TODAY - 04 March, 2011
مبادئ تعليم القراءة!
يخشى ان تختفي من دائرة الاهتمام البشري

الكتاب: كيف نقرأ ولماذا؟ - المؤلف: هارولد بلوم - المترجم: نسيم مجلي - الناشر: المركز القومي للترجمة

على الرغم من أن الناقد الأميركي المعروف هارولد بلوم يقر بأن عدد القراء في العالم يتناقص باستمرار، أو أن عددا منهم بدأ يقرأ من الكومبيوتر، فإن كتابه هذا يتوجه إلى تلك البقية من القراء والقارئات، الذين ما زالوا راغبين، بوجه ما من الوجوه، بقراءة الكتاب الورقي. وإذا كانت القراءة أعظم المتع التي تتاح لنا في أوقات العزلة، فهي متعة شافية، أي أنها تصبح قادرة على التخفيف من مصاعب العزلة برد المرء إلى الاختلاف، سواء داخل ذاته، أو هؤلاء الذين يقرأ لهم، والاختلاف في رأي بلوم يمكن أن ينشئ الحوار الضروري للخروج من أي عزلة.
قبل أن نعرف لماذا نقرأ، يجب أن نتحرى كيف نقرأ؟ ثمة مجموعة من المبادئ الضرورية، والمبدأ الأول: «طهر نفسك من اللغو» وأما اللغو الذي يعنيه فهو الثقافة السائدة، وخاصة الثقافة الأكاديمية السائدة، التي تؤكد على العابر والمؤقت عديم القيمة من الناحية الإنسانية، أما المبدأ الثاني فهو التالي: لا تحاول إصلاح أمر جارك بما تقرأ أو كيف تقرأ. لماذا؟ لأن إصلاح الذات مشروع كبير بما يكفي لأن تشغل عقلك وروحك به. ثم لا تخش من أن تكون حريتك في القراءة معبرا للناس إلى النصوص التي تقرأها، فالناس وليست الكلية هم وطن الكاتب. لكن لا بد أن يكون الشخص مبتكرا، لكي يكون قارئا جيدا، وهذا هو المبدأ الرابع، فالقراءة الخلاقة تعني أن يتمكن القارئ من رؤية الفراغ داخل النص الأدبي، ولا يمكن أن يتوفر هذا إلا إذا امتلك الثقة بالنفس، فهي التي تجعله قادرا على استقبال النصوص بعيدا عن أي آيديولوجيا، فلكي تقرأ عواطف إنسانية بلغة إنسانية، لا بد أن تكون قادرا على أن تقرأ قراءة إنسانية. فمهما كانت معتقداتك، فأنت أكبر من أي آيديولوجيا، حيث إن الآيديولوجيا بشكلها الضحل، تعد عامل تدمير بالنسبة لقدرتنا على الفهم، وهنا يأتي دور المبدأ الخامس وهو التعرف إلى الحس الساخر لدى معظم الكتاب الكبار، لدى شكسبير كما لدى توماس مان، إن سخريات شكسبير مثلا، هي أكثر السخريات شمولية في الأدب الغربي، لكنها لا تحول بيننا وبين ما تعبر عنه من عواطف شخصياته. أخيرا يجب أن نقرأ كأننا نستطيع أن نعود أطفالا، فالطفل المغرم بالقراءة، إذا صادف ديفيد كوبرفيلد في رواية ديكنز، فإنه سيقرأ من أجل القصة والشخصيات، وليس من أجل التكفير عن الذنب، أو لإصلاح المؤسسات الفاسدة.
يأتي الآن السؤال: لماذا نقرأ؟ نحن نقرأ وهدفنا تقوية النفس، والتعرف على غاياتها العليا، وهذا جانب نفعي يترافق بالضرورة مع جانب جمالي، يضمن المتعة للقارئ، على أن متعة القراءة متعة ذاتية، وليست اجتماعية، فأنت لا تستطيع تغيير حياة الآخرين عن طريق القراءة الأفضل، ومن هنا يمكن الحديث عن محنة القراءة المهنية، كما يسمي بلوم القراءة ذات الطابع الأكاديمي، حيث يندر تعليم القراءة من أجل المتعة، ومن خلال ذلك يمكن للمرء أن يكتشف ما يمكن الانتفاع به في التفكير العميق وإمعان النظر، والذي يخاطبك كما لو كنت تشارك في طبيعة واحدة، بعيدا عن طغيان الزمن، وهنا فقط يمكن للقارئ أن يعثر على شكسبير وأن يدعه يعثر عليه.
يدعي هارولد بلوم أنه يريد، بل إنه يعلمنا كيف نقرأ، وذلك عبر حشد العشرات من الأمثلة والشواهد من الأدب العالمي، دون أن يعني ذلك أنه يحشر القارئ داخل قوائمه الخاصة. وهي قوائم تضم عددا من الروايات والقصص والقصائد والمسرحيات، على أن الروايات والقصص هي التي تأخذ الحيز الأكبر من كتابه، والسبب المعلن هو أن الروايات تحتاج إلى القراء أكثر من القصائد، ولهذا يجد أن مهامه تتجسد في التعريف والدعوة إلى قراءة الروايات، دون أن يخفي خشيته من أن تختفي الروايات من دائرة الاهتمام البشري، وهنا تكتسي لغته بنغمة رثائية حزينة، فإذا كان قدر على الروايات أن تختفي فعلا، فدعنا نكرم الروائيين لأجل قيمهم الروحية والجمالية. أما أعظم الروائيين الذين يمكن البدء بهم فهو ميغيل دي سرفانتس في «دون كيشوت» لماذا «دون كيشوت»؟ لأن هذه الرواية تركت تأثيرا لاحقا في التاريخ الأدبي اللاحق أكثر من أي رواية، إذ لا يمكن أن نتصور أيا من أعمال فيلدنغ أو سموليت أو ستيرن أو ستندال أو فلوبير أو هيرمان ملفيل أو مارك توين أو دستويفسكي أو تورجينيف أو توماس مان دون أن نلاحظ حضور هذه الرواية، فدون كيشوت يجسد الإحساس التراجيدي للحياة، وجنونه ما هو إلا اعتراض على حتمية الموت، وفي كل منا قدر من شخصية دون كيشوت، أو تابعه سانشو بانزا، وهناك جوانب في أنفسنا لن نعرفها، إلا بعد قراءة هذه الرواية. ولكن هل من الصحيح أن رواية «الجريمة والعقاب» لدستويفسكي هي أفضل الروايات البوليسية على مدى قرن ونصف؟ من الصعب أن يقبل القارئ الحصيف مثل هذا الرأي، بعد أن يقرأ هذه الرواية، فالمعالجة التي يقدمها دستويفسكي للحدث في روايته لا تأخذ من الرواية البوليسية سوى بعض العناصر الحكائية، ولعل إصرار الناقد الكبير هنا على هذا الاستنتاج، هو الذي يدفعه للقول فيما بعد إن دستويفسكي يتميز دائما في كتابة البدايات، ويكون مدهشا في تطوير الأجزاء الوسطى من رواياته، ولكنه ضعيف بصورة ملحوظة في وضع النهايات. وبالمقابل فإن شخصية إيزابيل آرتشر، بطلة رواية «صورة سيدة» لهنري جيمس، هي أعظم شخصية شكسبيرية في رواياته. وقد قال جيمس إن إيزابيل «وريث كل الأجيال» فهي تجذب الكثيرين منا إنها النموذج الأول لكل تلك الفتيات في الروايات، وفي واقع الحياة، اللاتي يستبد بهن الشوق. يجب أن نلاحظ هنا أن الناقد يقسم الشخصيات الروائية في التاريخ الأدبي بين سرفانتس وشكسبير، وبالمثل فإن الطريقة الأفضل لقراءة رواية مارسيل بروست «البحث عن الزمن المفقود» تبدأ من رؤية معاناة الشخصية للغيرة، إن أعظم المؤلفين الغربيين براعة في تجسيد الغيرة الجنسية هما شكسبير وبروست. كما أن هانز كاستورب بطل رواية «الجبل السحري» لتوماس مان يجسد لنا مثلا أعلى عن ثقافة التطور الذاتي، حيث يمكن للفرد أن يدرك إمكاناته. فالرغبة الجامحة لمواجهة الأفكار والشخصيات تتحد في هذه الشخصية، مع قدرة روحية هائلة.
الغريب أن هارولد بلوم ينكر أن يكون بوسع الكتاب المعاصرين تقديم ما يستحق أن يقرأ، بموازاة ما يقدمه كتاب الماضي، وهو أحد الآراء التي تشيع في كل زمان، ولهذا نراه يتجاهل الرواية المعاصرة في معظم أرجاء العالم، فلا يأتي على ذكر الرواية في أميركا اللاتينية، أو الرواية في اليابان، أو الرواية الأفريقية، ولا يشير بالطبع إلى الرواية العربية، ويكتفي بتقديم ست روايات أميركية، تبدأ من «موبي ديك» لهرمان ملفيل، وتنتهي إلى توني موريسون في «أنشودة سليمان» ينحو خلالها نحو التعميمات المطلقة التي تقول مثلا: لا أظن أن هناك إنجازا جماليا لكاتب من كتاب القرن العشرين يتفوق على رواية «عندما أرقد محتضرة» لوليم فوكنر.
مع ذلك يبقى الكتاب دعوة حارة للقراءة، توجه إلى كل واحد منا على انفراد، وبصوت هامس بعيد عن الضجيج والصخب.