إن المصطلحات الصوفية شأنها شأن أي مصطلحات دينية أو علمية أخرى خضعت لعملية نمو تاريخي مستمر تبعاً لتأثرها بالعوامل المختلفة وما تفرضه تلك العوامل من ابتعاد عن المعنى الأول للمصطلح واكتسابه لمعان جديدة وإسقاطه لمعان قديمة كانت جزءاً من معنى ومدلول المصطلح ، فمثلاً كان مصطلح ( التصوف ) على مستوى الحضارة العربية الإسلامية يدل كلفظ على الزهد ، ثم صار يدل على موقف استثنائي فردي في البيئة الدينية أو الروحية عامة ، ومن ثم اكتسب صفة موقف خاص في المعرفة والوجود ، وهكذا تدرج مفهوم هذا المصطلح عبر مراحل تطور التصوف ، واكتسب اللفظ في العصر الحديث معاني جديدة . وهكذا بقية المصطلحات الصوفية ، وفيما يلي نعرض أهم مراحل التطور والتغير التي مرت بها المصطلحات الصوفية من القرن الهجري الأول إلى عصرنا الحاضر :

المصطلحات الصوفية في القرن الهجري الأول
إن مفهوم علم التصوف من حيث الظهور أو الاصطلاح أو التدوين كان في بادئ الأمر بسيطاً جداً ، فلم يخرج عن حدود الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية الدالة على التوكل والتوبة والزهد والأخلاق العظيمة بما يحقق للمسلم الاستقامة في الحياة ويجعله كما أراد له الإسلام ، رجل الدنيا والآخرة . فقرب العهد بنـزول الوحي لم يفرض على المعاصرين لحضرة الرسول الأعظم وهم العترة المطهرة والصحابة الكرام البررة بأن يتخصصوا بجانب من جوانب العلم أو المعرفة الإسلامية ، ولهذا فقد كان كلامهم كله على شكل خطب ومواعظ وحكم وعبارات تشير إلى معان صوفية . فمثلاً قول الإمام علي بن ابي طالب : ( لا شرف أعلى من الإسلام ، ولا عز أعز من التقوى ، ولا معقل أحصن من الورع ، ولا شفيع أنجح من التوبة ، ولا كنـز أغنى من القناعة ، ولا مال أذهب للفاقة من الرضى بالقوت ) يشير إلى ما سيعرف فيما بعد في الاصطلاح ( بمقامات التقوى ، الورع ، التوبة ، القناعة ، الرضا ) وعلى هذا جميع أقوال ومواعظ ووصايا الصحابة ( رضوان الله عليهم ) بجملتها دالة على المعنى الصوفي دون أن تعطيه تحديداً اصطلاحياً إلا ما ندر .
ومثال ذلك قول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود : ( الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر ) فأشار في هذا النص إلى مفردات ستعتبر في العصور التالية من أمهات المصطلحات الصوفية وهي : الإيمان ، الصبر ، الشكر .
فالاصطلاح الصوفي في هذه المرحلة لم يكن مدوناً ولا مميزاً شأنه شأن اصطلاحات العلوم الإسلامية الأخرى بل كانت الآيات القرآنية والسنة المطهرة والوصايا والخطب والمواعظ كلها بمثابة البذور الأولى لجميع العلوم الإسلامية وعلى الأخص علم التصوف ومصطلحاته .

المصطلحات الصوفية في القرن الهجري الثاني
ظهر للمصطلحات الصوفية في هذا القرن وجود أكبر مما كان عليه في القرن
الأول ؛ وذلك لتطور الأحداث وتبدل الأمور على كافة المستويات الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتأثير ذلك كله على حياة المسلمين الظاهرية والروحية .
وخلاصة هذه المرحلة يوضحها المؤرخ ابن خلدون في ( مقدمته ) حيث يقول :
( لما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده ، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة ... فظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال والتروك والكلام في هذه الأذواق والمواجد التي تحصل عن المجاهدات ، ثم تستقر للمريد مقاماً ويترقى منها إلى غيرها . ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم ... ليس لواحد من أهل الشريعة الكلام فيه . وصار علم الشريعة على صنفين :
صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا ، وهي الأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات .
وصنف مخصوص بالقوم [ الصوفية ] في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها وكيفية الترقي منها من ذوق إلى ذوق وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك ) .
والمتحصل مما تقدم أن إقبال الخلق على الدنيا وإعراضهم عن الحق دفع أهل الله إلى مواجهة هذه الحالة بإظهار الزهد والورع والتقوى وغيرها من مقومات علم التصوف بشكل يختلف عما كان عليه الأمر في القرن الأول وكنتيجة لهذا الإقبال على هذا الجانب من الدين الإسلامي برزت جوانب من المصطلحات الصوفية بشكل أعمق مما كانت عليه في السابق ، كما وظهرت معها آثار صوفية جديدة أو أقوى مما كانت في العهد الأول كرد فعل يكافئ ظروف المجتمع الإسلامي التي تدنت آنذاك والتي أعرض فيها الناس عن مراقبة الله تعالى وخشـيته .
إن المصطلحات الصوفية في هذه المرحلة كانت تتناقل في عبارات يلقيها الواعظون والدعاة الصالحون فيحفظها الناس ويبلغونها أو يكتبونها ، والذي يتصفح التراث الأدبي يجد الكثير منها في أمـهات الكتب لتلك الفترة كما في كتاب ( البيان والتبيـين ) للجاحظ و ( الكامل ) للمبرد ، ومنهم من أفرد أبواباً خاصة لحكم الزهاد ومواقف الوعاظ واصطلاحاتهم الرفيعة .
والصبغة التي طلت مظهر المصطلحات في هذا القرن هي نفس الصبغة التي رأيناها تصبغ مصطلحات أهل الصفّة بشكل خاص والصحابة بشكل عام ، تلك هي أن القول أو العبارة أو الحكمة تعبر بجملتها عن مضمون ما سيعرف فيما بعد بالاصطلاح الصوفي ، فمثلاً الشيخ الحسن البصري وهو من أشهر شخصيات الصوفية التي تمثل روح أواخر القرن الأول وأوائل القرن الثاني للهجرة (ت 110 هـ) خير مثال على ذلك ، فمن أقواله : ( مثقال ذرة من الورع السالم خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة) ، فهو هنا يتحدث عما عرف فيما بعد بمصطلح ( الورع ) ، ومِثله الصوفي إبراهيم بن أدهم ( ت 161 هـ) والشيخ سفيان الثوري ( ت 161 هـ ) والشيخ داود الطائي (ت 165 هـ) و الفضيل بن عياض ( ت 187 هـ ) وشقيق البلخي ( 194 هـ ) وغيرهم .
فكانت أقوال صوفية هذا العصر من جنس وطبيعة أقوال العصر الأول ، إلا أنها تميزت عن العصر الأول بمميزات هي :
أولاً : أنها كانت أكثر بكثير من أقوال الصحابة الذين شغلوا أكثر ما شغلوا بحفظ القرآن الكريم والسنة المطهرة ، فلم تكن أقوال الصحابة فيما يتعلق بجوانب التصوف بمثل الكثرة في هذا العصر لاختلاف الظروف التي سبقت الإشارة إليها .
ثانياً : تميزت حكم ومواعظ أو مصطلحات هذا العصر بالتركيز على ثلاثة جوانب رئيسية تتناسب ومرحلتهم التي كانوا يعيشون فيها ، وهي :
أ . أقوال ومواعظ تدعو بشكل كبير إلى التوبة والاستغفار والرجوع إلى الله .
ب. أقوال تدعو إلى الخوف والرعب من أهوال يوم القيامة وعذاب النار.
ج. أقوال تدعو إلى الحب الإلهي وتعتبر السيدة رابعة العدوية ( ت 185 هـ ) على رأس الذين ساروا في هذا الطور حتى اشتهرت بـ ( شهيدة العشق الإلهي ) .
وهكذا تتضح صورة المصطلحات الصوفية في هذا العصر من حيث كيفيتها ونوعيتها وأسلوب طرحها ومرحلة تطورها نسبة للعصر الذي قبلها .
وقبل أن ننتقل إلى العصر الهجري الثالث نود أن ننوه إلى إننا نرى أن أقوال وحكم ومواعظ صوفية أي عصر من العصور تعتبر ( مصطلحات ) انطلاقاً من نظرتنا الشاملة لجملة القول الدال على المعنى الصوفي ، ونرى أنه يمكن للباحثين المتخصصين في مجال اصطلاحات العلوم أو المعارف أن يعتبروا هذا الشكل نوعاً من أنواع الاصطلاح .

المصطلحات الصوفية في القرن الهجري الثالث
لما تقادم العهد ونتيجة لكثير من الظروف والمتغيرات في العالم الإسلامي كازدياد إقبال الناس على الدنيا وزينتها وضعف التأثير الروحي شيئاً فشيئاً ودخول عناصر شتى من أجناس مختلفة في الإسلام وظهور حاجة المسلمين داخل الجزيرة العربية وخارجها لمعرفة حقوقهم وواجباتهم ، اتسعت دائرة العلوم الإسلامية وتقسمت وتوزعت بين أرباب الاختصاص ، حينها نهض العلماء بمهمة تدوين العلوم وتمييزها ووضع الأصول والقواعد الخاصة بكل علم منها واستنباط الأحكام والمصطلحات التي تناسب كل فن أو علم ، فظهر مثلاً في هذا القرن علم الحديث ، فقام المتخصصون به بجمع الأحاديث النبوية من الثقات ودونوها ، واصطلحوا لهذا العلم مصطلحات كثيرة معظمها لم يكن معروفاً في عصر التنـزيل ، وكذلك علم الفقه الذي قد نسقت أبوابه في الأحكام والعبادات والمعاملات ، وبنيت أحكامه على مصطلحات مستحدثة ، وعلى هذا بقية العلوم الشرعية كعلم التوحيد والأصول والتفسير والمنطق وغيرها …
ولما ظهر التأليف في مختلف العلوم سرى إلى ناحية التصوف فبدأ القوم يكتبون الكتب المبينة لمناهجهم وآراءهم والتي تكشف عن حقائق رموزهم واصطلاحاتهم لمريديهم وأتباعهم استكمالاً لحاجات الدين مما لابد منه لحصول البر والتقوى ، فكما أن هناك فقهاً للفروع فإن التصوف هو فقه للأصول ، وكما أن هذا الفقه فقه للجوارح فإن التصوف فـقه للقلوب ، ولا يمكن أن تكتمل الأصول إلا بالفروع ، كما لا يمكن أن تكتمل الفروع إلا بالأصول لذلك كانت حاجة المسلمين ماسة بعد القرن الثاني من الهجرة لعلم التصوف ، وكان لابد أن يجتمع الزهاد والعباد ليرتبوا هذا العلم ويدونوه ، محافظة على التراث الإسلامي ، يقول ابن خلدون : ( لما كُتِبت العلوم ودونت ، وألف الفقهاء في أصول الكلام والتفسير وغير ذلك ، كتب رجال من أهل هذه الطريقة في طريقتهم . فمنهم من كتب في الورع ومحاسبة النفس على الاقتداء في الأخذ والترك كما فعله المحاسبي في كتاب ( الرعاية ) ... ومنهم من كتب في آداب الطريقة وأذواق أهلها ومواجدهم في الأحوال ، وصار علم التصوف في الملة علماً مدوناً ، بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط وكانت أحكامها تتلقى من صدور الرجال كما وقع في سائر العلوم التي دونت في الكتاب من التفسير والحديث والفقه والأصول وغير ذلك )(5) .
وهنا لا نستطيع أن نجزم بالتحديد ظهور المؤلفات الصوفية الاصطلاحية الخاصة إلا أننا نستطيع القول إن من أوائل ما ظهر كتاب ( الرعاية لحقوق الله ) لأبي الحارث بن أسد المحاسبي ( ت 243 هـ ) الذي كان من علماء مشايخ القوم بعلوم الظاهر وعلوم الإشارات وكان أستاذ أكثر البغداديين وكتابه يعتـبر أول كتاب جامع لأبواب السلوك العملي في أسلوب علمي .
ولو تتبعنا المصطلحات الصوفية في هذا القرن لوجدنا أن تطوراً في غاية الأهمية قد طرأ عليها وذلك هو حدّ المصطلح الصوفي بشكل بيّن وواضح من حيث المقاييس
العلمية ، وذلك ناتج عن التطور الكبير الذي حصل لعلم التصوف نفسه في هذه المرحلة فقد ظهرت حالات صوفية جديدة كالاعتقاد بأن الزهد وترك الدنيا والعبادات بشكل عام ليست هي الهدف النهائي أو الغاية المقصودة من إيجاد الخلق بل إنها مقدمة لهدف أعلى ، وعلى أساسها ظهرت عقيدة عدم الاتكال على الطاعة بحد ذاتها لأنها من الممكن أن تكون نفسها حجاباً عن المعبود أحياناً . وظهر كذلك تعمق الاهتمام العظيم بالعشق والمحبة والقلب والذهول والهيام ، واعتبار كل شيء مظهراً للحق تعالى . إلى غير ذلك من العقائد والمفاهيم التي فتحت أبواب هذا العلم على مصراعيها ، فظهر نتيجة لكل ذلك اصطلاحات وتعابير خاصة غاية في الأهمية فقد قام سائر كبار صوفية هذا العهد مثل الشيخ ذو النون المصري ( ت 245 هـ ) والشيخ أبو يزيد البسطامي ( ت 261 هـ ) والشيخ سهل التستري ( ت 283 هـ ) و الشيخ الجنيد البغدادي ( ت 267 هـ ) والشيخ الحسين بن منصور الحلاج ( ت 309 هـ ) وغيرهم بالتعبير عن هذه الأفكار والعقائد بمصطلحات مختلفة مالوا جميعاً – قليلاً أو كثيراً – إلى الأخذ بعقيدة ما اصطلح على تسميته بـ( وحدة الشهود ) ولم يروا شيئاً سوى ذلك .
ولقد لفت هذا التغيير في الألفاظ والاصطلاحات والمنهج نظر الناس إلى أفكار الصوفية وأقوالهم وسلوكهم ولا سيما طبقة من المتفيقهين الذين عدّوا هذه الأقوال والمصطلحات خطراً على جماعة المسلمين .
ونتيجة لذلك بدأت بذور الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث المطهرة تزرع في أرض الفكر الصوفي ، فقد أقدم أفراد من كبار الصوفية بحكم الضرورة على التأليف ليدافعوا عن أنفسهم بسلاح القلم بعد أن كان علم التصوف في السابق وقفاً على القول المقرون بالعمل . فكان من ثمار تلك النهضة أن ظهرت أول موجة من المصطلحات الصوفية بشكل فني وعملي ، بمعنى أن المصطلح قد حد في هذا العصر بشكل بيّن وواضح من حيث المقاييس العلمية .
وكانت المصطلحات في بداية ظهورها على شكل رموز وإشارات ، وكان ذو النون المصري الذي هو رأس الصوفية كما يقول الجامي أول من استعمل رموز الصوفية فراراً من اعتراض المعترضين . والحاصل أن المصطلحات بالمعنى الحقيقي نشأت على يد أهل هذا القرن وتكوّن لها أساس قوي ، وقد جني ثمرها في العصور التالية .

المصطلحات الصوفية في القرن الهجري الرابع
إن هذا القرن يعتبر مكملاً للقرن الذي سبقه على كافة المستويات ، ومما لا شك فيه أن المصطلحات طرأ عليها تغييرات أخرى بمرور الزمن أكثرها يرجع إلى التعبيرات والرسوم والظواهر والأحوال والمقامات وأمثال ذلك .
ولكن يمكن اعتبار أن التوجه الصوفي في هذا العصر كان منصباً على تعاليم السير والسلوك وتعيين المقامات التي يجب أن يسلكها السالك وقوانينها وأصولها ، مع مراعاة أصول الشرع ، وإسنادها إلى القرآن الكريم والسنة المطهرة ، فكان توجهاً يكشف الجانب الشرعي للتصوف من خلال شرح الاصطلاحات وكشف خفايا الرموز والتعابير الخاصة ليطلع على مضمونها العام والخاص ، وكان ذلك بفضل رجال مثل الشيخ السراج الطوسي الذي صنف كتابه ( اللمع في التصوف ) والذي يمكن أن يعتبر أول معجم في الاصطلاح الصوفي من حيث جمع الاصطلاحات وكشف معناها ، حيث اعتبر المصطلحات الصوفية من علم الدراية بيـنما ( الفقه ) من علم الرواية وكلاهما يرجع إلى أصل واحد وهـو الشريعة الإسلامية . يقول الشيخ : ( إن علم الشريعة هو علم واحد ، وهو اسم واحد يجمع معنيين ، الرواية والدراية ، فإذا جمعتـهما فهو علم الشريعة الداعـية إلى الأعمال الظاهرة والباطنة ) .
ويوضح الشيخ الفرق بين الأعمال الظاهرة والباطنة ومتعلق كل منهما فيقول : ( الأعمال الظاهرة كأعمال الجوارح الظاهرة وهي العبادات والأحكام ... وأما الأعمال الباطنة كأعمال القلوب وهي المقامات والأحوال مثل التصديق والإيمان واليقين والصدق والإخلاص والمعرفة ) .
ويضيف الشيخ قائلاً : ( ولكل عمل من هذه الأعمال الظاهرة والباطنة علم وفقه وبيان وفهم وحقيقة ووجد ... فالعلم ظاهر وباطن والقرآن ظاهر وباطن وحديث رسول لله ظاهر وباطن ، والإسلام ظاهر وباطن ، ولأصحابنا في معـنى ذلك استدلالات واحتجاجات مـن الكتاب والسنة والعقل ) .
ولقد بين الشيخ السراج الطوسي في كتابه المذكور أن للصوفية في مصطلحاتهم مستنبطات وإشارات تخفى في العبارة من دقتها ولطافتها ، ومن ذلك معانيهم في المقامات والأحوال والمعارف وحقائق الأذكار ودرجات القرب وتجريد التوحيد ومنازل التفريد وحقائق العبودية والعوارض والعوائق والعلائق والحجب وخبايا السر ومحو الكون بالأزل وتلاشي المحدث إذا قورن بالقديم وفناء رؤية الأعواض وبقاء رؤية المعطي بفناء رؤية العطاء وإلى ما لا يمكن حصره من علومهم ومستنبطاتهم التي كمنت في مصطلحاتهم . فالصوفية عند الشيخ مخصوصون بحل هذه العقدة والوقوف على المشكل من ذلك والممارسة لها بالمنازلة والمباشرة والهجوم عليها ببذل المهج حتى يخبروا عن طعمها وذوقها ونقصانها وزيادتها ويتكلمون فيها وفي دلائلها وذلك مما يصعب على أحد أن يذكر قليله فضلاً عن كثيره ، وجميع ذلك موجود علمه في كتاب الله عز وجل والسنة المطهرة ، ولا ينكره العلماء إذا استبحثوا عن ذلك .
ومن رجال التدوين في هذا العصر الشيخ أبو بكر محمد الكلاباذي (ت 380 هـ) والذي صنف كتاباً ضم بين طياته كماً كبيراً من الاصطلاحات الصوفية وهو كتاب
( التعرف لمذهب أهل التصوف ) فقام بشرح المذهب الصوفي بناءاً على هذه المصطلحات .
وكذلك فعل الشيخ أبو طالب المكي ( ت 386 هـ ) في كتابه ( قوت القلوب ) حيث حشد فيه من المصطلحات والعلوم ما جعله موسوعة علمية فياضة في مجاله .
ولو كنا بصدد الاستيعاب لأطلنا الحديث مسلسلاً عمن عاصر هؤلاء الأفذاذ ، وما ألف وكتب في هذا المجال ، ولكن الذي يهمنا هو أن التصوف في هذا العهد أعطى التفكر والتدبر وإمعان النظر أهمية كبيرة أكثر من القيام بالرياضات الشاقة التي عهدت عند صوفية القرن الثاني وقسم من صوفية القرن الثالث الذين تحققوا بأن العبادة والطاعة والزهد وترك الدنيا إنما هو وسيلة لا غاية ، وهو مقدمة لبلوغ هدف أسمى وهو الوصول إلى الله تعالى بغض الطرف عن الدنيا والآخرة وعن النفس .
والخلاصة : إن الناحية النظرية للتصوف صارت أكثر أهمية في هذا العصر مما جعل المصطلحات الصوفية أكثر شيوعاً من ذي قبل لبسطها وتوضيحها وإرجاعها إلى أصولها من الكتاب والسنة المطهرة .

المصطلحات الصوفية في القرن الهجري الخامس
ظهر في أواخر القرن الرابع وبداية القرن الخامس الإمام أبو القاسم القشيري
( 376 – 465 هـ ) وهو من أئمة المسلمين في علوم الدين واللغة والتصوف ، فكان أن وضع رسالة مهمة في التصوف والتي تكلم فيها بإسهاب عن المصطلحات الصوفية وعن سبب تدوينها فقال : ( اعلم أن من المعلوم أن كل طائفة من العلماء لهم ألفاظ يستعملونها انفردوا بها عمن سواهم ، تواطئوا عليها لأغراض لهم فيها من تقريب الفهم على المخاطبين بها أو تسهيل على أهل تلك الصنعة في الوقوف على معانيهم بإطلاقها ، وهذه الطائفة [ الصوفية ] مستعملون ألفاظاً فيما بينهم قصدوا بها الكشف عن معانيهم لأنفسهم والإجماع والستر على من باينهم في طريقتهم لتكون معاني ألفاظهم مستبهمة على الأجانب غيرة منهم على أسرارهم أن تشيع في غير أهلها ، إذ ليست حقائقهم مجموعة بنوع تكليف أو مجلوبة بضرب تصرف ، بل هي معان أودعها الله تعالى قلوب قوم واستخلص لحقائقها أسرار قوم ، ونحن نريد بشرح هذه الألفاظ تسهيل الفهم على من يريد الوقوف على معانيهم من سالكي طرقهم ومتبعي سنتهم ) .
والملاحظ على صوفية هذا العصر أنهم تقريباً لم يضيفوا شيئاً للتصوف من حيث الاصطلاح بل انصبت جهودهم على إكمال ما بدئ في السابق من جمع المصطلحات وشرحها وذكر أصولها من الكتاب والسنة ، ويمكن أن يضاف إلى هذا المجهود ما قام به الإمام الغزالي في نهاية القرن من تمييز للاصطلاح الصوفي عن مصطلحات علمي الكلام والفلسفة اللذين شاعا في تلك المرحلة ، وما عدا ذلك فلا نجد للمصطلحات الصوفية في هذه المرحلة تطوراً ملحوظاً ، والذي يطالع كتاب ( إحياء علوم الدين ) للغزالي مثلاً يجد أنه لم يذكر تقريباً أي مصطلح من مصطلحات القرن الثالث ، بل هو يركز على مصطلحات القرن الأول والثاني في دعوة منه للتمسك بالجذر الأول لهذا العلم المبارك . ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى كتاب ( منازل السائرين إلى الحق ) الذي صنفه الشيخ إسماعيل الأنصاري الهروي ( ت 481 هـ ) والذي جمع فيه على اقل تقدير ثلاثمائة مصطلح صوفي تمثل منازل المريد إلى الحق تعالى .

المصطلحات الصوفية في الفترة من القرن السادس إلى عصرنا الحالي
يعد الشيخ عبد القادر الكيلاني الحد الفاصل بين مرحلتين كبيرتين في عالم الاصطلاح الصوفي فقد جمع في مواعظه وخطبه وأقواله وأشعاره ومقالاته كل ما سبقه إليه من المتقدمين كما تضمن نتاجه ذاك إشارات ورموزاً تعد مفاتيح لما عرف فيما بعد بالاصطلاح الصوفي الفلسفي ، فقد ظهر في عالم التصوف الإسلامي خلال هذه القرون لون آخر من ألوان الاصطلاح الصوفي لم يعرف بعده أوسع وأشمل وأعمق منه ، وهو ما يحلو للبعض أن يسميه ( الاصطلاح الفلسفي ) أو على أحسن تقدير ( الاصطلاح الصوفي الفلسفي ) بسبب أنه يجمع بين الذوق والمنطق العقلي ونسميه نحن ( بالاصطلاح التحقيقي ) نسبة للكلام عن حقائق لا يعرفها إلا المتحقق بمرتبة حقيقة اليقين بعد قطعه لمراتب اليقين الثلاثة : علم اليقين وعينه وحقه .
إن هذا النوع من الاصطلاح تحدث عن المباحث والمسائل التي تتعلق بالمعرفة الكلية والوجود الكلي على اختلاف مراتبه ، فضم بين طياته الكلام عن :
- الله تعالى والحقيقة الإلهية .
- الحقيقة المحمدية والنور المحمدي .
- العالم ومراتب الوجود .
- الإنسان الكامل .
وغيرها من المباحث التي تخص حقائق ما عرف ( بوحدة الوجود ) على المفهوم الصوفي السليم لا المفهوم المغرض السقيم الذي ألصق بهذه المصطلحات وأصحابها عبر القرون .
ولقد ظهر هذا النوع من الاصطلاح على أيدي مشايخ كبار في مجالهم التحقيقي نخص بالذكر منهم:
في القرن السادس :
الشيخ الأكبر ابن عربي ( 560 – 638 ) هـ .
الشيخ السهروردي المقتول ( ت 586 ) هـ .
في القرن السابع :
الشيخ نجم الدين الكبرى ( ت 624 ) هـ .
الشيخ صدر الدين القونوي ( ت 673 ) هـ .
الشيخ عبد الحق ابن سبعين ( 614 – 667 ) .
في القرن الثامن :
الشيخ عبد الرزاق القاشاني ( ت 730 ) هـ .
في القرن التاسع :
الشيخ عبد الكريم الجيلي ( ت 832 ) هـ .
ومن خلال هؤلاء الشيوخ أصبح لدى الصوفية ثروة هائلة وكم لا يكاد يحصر من المصطلحات والألفاظ والمفاهيم الصوفية ، ولقد دونت معظم هذه الثروة مما جعلها صعبة الحصر على كل الباحثين والدارسين والمستشرقين الذين حاولوا أن يتتبعوها بالكشف والتوضيح ويكفي القارئ الكريم أن يطلع على مصادر هذه الفترة في هذه الموسوعة ليتحقق من ذلك .
وإلى نهاية هذه المرحلة يمكننا القول أن لغة دينية تكاملت في الظهور هي ( اللغة الصوفية الإسلامية ) ولكن هذه اللغة واجهت خلال القرون المتتالية عدة مشاكل ، خاصة بعد قيام المغرضين والمستشرقين بعدة حملات لتشويه مفردات هذه اللغة وتأويلها وصرفها عن مقاصدها الإسلامية الحقة ، ولهذا ولأسباب أُخرى أخذت هذه اللغة بالاختفاء تدريجياً ، وما هذا المصنف إلا محاولة لإحياء هذه اللغة وتجديد بنائها .