقُلنا مِن بَعدِهِ لِبني إسرائيلَ اسْكنوا الأرضَ فإذا جاءَ وَعدُ الآخرةِ جئنا بِكم لَفيفاً ) واللفيف هم جماعة على اختلاف بلادهم وأجناسِهم ولغاتِهم . وقد اجتمعوا في فلسطين من كلّ قطرٍ من أقطار الأرض وزادت سطوتُهم بسبب أمريكا وبريطانيا وكثرت أموالُهم بسبب التبرّعات الّتي تقدِّمُها لَهم ألمانيا الغربيّة وأمريكا وغيرهُما من الدول .
ثمّ أخذ سبحانه في نصحِهم وإرشادهم فقال (أحسنتم ) مع الناس (أحسنتم لأنفسِكم) لأنّكم بالإحسان تزرعون المودّة في قلوب الناس (وإنْ أسأتم ) مع الناس (فلَها ) إساءتُها ، لأنّ مَنْ يزرع الحنظل لا يجني إلاّ حنظلاً. وكانت الجولة الثانية من فسادهم وغدرهم بالإسلام [والمسلمين] سنة 1967 ميلاديّة إذ غدروا بالمسلمين وضربوا مصر والأردن وسوريا وقتلوا آلاف الأبرياء وشرّدوا النساء والأطفال . فكانت المدّة الزمنيّة بين الأولى والثانية عشرين سنة ، ثمّ قال الله تعالى (فإذا جاءَ وعدُ الآخرةِ ) أي المرّة الأخيرة (لِيَسوءوا ) المسلمون (وُجوهَكم ) أيّها اليَهود ، يعني ليخزوا رؤساءكم ويذلّوهم بالأسر والقتل . فالوجوه هم الرؤساء والقادة .
فالّذينَ جاسوا خلال الديار في أوّل مرّة هم الّذين يسوءون وجوه اليَهود في المرّة الأخيرة وهم الّذين سيُتبِّرون ما علَوا تتبيراً ( وليدخُلوا المسجدَ) منتصرين ، يعني المسجد الأقصى (كما دخلوهُ ) العراقيّون (أوّلَ مرّةٍ ) سنة 1948 ميلاديّة ، فكذلك في المرّة الأخيرة يخرجونكم منه ويُذلّونكم بالقتل والأسر .
وفي هذه الجملة تأكيد على أنّ الّذينَ جاسوا خلال الدّيار في الجولة الأولى هم الّذين يسوءون وجوه اليَهود في الجولة الأخيرة ، وهم العراقيّون بعون الله تعالى ( ولِيُتَبِّروا ما عَلَوا تتبيراً) من أملاك اليَهود ، والمعنى ليدمِّروا ما بنَوهُ اليَهود عالياً من أسوار ومرتفعات وما وطئته أقدام المسلمين من أرض اليَهود ومنازلِهم تدميراً .
تعقيب :هنا الاشارة قد تكون لسور الفصل العنصري الذي بناه الصهاينة والله اعلم
فالنصر يكون على أيدينا ـ نحن العراقيّين ـ في هذه المرّة بعون الله تعالى ، والشّاهد على ذلك قول الإمام علي (ع) ، وذلك ما جاء في كتاب ( من كنت مولاه)في صحيفة 293 من الجزء الثامن قال :
"وستأتي اليَهود من الغرب لإنشاء دولتِهم بفلسطين ، قال الناس : أين تكون العرب ؟ أجاب (ع) : آنذاك تكون مفكّكة العرى غير متكاتفة وغير مترادفة . ثمّ سئل : أيطول هذا البلاء ؟ قال : لا ، حتّى إذا أطلقت العربُ أعنّتَها ورجعت إليها عوازم أحلامِها ، عندئذٍ يُفتح على أيديهم فلسطين ، وستخرج العرب ظافرة وموحّدة وستأتي النّجدة من العراق كُتب على راياتِها القوّة *، وستشترك العرب والإسلام كافّة لتخلِّص فلسطين ، معركةٌ وأيّ معركة ، في جلِّ البحر تخوض الناّس في الدّماء ويمشي الجريح على القتيل ، وستفعل العرب ذلك ثلاثاً وفي الرابعة يعلم الله ما في نفوسِهم من الثبات والإيمان فيرفرف على رؤوسِهم النصر . ثمّ قال "وأيم الله سيُذبَحونَ ذبحَ النّعاج حتّى لا يبقى يَهودي في فلسطين . "
تعقيب: وقد تكون الثورات وما نشهده هذه الايام هي عوازم احلام العرب
[* لعلّها كلمة : الله أكبر المكتوبة على العلم العراقي –
ومِمّا يؤيّد هذا قول السيّد المسيح وذلك في إنجيل لوقا في الإصحاح الحادي والعشرين قال :
"ومتى رأيتم أورشليم محاطة بجيوشٍ فحينئذٍ اعلموا أنّه قد اقترب خرابُها ، حينئذٍ ليهرب الّذينَ في اليَهوديّة إلى الجبال ، والّذينَ في وسطِها فليفرّوا خارجاً ، وفي الكور فلا يدخلوها ، لأنّ هذه أيّام انتقامٍ ليتمّ كلّ ما هو مكتوبٌ ، وويلٌ للحبالى والمرضعات في تلك الأيّام لأنّه يكون ضيقٌ عظيم على الأرض وسخطٌ على هذا الشعب ، ويقعون بفم السيف ويُسبَونَ إلى جميع الأمم ، وتكون أورشليم مدوسةً من الأمم حتّى تكمل أزمنة الأمم ."
من كتاب الخلاف بين التوراة والقران