أبوها
أجلّ ولْد الإمام الصادق عليه السّلام قدراً، وأعظمهم محلاًّ وأبعدهم في الناس صيتاً؛ لم يُرَ في زمانه أسخى منه ولا أكرم نفساً وعِشرة؛ وكان أعبد أهل زمانه وأورعهم وأجلّهم وأفقههم.
كنيته أبو الحسن، وهو أبو الحسن الأوّل، ويُعرف بالعبد الصالح، والكاظم . وقد نصّ على إمامته الإمام الصادق عليه السّلام في حياته، وأوصى شيعته به من بعده.
ولد بالأبواء (موضع بين مكّة والمدينة) يوم الأحد السابع من شهر صفر سنة 124هـ، فأولَمَ الصادق عليه السّلام بعد ولادته وأطعم الناس ثلاثاً.
وقبض ببغداد شهيداً بالسمّ في حبس الرشيد، على يد السِّندي بن شاهك يوم الجمعة لخمس بقين من رجب سنة 183هـ على المشهور، وعمره يومذاك 55 سنة. قام منها مع أبيه 20 سنة، وبعد أبيه 35 سنة، وهي مدّة خلافته وإمامته.
عاصر الإمام الكاظم عليه السّلام قسماً من حكم المنصور، ثمّ ابنه محمّد المهديّ ـ وقد حكم عشر سنين وشهراً وأيّاماً، ثمّ مُلك موسى الهادي فحكم سنة و15 يوماً، ثمّ ملك هارون الرشيد بن محمّد المهديّ.
واستشهد الكاظم عليه السّلام بعد مضيّ 15 سنة من مُلك هارون، ودُفن ببغداد في الجانب الغربيّ، في المقبرة المعروفة بمقابر قريش (مدينة الكاظميّة الحاليّاً)، فصار يُعرف بعد شهادته بـ «باب الحوائج».
أمّها
أمّ ولد يُقال لها سَكَن النُّوبيّة، وقيل: نجمة؛ وكُنيتها أمّ البنين؛ سُمّيت بالطاهرة بعد ولادة الإمام الرضا عليه السّلام؛ فالسيّدة المعصومة أخت الرضا عليه السّلام لأمّه وأبيه .
ولادتها ونشأتها
وُلدت السيّدة المعصومة في المدينة المنورة، وترعرت في بيت الإمام الكاظم عليه السّلام،
فورثت عنه من نور أهل البيت وهديهم وعلومهم في العقيدة والعبادة والعفّة والعلم، وعُرفت على ألسنة الخواصّ بأنّها كريمة أهل البيت عليهم السّلام.
نشأت السيّدة فاطمة تحت رعاية أخيها الإمام الرضا عليه السّلام، لأنّ الرشيد العبّاسي أمر أبيها عام ولادتها، فأودعه سجونه الرهيبة الواحد تلو الآخر، إلى أن اغتاله بالسمّ عام 183هـ، فعاشت السيّدة المعصومة مع إخوتها وأخواتها في كنف الإمام الرضا عليه السّلام. وقد أجمع أصحاب السير والتراجم على أنّ أولاد الإمام الكاظم عليه السّلام كانوا أعلاماً لائحة في العبادة والتقوى والنُّسك.
أخوها الإمام الرضا عليه السّلام
خلّف الإمام الكاظم عليه السّلام بعد استشهاده أولاداً كثيرين ذاعت فضائلهم ومناقبهم في الخافقين، وكان الإمام الرضا عليه السّلام مشهوراً بالتقدّم ونباهة القدر وعظم الشأن وجلالة المقام بين الخاصّ والعامّ.
سُمّي عليه السّلام بالرضا لأنّه كان رضى لله عزّوجلّ في سمائه، ورضى لرسوله والأئمّة عليهم السّلام بعده في أرضه. وقيل: لأنّه رضي به المخالفون من أعدائه، كما رضي به الموافقون من أوليائه.
الظروف الاجتماعيّة والسياسيّة
ولدت السيّدة المعصومة في عهد الرشيد العبّاسيّ، ففتحت عينيها منذ صغرها على وضع سلطوي إرهابيّ؛ فلقد قامت أركان الدولة العبّاسيّة على أنقاض الدولة الأمويّة، وتستّر العبّاسيّون وراء شعار رفعوه في بداية أمرهم هو «الرضا من آل محمّد» ليوهموا طائفة من المسلمين الموالين لأهل البيت عليهم السّلام، لكنّهم ما إن تسنّموا سدة الحكم واستتبّت لهم الأمور حتّى قلبوا لأهل البيت ظهر المجنّ، وامتدّت أيديهم بالقتل والبطش والقمع لكلّ من يمتّ لهذه الدوحة العلويّة الشريفة بصلة، فلاحقوا أئمّة أهل البيت عليهم السّلام وقتلوهم وسجنوهم.
نماذج من جنايات العبّاسيين
نقلت كتب التواريخ والسير نماذج مروّعة من قصص الطالبيّين الذين قُتلوا على أيدي العبّاسيين أيّام الحكم العباسيّ عامّة، وأيّام حكم الرشيد خاصّة.
منهم: يحيى بن عبدالله بن الحسن المثنّى الذي وُصف بأنّه كانت تُعرف سلالة الأنبياء في وجهه، وذُكر أنّ الرشيد أعطاه أماناً مؤكّداً مغلّظاً لا حيلة فيه، حتّى إذا تمكّن منه نقض أمانه وخرّقه، ثمّ سمّ يحيى وقتله، وقيل أنّه بنى عليه أسطوانة وهو حيّ .
ومنهم: إدريس بن عبدالله بن الحسن، وعبدالله بن الحسن بن عليّ بن الحسين، ومحمّد بن يحيى بن عبدالله بن الحسن المثنّى، والحسين بن عبدالله بن إسماعيل بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، وسواهم كثير .
وأتمّ الرشيد طغيانه وظلمه بقتله سليل النبوّة، حليف التقى، أعبَد أهل زمانه وأعلمهم وأكرمهم: الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام.
اغتيال الإمام الكاظم عليه السّلام
قالوا: لمّا دخل هارون المدينة زار النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: السّلام عليك يا رسول الله، السّلام عليك يا ابن عمّ ـ مفتخراً بذلك على غيره ـ فتقدّم أبو الحسن (الكاظم) عليه السّلام وقال: السّلام يا رسول الله، السّلام عليك يا أبه! فتغيّر وجه الرشيد وتبيّن فيه الغضب.
ونقل المؤرّخون أنّ الرشيد سجن الإمام الكاظم عليه السّلام وقيّده، ثمّ استدعى قُبّتَين فجعله في إحداهما، وأرسل إحدى القُبّتَين على طريق الكوفة، والأخرى ـ وفيها الإمام ـ على طريق البصرة، ليعمّي على الناس خَبَره ، فسّلمه إلى عيسى بن جعفر بن المنصور وكتب إليه في اغتياله، فاستعفى عيسى منه، فوجّه الرشيد مَن تسلّمه منه بعد سنة، وصيّره إلى بغداد فسلّمه إلى الفضل بن الربيع. ثمّ أراد الرشيدُ الفضلَ على شيء من أمر الكاظم عليه السّلام فأبى، فأمر بتسليمه إلى الفضل بن يحيى، ثمّ إلى السِّنديّ بن شاهك، حتّى سمّه في طعام قدّمه إليه.
عهد المأمون العبّاسيّ
ثمّ عاصرت السيّدة المعصومة بعضاً من عهد المأمون العبّاسيّ الذي عُرف بالدهاء؛ وكان قد خطّط لإخماد ثورات الطالبيين بالحيلة والمكر، فتوسّل من جديد بشعار(الرضا من آل محمّد عليهم السّلام)، إلاّ أنّه قدّمه في صيغة جديدة هي إسناده ولاية العهد إلى الإمام الرضا عليه السّلام، وهو الذي أقرّ له المخالف والمؤالف بالفضل والعلم والتقدّم، فاستدعاه من المدينة المرّة تلو الاُخرى، حتّى وجّه إليه مَن حمله وجماعة من آل أبي طالب من المدينة إلى خراسان، ثمّ بعث إليه الفضلَ بنَ سهل وأخاه الحسن ليعرضا عليه تقلّد ولاية العهد فأبى، فلم يزالا به وهو يأبى، إلى أن قال له أحدهما: والله، أمرَني (المأمون) بضرب عُنقك إذا خالفتَ ما يريد.
المأمون وولاية العهد
كان الإمام الرضا عليه السّلام يعرف تماماً تدبير المأمون، وأنّه لمّا أُكره على قبول ولاية العهد، رفع يديه إلى السماء فقال: اللهمّ إنّك تعلم أنّي مُكرَه مُضطرّ، فلا تؤاخذني كما لم تؤاخذ نبيَّك يوسُف حين دُفع إلى ولاية مصر.
ولمّا استتبّ الأمر للمأمون، تنكّر للرضا عليه السّلام، فداف له السمّ في عصير رُمّان، وفي عنب كان يغمس فيه السلك المسموم ويُجريه بالخياط في العنب ليخفى، وذُكر أنّ ذلك من دقيق السموم.
ولمّا استُشهد الإمام الرضا عليه السّلام لم يُظهر المأمون وفاته في وقته، وتركه يوماً وليلة، ثمّ وجّه إلى جماعة من آل أبي طالب، فأراهم إيّاه صحيح الجسد، وأظهر جزعاً شديداً.
السيّدة المعصومة ترحل طلباً لأخيها عليهما السّلام
اكتنفت السيّدةَ المعصومة عليها السّلام ـ ومعها آل أبي طالب ـ حالةٌ من القلق الشديد على مصير الإمام الرضا عليه السّلام منذ أن استقدمه المأمون إلى خراسان. لقد كانوا في خوف بعدما أخبرهم أخوها أبو الحسن الرضا عليه السّلام أنّه سيُستشهد في سفره هذا إلى طوس خاصّة وأنّ القلوب الكليمة ما تزال تَدمى لمصابهم بالكاظم عليه السّلام الذي استُقدم إلى عاصمة الحكم بغداد، فلم يخرج من سجونها وطواميرها إلاّ قتيلاً مسموماً. كلّ هذا يدلّنا على طرف ممّا كان يعتمل في قلب السيّدة المعصومة عليها السّلام، ممّا حدا بها ـ حسب رواية الحسن بن محمّد القمّي في تاريخ قم ـ إلى شدّ الرحال، لتتحسّس عن أخيها الإمام.
وهكذا رحلت تقتفي أثر أخيها الرضا عليه السّلام، والأمل يحدوها في لقائه حيّاً، لكنّ وعثاء السفر ومتاعبه اللذينِ لم تعهدهما كريمة أهل البيت أقعداها عن السير، فلزمت فراشها مريضة مُدنَفة، ثمّ سألت عن المسافة التي تفصلها عن قم ـ وكانت آنذاك قد نزلت في مدينة ساوة ـ فقيل لها إنّها تبعد عشرة فراسخ، فأمرت بإيصالها إلى مدينة قم، فحمُلت إليها على حالتها تلك، وحطّت رحالها في منزل موسى بن خزرج بن سعد الأشعريّ، حتّى توفيّت سلام الله عليها بعد سبعة عشر يوماً.
وفي أصحّ الروايات أن خبرها لمّا وصل إلى مدينة قم، استقبلها أشراف قم، وتقدّمهم موسى بن خزرج، فلمّا وصل إليها أخذ بزمام ناقتها وقادها إلى منزله، وكانت في داره حتّى تُوفيّت... فأمرهم بتغسيلها وتكفينها، وصلّى عليها، ودفنها في أرض كانت له، وهي الآن روضتها، وبنى عليها سقيفة من البَواري، إلى أن بَنَت زينب بنت محمّد الجواد عليه السّلام عليها قبّة .
هل استشهدت المعصومة بالسمّ ؟
ذكر بعض المصادر أنّ المأمون لمّا بلغته أخبار القافلة التي تحرّكت من المدينة إلى خراسان، وفيها اثنان وعشرون علَويّاً، وعلى رأسها السيّدة فاطمة بنت موسى عليها السّلام، وأنّ عدد أفراد القافلة يتعاظم كلّما تقدّمت في مسيرها، أوعز بالتصدّي لها، فتصدّى لها جماعة من جلاوزة النظام، وقتلوا وشرّدوا كلّ من كان فيها. وقيل إنّ السمّ دُسّ بعد ذلك إلى السيّدة المعصومة في مدينة ساوة، فلم تلبث إلاّ أيّاماً قليلة حتّى فارقت الحياة.
دفن السيّدة المعصومة
روى الحسن بن عليّ القمّي أنّ فاطمة (المعصومة) رضي الله عنها لمّا توفيّت وغُسلّت وكُفّنت، حُملت إلى مقبرة (بابلان) ووضعت على حافّة سرداب حُفر لها، فاختلف آل سعد في مَن يُنزلها إلى السرداب، ثمّ اتّفقوا على أن يتولّى ذلك خادم لهم صالح كبير السنّ، فلمّا بعثوا إليه رأوا راكبَين مُقبلَين من جانب الرملة وعليهما لِثام، فلمّا قَرُبا من الجنازة نزلا وصَلّيا عليها، ثمّ نزلا السرداب وأنزلا الجنازة ودفناها فيه، ثمّ خرجا ولم يُكلّما أحداً، وركبا وذهبا ولم يدرِ أحد مَن هما.
عمر السيّدة فاطمة المعصومة
لم تتوفّر مصادر تاريخيّة موثّقة تحدّد سنة ولادة السيّدة فاطمة المعصومة عليها السّلام، وقد ذكر البعض أنّها وُلدت سنة 173 هجريّة، فيما ذكر آخرون أنّ ولادتها كانت سنة 183هـ، وهو قول فيه نظر؛ لأنّنا نعلم أنّ الإمام الكاظم عليه السّلام استُشهد سنة 183هـ، ونعلم كذلك أنّه استُدعي قبلَ ذلك مِن قِبل الرشيد فأُرسل إلى البصرة فحُبس فيها سنة، ثمّ نقل إلى بغداد فحبس فيها ثلاث سنين، حتّى استشهد.
وإذا أخذنا بالقول أنّ السيّدة قد ولدت سنة 173هـ، فإنّ عمرها الشريف سيكون عند وفاتها سنة 201هـ في حدود 28 عاماً. بَيْد أنّ المعصومة عليها السّلام ـ على أيّة حال ـ لا تتأخّر عن سنة 179هـ وهي سنة اعتقال والدها الكاظم عليه السّلام، فيكون عمرها الشريف 22 سنة في أقلّ التقديرات.
وصيّة الإمام الكاظم وصدقته
جعل الإمام الكاظم عليه السّلام ـ في وصيّته ـ أمر تزويج بناته بيد ولده الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام دون بَنيه الآخرين، وأنّه ـ وهو الأعرف بمناكح قومه ـ إن شاء تزويج أخواته من الأكفاء فعل، وإن أراد أن يترك تزويجهنّ ـ لعدم وجود الأكفاء، أو لوجود ظروف قاهرة ـ ترك. كما نلاحظ أنّ الإمام الكاظم عليه السّلام تصدّق بأرض ـ حدّدها بحدودها ـ على أولاده وبناته ما دُمنَ لم يتزوّجن ولم يكن لهنّ معيل، فإن عادت إحداهن، بعد زواجها، ـ كأنْ يُتوفّى زوجها ـ عاد إليها سهمها من الصدقة، وأضحى شأنها شأن من لم تتزوّج من أخواتها.
حول زواج السيّدة المعصومة
إنّ نظرة فاحصة إلى مُجمل الأوضاع العصيبة التي عاصرتها السيّدة المعصومة عليها السّلام، والضغط الشديد والارهاب اللذين تعرض لهما العلويّون والطالبيّون في عهد الرشيد، انتهاءً بالاعتقال والقتل الفجيع الذي تعرّض له كبيرهم الإمام الكاظم عليه السّلام.. يجعلنا ندرك سبب عدم زواج السيدة المعصومة وأغلب بنات الإمام الكاظم عليه السّلام.
ولقد كان العلويّون والطالبيّون مُلاحَقين مُشرّدين، يلاحقهم جلاوزة الرشيد أينما حَلُّوا. أما الأكفاء من الآخرين، فالظاهر أنّ أحداً منهم لم يجرؤ ـ وقد عرف عداء الرشيد للكاظم عليه السّلام ـ على التعرّض لسخط هارون من خلال مصاهرته للإمام الكاظم عليه السّلام، كما ندرك الحكمة التي جعلت الإمام الكاظم عليه السّلام ـ وهو العارف بهذا الظرف العصيب ـ يخصّص أرضاً معيّنة لتُوزّع عائداتها على بناته إن فقدن المُعيل الذي يُعيلهنّ.
ويبقى أمر عدم زواج السيّدة المعصومة، وأغلب أخواتها الأخريات من بنات الإمام الكاظم عليه السّلام أحد الشواهد على الظلم والإرهاب اللذين تعرّض لهما أهل البيت عليهم السّلام في زمن العبّاسيين عامّة، وفي عصر الرشيد على وجه الخصوص.
روايات السيّدة فاطمة المعصومة عليها السّلام
• روى الحافظ شمس الدين الجَزري الشافعي المتوفّى سنة 833هـ، في كتابه (أسنى المطالب)، بإسناده عن بكر بن أحمد القصريّ، قال: حدّثتنا فاطمة بنت عليّ بن موسى الرضا، حدّثتني فاطمة وزينب وأم كلثوم بنات موسى بن جعفر، قلن: حدّثتنا فاطمة بنت جعفر بن محمّد الصادق، حدّثتني فاطمة بنت محمّد بن عليّ، حدّثتني فاطمة بنت عليّ بن الحسين، حدّثتني فاطمة وسكينة ابنتا الحسين بن عليّ، عن أمّ كلثوم بنت فاطمة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ورضي عنها، قالت:
أنَسِيتُم قولَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يومَ غدير خُمّ: «مَن كنتُ مَولاهُ فعليٌّ مَولاه»، وقولَه صلّى الله عليه وآله وسلّم «أنتَ منّي بمنزلةِ هارونَ من موسى» ؟!
وهكذا أخرجه الحافظ أبو موسى المدائني في كتابه، وقال: وهذا الحديث مُسَلسَل مِن وجهٍ آخر، وهو أنّ كلّ واحدة من الفواطم تروي عن عمّة لها، فهو رواية خمس بنات أخ، كلّ واحدة منهنّ تروي عن عمّتها.
• وروى المجلسي عن جعفر بن أحمد بن عليّ القمّي في كتاب (المسلسلات)، بإسناده عن بكر بن أحنَف، قال: حدّثتنا فاطمة بنت عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام، قالت: حدّثتني فاطمة وزينب وأمّ كلثوم بنات موسى بن جعفر عليهم السّلام، قلن: حدّثتنا فاطمة بنت جعفر بن محمّد عليهما السّلام، قالت: حدّثتني فاطمة بنت محمّد بن عليّ عليهما السّلام، قالت: حدّثتني فاطمة بنت عليّ بن الحسين عليهما السّلام، قالت: حدّثتني فاطمة وسكينة ابنتا الحسين بن عليّ عليهما السّلام، عن أمّ كلثوم بنت عليّ عليه السّلام، عن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قالت: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: لمّا أُسريَ بي إلى السماء دخلتُ الجنّة فإذا أنا بقصرٍ من دُرّةٍ بيضاءَ مُجوَّفة، وعليها باب مُكلَّل بالدرّ والياقوت، وعلى الباب سِتر؛ فرفعتُ رأسي فإذا مكتوبٌ على الباب: «لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، عليّ وليّ القوم»، وإذا مكتوب على السِّتر: «بخٍّ بخّ! مَن مِثلُ شيعةِ عليّ ؟!».
فدخلتُه فإذا أنا بقصرٍ من عقيقٍ مُجوّف، وعليه باب من فضّة مكلّل بالزبرجَد الأخضر، وإذا على الباب ستر، فرفعت رأسي فإذا مكتوب على الباب: «محمّد رسول الله، عليّ وصيّ المصطفى»، وإذا على الستر مكتوب: «بَشِّرْ شيعة عليّ بطِيب المولد».
فدخلتُه فإذا أنا بقصر من زُمرُّد أخضر مُجوّف لم أرَ أحسنَ منه، وعليه باب من ياقوته حمراء مُكلّلة باللؤلؤة، وعلى الباب ستر، فرفعتُ رأسي فإذا مكتوب على الستر: «شيعةُ عليٍّ هُمُ الفائزون»، فقلتُ: حبيبي جبرئيل، لمن هذا ؟ فقال: يا محمّد، لابن عمّك ووصيّك عليّ بن أبي طالب؛ يُحشَر الناس كلّهم يوم القيامة حُفاةً عُراة إلاّ شيعة عليّ؛ ويُدعى الناس بأسماء أمّهاتهم ما خلا شيعة عليّ عليه السّلام، فإنّهم يُدعَون بأسماء آبائهم.
فقلت: حبيبي جبرئيل، وكيف ذاك ؟ قال: لأنّهم أحبّوا عليّاً، فطاب مولدهم.
بيان: «فطاب مولدهم» لعلّ المعنى أنّه لمّا علم الله من أرواحهم أنّهم يحبّون عليّاً، وأقرّوا في الميثاق بولايته، طَيّبَ مولد أجسادهم.
• وروى الشيخ الصدوق بإسناده عن فاطمة بنت موسى عليه السّلام، عن عمر بن عليّ بن الحسين، عن فاطمة بنت الحسين عليه السّلام، عن أسماء بنت أبي بكر ، عن صفيّة بنت عبدالمطلّب قالت:
لمّا سقط الحسين عليه السّلام من بطن أمّه ـ وكنتُ وَلِيتُها ـ قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا عمّة، هلميّ إلَيّ ابني. فقلت: يا رسول الله، إنّا لم نُنظفّه بعدُ، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا عمّة، أنتِ تُنظّفينه ؟! إن الله تعالى قد نَظّفه وطهّره.
مزار السيّدة المعصومة عليها السّلام
يرجع تاريخ القبّة الحاليّة على قبر السيّدة المعصومة إلى سنة (529هـ)، حيث بُنيت بأمر من المرحومة (شاه بيكم بنت عماد بيك). أمّا تذهيب القبّة وبعض الجواهر التي رصّع بها القبر الشريف، فهي من آثار فتح علي شاه القاجاريّ. وهناك فوق قبر السيّدة فاطمة صخرة عليها نقش كهيئة المحراب، تحيط به آية الكرسيّ، وكُتب في وسطه «توفيّت فاطمة بنت موسى في سنة إحدى ومائتين».
مصلّى السيّدة المعصومة
ما يزال المحراب الذي كانت السيّدة فاطمة تصلّي فيه في دار موسى بن خزرج ماثلاً إلى الآن، يقصده الناس لزيارته والصلاة فيه. وقد جُدّدت عمارته خلال السنوات الأخيرة، وشُيّدت إلى جانبه مدرسة لطلبة العلوم الدينيّة تعرف بـ «المدرسة الستّيّة». يقع المحراب في الشارع المجاور للصحن الشريف، ويُعرف بشارع «چَهار مَرْدان» على يسار الذاهب من الروضة الفاطميّة، وهو مزدان بالقاشاني المعرّف، وعلى مدخله أبيات بالفارسيّة، تعريبه:
لقد شُيِّد هذا البناء المُنير إجلالاً لبنت موسى بن جعفر، حيث مَثُل فيه محراب فاطمة المعصومة، فزادت به «قم» شرفاً على شرف.
من كرامات السيّدة المعصومة عليها السّلام
نقلت مجلّة «كوثر» الشهريّة في عددها الأوّل واقعة فتاة من مدينة «بِهْشَهر» تدعى فاطمة، ألمّ بها داء عُضال. صحبها أبوها إلى الطبيب المختصّ دون جدوى، ثمّ ساءت حالتها فاضطرّ أبواها إلى حجز سرير لها في مستشفى «ساسان» في العاصمة «طهران»، وتقرّر أن ترقد في المستشفى المذكور في اليوم الثالث والعشرين من شهر رمضان المبارك.
اقترحت والدة فاطمة ـ وهي امرأة علويّة من نسل أمير المؤمنين عليه السّلام ـ على زوجها أن يذهبا بابنتهما إلى قمّ خلال ليالي القدر، ويتوسّلا إلى الله تعالى بالسيّدة المعصومة، عسى أن يمنّ الباري على ابنتهما ـ التي كانت تذوب أمام أعينهما كالشمعة ـ بالشفاء. كانت حالتها قد بلغت حدّاً عجزت معه عن السير، وفقدت الرغبة في الطعام.
حَلّ الأبوان في فندق قريب من حرم السيّدة المعصومة في اليوم التاسع عشر من شهر رمضان، فأمضيا ليلتهما ـ ومعهما ابنتهما العليلة ـ في حرم السيّدة. ثمّ جاءت الليلة الحادية والعشرون، ليلة شهادة مولى المتّقين أمير المؤمنين عليه السّلام، فذهبا إلى الحرم المطهّر وشاركا أفواج المؤمنين المحزونين الوالهين في إقامة مراسم العزاء في هذه المناسبة. بعدها عادا إلى الفندق، فتناوبا تلك الليلة على رعاية ابنتهما التي كانت حالتها قد ازدادت سوءاً.
وحلّ الفجر، وطرق سمعهما صوت المؤذّن لصلاة الفجر من مئذنة الحرم الشريف، فأيقظا ابنتهما ليصحباها ـ وللمرّة الأخيرة ـ لزيارة بنت الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام، قبل نقلها إلى طهران لبدء العلاج.
احتضن الأب ابنته، وجاء بها إلى الصحن، وأرقدها بجوار الضريح المقدّس، وعكف على صلاته وتضرّعه، وانصرفت الأم إلى القسم الخاصّ بالنساء لأداء فريضة الصلاة، ولتتوسّل بالسيّدة المعصومة. وتأمّلت الفتاة بعينيها الغائرتَين الضريحَ المقدّس في صمت، ثمّ استولى عليها النعاس فأخلدت إلى النوم.
عادت الأم لتتفقّد حال ابنتها، وقرع الآذانَ صوت المكبّر في صلاة الجماعة، فاستيقظت الفتاة ونهضت قائمة!
تساءلت الأم في فزع: ما بالك ؟!
قالت الفتاة: أريد زيارة السيّدة!
ثمّ تعلّقت بشبّاك الضريح النوراني بيدَين نحيلتين معروقتين، وأغرقته بقبلاتها، ثمّ التفتت إلى أمّها واستأذنتها بالذهاب خارجاً لشرب الماء، فأشارت إليها الأمّ ـ وقد هيمن عليها الجوّ الروحيّ العجيب لحرم السيّدة ـ أن تذهب.
أنهى الأب صلاته وعاد ليجد موضع ابنته خالياً، سأل زوجته عنها فأخبرته أنّها ظمأى، ذهبت لتشرب شيئاً من الماء. اتسعت عينا الأب في ذهول، ثمّ هرع الأبوان إلى الصحن ليُعاينا ابنتهما تقف إلى جانب الحوض، وقد انحنَتُ فجمعتْ شيئاً من الثلج الذي يكسو أرض الصحن المطهّر في ذلك الجوّ الشتائي. أسرع الأبوان إليها بأقدام حافية، فاحتضناها وعادا بها إلى حرام السيّدة المعصومة عليها السّلام، ليشكرا الله سبحانه على ما منّ به على ابنتهما ببركة بنت موسى بن جعفر عليه السّلام، ولم يكن ثمّة حاجة للذهاب إلى طهران ولا للمعالجة، فقد حصلا على شفاء ابنتهما من دار الشفاء الخاصّة بكريمة أهل البيت عليهم السّلام.
نُقل عن المرحوم آية الله السيّد المرعشي النجفي أنّه قال:
أرِقتُ ليلةً من ليالي الشتاء القارس، ففكّرت في الذهاب إلى حرم السيّدة المعصومة لزيارتها. ثمّ إني فظنتُ إلى أنّ الوقت لا يزال مبكّراً، وما تزال أبواب الصحن الشريف مغلقة. فعدتُ أحاول النوم واضعاً يدي تحت رأسي، خشيةَ أن أستغرق في نوم عميق، فشاهدت في عالم الرؤيا السيّدة المعصومة سلام الله عليها وهي تهتف بي: انهض وتعالَ إلى الحرم فأدرِكْ زوَاري الواقفين خلف أبواب الصحن، فانّهم أشرفوا على الهلاك من شدّة البرد!
قال السيّد: نهضت وارتديت ملابسي على عجل، وأسرعت إلى الصحن الشريف، فشاهدت مجموعة من الزوّار الباكستانيين بملابسهم المحليّة الخاصّة وهم في حالة يُرثى لها، يرتجفون خلف باب الصحن من شدّة البرد. طرقت الباب، فعرفني أحد خدّام الحرم ـ واسمه الحاج حبيب ـ ففتح الباب، فوردت الصحن مع اُولئك الزوّار الذين هرعوا لزيارة السيدة، في حين توضّأت أنا وانصرفت إلى أداء الصلاة والزيارة.
نقل مؤلّف «كرامات معصوميّه» عن أحد المهاجرين العراقيين القاطنين في مدينة قم المقدّسة أنّ والدته أُصيبت بمرض خطير، وأنّه دار بها على الأطبّاء، فلم يحصل على نتيجة، ناهيك عن الأدوية النادرة التي كانوا يصفونها لحالتها، فيعسر على هذا المهاجر توفيرها. يقول هذا الأخ:
حَدَث يوماً أن وُصف لي طبيب حاذق، فاصطحبت والدتي له، فعاينها ووصف لها علاجاً. ثمّ إني عُدت بوالدتي إلى البيت، وبدأت بحثي عن الدواء الذي وصفه لها، فما وجدته إلاّ بعد عناء ومشقّة عظيمة. ولمّا كنت في طريقي إلى المنزل، وقع بصري على القبّة المقدّسة للسيّدة المعصومة سلام الله عليها، فأُلهم قلبي زيارتها والتوسّل بها إلى الله تعالى، فدخلت الحرم المطهّر، وألقيت بالأدوية جانباً، وخاطبت السيّدة بلوعة وحُرقة: يا سيّدتي، لقد كنّا في العراق نلجأ إلى أبيكِ باب الحوائج في كلّ شدّة وعُسر، ونستشفع به إلى الله تعالى في قضاء حوائجنا، فلا نعود إلاّ وقد تيسّر لنا عسيرُها؛ وها نحن لا ملجأ لنا هنا إلاّكِ، وها أنا سائلُك أن تشفعي في شفاء أميّ ممّا ألمّ بها.
قال: ولقد منّ الله تعالى على والدتي بالشفاء في نفس ذلك اليوم ببركة بنت موسى بن جعفر عليها السّلام، فاستغنينا عن الدواء.
بعد انحلال الاتحاد السوفيتي وانقسامه إلى دول عديدة، فُتحت أبواب السفر بين إيران وجمهورية آذربيجان، فصمّم عدد من مسؤولي الحوزة العلميّة في قمّ على السفر إلى آذربيجان لاختيار عدد من شبابها اللائقين، لدعوتهم للمجيء إلى قم لدراسة العلوم الإسلاميّة، من أجل أن يكونوا في المستقبل مبلّغين في بلادهم يسدّون الخلل الموجود في التثقيف الإسلامي في تلك البلاد، ذلك الخلل الذي سبّبه الحكم الشيوعي الظالم هناك.
وفي «نخجوان» التقَوا بشاب يُدعى «حمزة» طلب منهم السماح له بالسفر إلى قمّ للدراسة في حوزتها، فاعتذر منه أولئك المسؤولون، لأنّ من شروط الاختيار سلامة أعضاء بدن الفرد، وكانت إحدى عيني «حمزة» معيوبة لا تبصر، وكان عيبها ظاهراً للعيان، وبطبيعة الحال فإنّ وجود نقص عضويّ ظاهر لدى الفرد المبلّغ ربّما يؤثّر سلباً في مدى تجاوب الناس معه.
ذرف «حمزة» الدموع سِخاناً، وتساءل: لماذا أُحرم من هذه النعمة مع وجود الرغبة الشديدة للتعلّم لديّ ؟! أصرّ والده أيضاً على قبوله لئلاّ يَترك رفضُه أثراً سيّئاً في نفسيّته، فلم يجد المسؤولون بُدّاً ـ تحت تأثير العاطفة الإنسانيّة ـ من قبوله.
عادوا ومعهم حمزة مع عدد من الشبان المتطوّعين للدراسة، وجرى في العاصمة استقبال لهؤلاء الشباب الآذربيجانيين المتحمّسين، وصُوّرت تفاصيل ذلك الاستقبال وفي ضمن تصوير الفلم عمد أحد المصوّرين ـ لسببٍ ما ـ إلى التركيز على عين الشاب حمزة المطفأة، فركّز عدسته عليها وقرّبها عدّة مرّات خلال مراسم الاستقبال.
بعدها ذهب أولئك الشباب إلى الحوزة العلميّة في قمّ، وتمّ إسكانهم في إحدى المدارس الدينيّة، فسُلّم مسؤول تلك المدرسة نسخة من فيلم من تلك المراسم ليحفظه في أرشيف المدرسة. وحصل في أحد الأيّام أن عرض مسؤول المدرسة ذلك الفلم في قاعة المدرسة أمام أولئك القادمين الجدد، كنوع من أنواع الترفيه عنهم، فإذا باولئك الشباب ـ وكانت أعمارهم صغيرة نسبياً ـ يقهقهون ويتضاحكون كلّما ركّزت عدسة المصوّر على عين «حمزة»، حتّى أحس صديقهم «حمزة» في تلك الجلسة بالضعة والهوان، وأضحت الحياة تافهة أمام عينيه، فصمّم على جمع لوازمه والعودة إلى بلده، لأنّه أدرك أنّه سيغدو أضحوكة لهؤلاء الشباب الصغار.
نهض «حمزة» ليتشرّف بالذهاب إلى الحرم المطهّر للسيّدة المعصومة سلام الله عليها بقلب منكسر، فذرف دموعه بحرقة، وناجاها بلوعة: يا بنت باب الحوائج، لقد قطعتُ مئات الأميال من أجل أن أدرس تحت ظلالك، فأُصبح مبلّغاً لديني، لكنْ لا طاقة لي على تحمّل كلّ هذا التحقير والاستهزاء، وها أنا أُجبر على العودة إلى بلدي ومدينتي، فأُحرم من نعمة مجاورة حرمك!
وهكذا باح للسيّدة كريمة أهل البيت بمكنونات قلبه، وما انعقد عليه ضميره، ثمّ نهض وفي الحلق شجى، وفي القلب حزن وأسى، فودّع السيّدة المعصومة الوداع الأخير، وملأ من منظر ضريحها النوراني وقبّتها المتلألئة بصره، وعاد أدراجه إلى المدرسة.
لكنّه لم يخطُ خارج الصحن الشريف إلاّ خطوات قليلة، حتّى صادف أحد زملائه في الدراسة، فسلّم عليه حمزة، فردّ عليه السّلام باستغراب وكأنّه لا يعرفه! فناداه حمزة باسمه، فعاد يتأمّل وجه حمزة في حيرة واندهاش، فناداه وتساءل: أأنت يا حمزة ؟!
فأجابه: نعم، ولكن ما الأمر؟
فردّ: فما بال عينك ؟!
ففطن حمزة ـ ويا للفرحة! ـ أنّ عينه المطفأة المحزونة قد شُفيت ببركة السيّدة المعصومة عليها السّلام، وأدرك أن كريمة أهل البيت لم تمسح بيدها على قلبه الحزين وتُعيد إليه كرامته واحترامه فحسب.. بل إنّه سيعيش إلى جوارها كفرد عزيز فخور، وأنّه سيُعَدّ عند عودته إلى آذربيجان أحدى معجزات أهل البيت الأطهار عليهم السّلام في تلك الديار.
حمزة في الوقت الحاضر أحد طلبة الحوزة العلمية في قمّ، يشترك في المجالس والمحافل ويشرح قصّته بحماسة وشغف كبيرَين، ويبدي شكره وامتنانه العميقين لكريمة أهل البيت عليها السّلام. وهناك أكثر من مائة طالب آذربيجانيّ يشهدون على هذه الواقعة، فضلاً عن الفلم المسجّل الموجود في أرشيف المدرسة.
نُقل عن المرحوم آية الله السيّد صدر الدين الصدر أنه قال:
تصدّيتُ لتمشية أمور الحوزة العلميّة في قمّ مدّة من الزمن بعد ارتحال المرحوم آية الله الحائري، وكنت أدفع الرواتب الشهرية للطلبة. وحدث مرةً أنْ عجزتُ عن دفع الرواتب في أحد الأشهر، فاضطُررت إلى الاقتراض، ثمّ حلّ الشهر التالي فاقترضت أيضاً، وحلّ شهر ثالث دون أن يصل إلى يدي شيء من الحقوق الشرعيّة، فلم أجرؤ على الاقتراض.
وتجمهر عدد من الطلبة في بيتي لاستلام رواتبهم، فأنبأتهم أنّ دفع الرواتب متعذَّر، وأنّي مَدين بمبلغ كبير لا أجرؤ معه على الاقتراض، فارتفعت أصوات الطلبة بالشكوى، وتساءلوا: فما العمل إذاً ؟! إنّنا لسنا في أمان في المدرسة (نظراً للضغوط الشديدة التي تعرّضوا لها آنذاك في عهد رضا بهلوي)، ولسنا نقدر على العودة إلى أوطاننا، ولا نفقة لدينا تُقيم أودَنا. وهكذا استمرّ الطلبة يعدّدون شكاواهم حتّى اغرورقت عيناي بالدموع، فقلت: تفضّلوا بالانصراف، وسأدفع الرواتب يوم غد إن شاء الله تعالى !
انصرف الطلبة وبقيت أقلّب الفكر، عسى أن أجد مخرجاً ممّا أنا فيه، فلم يسعفني عقلي بشيء، وتناهبني القلق فلم يَغمَض لي جفنٌ في الليل.. وحلّ السَّحَر فتوضّأت ويَمّمت شطر الحرم المطهّر للسيّدة المعصومة سلام الله عليها، فصلّيت صلاة الفجر وعقّبت، ثمّ دَنَوتُ من الضريح المطهّر وقد مَثُلَت وجوه الطلبة الضارعة أمام عيني، فهمستُ أخاطب المعصومة في حالة انفعال وتأثّر شديدين:
يا عمّتي المعصومة، ليس من الإنصاف أن يلجأ إلى جوارك طائفة من الطلبة الغرباء فتتركيهم يموتون جوعاً! إن أمكنك إنقاذهم فعلتِ، وإلاّ فأرسِليهم إلى أخيك الأكبر عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام، أو إلى جدّك أمير المؤمنين عليه السّلام! (أقصد انتقال الحوزة العلميّة من قمّ إلى مدينة مشهد أو إلى النجف الأشرف).
قلتُ هذا ونهضتُ، فغادرتُ الحرم وعُدت إلى حجرتي وقد تغيّرت حالي، ومنظر الطلبة لا يغادر خيالي.
وفيما كنت كذلك فُتح باب الغرفة، واستأذن رجل وقور في الدخول، ثمّ دخل فوضع حقيبته جانباً وقال: اعتذرُ عن إزعاجكم، فقد وصلتُ على التوّ. كنتُ أسافر مع جماعة في سيّارة كبيرة، فلمحتُ قبّة السيّدة المعصومة عليها السّلام وسلّمت عليها، فخطر في بالي أنّ من الممكن ـ وأنا أسافر بهذه الوسيلة التي لا تخلو من الخطر ـ أن لا يُحالفني التوفيق بتسديد ما في ذمّتي من الحقوق الشرعيّة (الخُمس) بعد عودتي، فطلبت من السائق التوقّف في قمّ ساعة ليمكنني المثول لديكم. ثمّ فتح الحقيبة وسلّمني مبلغاً، سدّدتُ منه المبالغ التي اقترضتُها، ودفعت منه رواتب الطلبة لسنة كاملة.
نُقل عن المرحوم الروحاني قيّم حرم السيّدة المعصومة أنّه قال:
كنتُ نائماً في ليلة من ليالي الشتاء الباردة، فشاهدت السيّدة المعصومة عليها السّلام في عالم الرؤيا وهي تهتف بي: انهض وأنِر مصابيحَ المنائر!
استيقظت من نومي وتبيّن لي أنّ الوقت لا يزال منتصف الليل، فلم أُعِر الأمر أهميّة، وعدتُ إلى الرقاد. ثمّ جاءتني المعصومة وهتفت بي ثانية، فلم أحفل، ثمّ هتفت بي ثالثة: ألم آمُرْك بالنهوض وإنارة مصابيح المنائر؟! فأيقنت عندئذٍ أن علَيّ الامتثال للأمر، فنهضت وأنرتُ مصابيح المنائر.
وحلّ الصباح، ففتحت أبواب الصحن، ثمّ جلستُ عند الصحن أتحدّث مع زملائي تحت أشعة الشمس، فإذا عدد من الزوّار يتحدّثون فيما بينهم، وسمعتهم يقولون: لقد شاهَدْنا البارحة كرامةً من كرامات السيّدة، فقد حاصَرَتنا الثلوج ونحن في طريقنا إلى قمّ لزيارة المعصومة، فأضعنا معالم الطريق، وتُهنا في وسط الثلوج لا نعرف أين نتوجّه، حتّى شاهدنا النور يلوح فجأةً من منائر السيّدة المعصومة، فنَجَونا بعد أن أشرفنا على الهلاك.
نُقل عن المرحوم السيّد محمود المرعشي النجفي صاحب كتاب «مُشَجّرات العلويّين» أنّه كان يتلهّف لمعرفة موضع القبر الشريف للصدّيقة الزهراء عليها السّلام، فاختار ـ للوصول إلى غايته ـ خَتْماً مُجرَّباً استمرّ على أدائه أربعين يوماً، عسى أن يمنّ الله عليه بمعرفة موضع القبر المجهول.
وانتهت الأيّام الأربعون المشحونة بالدعاء والتوسّل، فشاهد في عالم الرؤيا الإمامَ الباقر أو الصادق عليهما السّلام، فقال الإمام له: عليك بكريمة أهل البيت!
أجاب السيّد المرعشي ـ ظنّاً منه أنّ الإمام يوصيه بقصد الصدّيقة الزهراء عليها السّلام: نعم ـ جُعلت فِداك ـ فلقد أتممتُ هذا الختم لأعرف موضع قبرها على وجه الدقّة، لأتشرّف بزيارتها. قال الإمام عليه السّلام: أُقصد القبر الشريف للمعصومة في قمّ. وأضاف: لقد شاء الله سبحانه لحكمة أن يظلّ القبر الطاهر للزهراء البتول عليها السّلام مجهولاً إلى الأبد، فجعل قبر المعصومة موضع تجلّ لقبر الصدّيقة، وأفاض عليه من الجلال والجبروت ما كان سيقدّره لقبر الصدّيقة عليها السّلام لو كان ظاهراً ماثلاً.
انتبه السيّد المرعشي من النوم، فأمر عائلته بالاستعداد للسفر لزيارة السيّدة المعصومة عليها السّلام.
1 ـ دار الشفاء الخاصّة بكريمة أهل البيت عليها السّلام
2 ـ السيّدة تُدرك زوّارها
3 ـ السيّدة تغيث أحد الزوّار المهاجرين
4 ـ حمزة الاذربيجانيّ
5 ـ المعصومة وحوزة قمّ العلميّة
6 ـ إغاثة الزوّار التائهين
7 ـ قبر المعصومة تجلٍّ من تجلّيات قبر الصدّيقة