ماهية أعمال السيادة
الأصل التاريخي لنظرية أعمال السيادة
بعد قيام الثورة الفرنسية عمل رجالها على منع القضاء من التدخل في عمل الإدارة نهائياً ، وكان سبب ذلك هو ما كان يحمله رجال الثورة من صورة سيئة للقضاء وكثرة تدخله في أعمال الإدارة وتعطيلها عن القيام بمهامها واختصاصاتها ، وقد سّوغ رجال الثورة الفرنسية هذا الأمر بالاستناد إلى مبدأ الفصل بين السلطات ، حيث فسروا هذا المبدأ تفسيراً صارماً وخاصاً بهم ، وعدّوا أن هذا المبدأ يقضي بألا يتدخل القضاء في عمل الإدارة بتاتاً ، ولقد كشفت الأيام عدم صدق هذا التفسير ومخالفته لأبسط قواعد المنطق القانوني السليم .
وبناء على ما سبق فقد كان القضاء ممنوعاً من التدخل في أعمال الإدارة وقراراتها ، وسميت هذه المرحلة بمرحلة 'الإدارة القاضية' ، حيث كانت الإدارة تقوم بنفسها - بالفصل في المنازعات التي تنشأ بينها وبين الأفراد ، ولا يخفي ما في هذا الأمر من مخالفة لمبادئ القانون العامة التي تقضي بعدم جوز اجتماع صفتي الخصم والحكم في شخص واحد .
ولذلك لم تظهر أعمال السيادة في هذه المرحلة لعدم جدواها ، فالقاعدة السائدة في ذلك الوقت هي عدم مسئولية الإدارة عن أعمالها(1) .
وفي مرحلة لاحقة وبالأحرى في ظل الإمبراطورية الفرنسية الأولى ، أنشأ نابليون بونابرت مجلس الدولة الفرنسي ليقوم بمهام تساعد الإدارة في عملها ، ومن أهم هذه المهام حق الفصل في الطعون والتظلمات التي تقدم ضد القرارات التي تصدر من الإدارة(2) ، إلا أن حكمه في هذه الطعون لم يكن نهائياً حيث كان يلزم تصديق الإمبراطور عليه ليكون نافذاً ، وسميت هذه المرحلة بمرحلة 'القضاء المحجوز' .
وفي مرحلة لاحقة - وبالتحديد بعد سقوط الإمبراطورية الأولى وعودة الملكية إلى فرنسا سنة 1814م - كان مجلس الدولة ينظر إليه بعين الشك والريب ، حيث أنه يعد من مخلفات النظام البائد وامتداداً لحكم نابليون ، لذلك كانت رغبة رجال النظام الجديد هي إزالة هذا الكيان والقضاء عليه ، فإن لم يكن فعلى الأقل تقليص نفوذه والحد من رقابته على أعمال الإدارة ، فعملوا على انتظار أول فرصة للاحتكاك والاصطدام به ، إلا أن قضاة مجلس الدولة تنبهوا لهذا الأمر وأدركوا مقاصد النظام الجديد ، ولذلك عملوا جاهدين من أجل تجنب الاصطدام بالنظام حتى يحافظوا على وجود المجلس واستمراره، ومن هنا ظهرت نظرية أعمال السيادة على يد مجلس الدولة والتي بموجبها أخرج عدداً من أعمال الإدارة السياسية المهمة من رقابته ، وذلك منعاً للاصطدام بالحكومة ومحاولة منه لكسب ثقتها ، ويجمع شراح القانون العام على أن هذا التصرف من المجلس يعد سياسة حكيمة للحفاظ على كيانه .
ومن الصدف الغريبة التي واجهت مجلس الدولة الفرنسي وقت إقرار هذه النظرية أنه اعترف بها في قضية تتعلق بأسرة نابليون بونابرت صاحب الفضل في وجوده ، وموضوعها رفض النظام الحاكم تسليم أموال تم التبرع بها لعائلة بونابرت وتقريره حرمانها كلية من هذه الأموال ، وعرض النزاع على مجلس الدولة ليقول كلمته في مدى مشروعية هذا التصرف الحكومي وفي مدى أحقية الأسرة المدعية في هذه الأموال ، وكان رأي المجلس أن هذه المطالبة تتعلق بمسألة سياسية لا يختص هو بالفصل فيها وإنما يكون التقرير فيها أصلا للحكومة(3) .
ثم عادت الإمبراطورية الثانية واسترد المجلس مركزه السابق وثقة الحكومة ، وكان المجلس قد قطع شوطاً كبيراً في إخضاع الكثير من أعمال الإدارة لرقابته ، ومن أجل المحافظة على ما قام به لإرساء مبدأ المشروعية ، وحتى لا يضيع هذا الجهد العظيم ، ترك المجلس للإدارة - وعلى رأسها الإمبراطور - قدراً كبيراً من الحرية حتى لا يعوقها بتدخله ورقابته(4) .
وفي ظل الجمهورية الثالثة كانت الأوضاع القانونية قد استقرت ، ورسخت دعائم مبدأ المشروعية في فقه القانون ، وتدخل المشرع ليسجل ما أحرزه من تطور ، وختم كل ذلك بأن جعل للمجلس سلطة القضاء النهائي وكان ذلك بقانون 24 مايو سنة 1872، وسميت بمرحلة 'القضاء المفوض'(5) .
وكان يعتقد أن مجلس الدولة الفرنسي قد قبل هذه النظرية مكرهاً ، وأنه بعد منحه سلطة القضاء المفوض سينهال على أعمال السيادة بأحكام تزج
بها إلى المقصلة في ميدان الباستيل ، ولكن العكس هو الذي حدث تماماً ، إذ استمر المجلس واضطرد في أحكامه اللاحقة على سنة 1872على الاستناد لهذه النظرية حاكماً بعدم اختصاصه ببعض الأعمال التي سماها بأعمال السيادة تارة وبالأعمال السياسية تارة أخرى ، وما تزال تطبيقات النظرية موجودة في القضاء الإداري الفرنسي إلى الآن(6) .
وبعد هذا السرد التاريخي لكيفية ظهور أعمال السيادة ، يتبين لنا أن هذه النظرية سياسية البواعث قضائية الصنع ، إلا أننا وإن كنا نقبل ظهورها في ظل الأوضاع والضغوط التي كانت موجودة عند نشأتها إلا إننا نستغرب بقاءها بعد زوال أسباب ظهورها ، بل وفي ظل التطور الكبير الذي ساد في عالم القانون ، وخاصة فيما يتعلق بمبدأ المشروعية وسيادة القانون .
تعريف أعمال السيادة
لقد حاول الفقه والقضاء وضع تعريف لأعمال السيادة ، وباستعراض هذه التعريفات يمكن تصنيفها إلى الطوائف التالية :
أ - الطائفة الأولى : وتركز هذه الطائفة من التعريفات على جانب نفي خضوع أعمال السيادة لرقابة القضاء بجميع صورها ، ومن أمثلة هذه التعريفات نرى أن البعض يعرف عمل السيادة بأنه : 'طائفة من أعمال السلطة التنفيذية تتمتع بحصانة ضد رقابة القضاء بجميع صورها أو مظاهرها ، سواء في ذلك رقابة الإلغاء أو رقابة التعويض أو رقابة فحص المشروعية'(1) .
والحقيقة أن هذه الطائفة تشمل الجانب الأكبر من محاولات الفقه لتعريف أعمال السيادة ، إلا إن هذه التعريفات لم توضح لنا المقصود بأعمال السيادة ولم تكشف لنا حقيقة هذه الأعمال ، وكل ما عملته هو تعريف عمل السيادة بطريقة سلبية معتمدة على النتيجة المتحققة من اكتساب عمل ما لصفة السيادة وهي عدم خضوعه لرقابة القضاء .
ب -الطائفة الثانية : وتركز هذه الطائفة في تعريفها لأعمال السيادة على جانب الجهة التي تملك تكييف العمل والحكم على ما إذا كان يعد من أعمال السيادة أم لا وهذه الجهة تتمثل في القضاء ، وعليه فتعرف هذه الطائفة عمل السيادة بأنه : 'كل عمل يقرر له القضاء الإداري هذه الصفة'(2)
وهذا التعريف أيضاً قاصر عن تحديد ماهية أعمال السيادة ، بل إنه لم يتعرض لطبيعة عمل السيادة وعناصره ، وكل ما قام به هو التأكيد على أن القضاء هو الجهة المخولة بتكييف عمل السيادة .
ج -الطائفة الثالثة : وتركز هذه الطائفة في تعريفها لأعمال السيادة على إظهار الجانب السياسي المرتبط بهذه الأعمال ، كما تركز على تحديد الحكمة من تحصين هذه الأعمال من رقابة القضاء وهي تعلقها بمصالح الدولة العليا ، ومن أمثلة هذه الطائفة تلك التي تعرف عمل السيادة على أنه 'العمل الذي تباشره الحكومة - بمقتضى سلطتها العليا - في سبيل تنظيم القضاء والإدارة والنظام السياسي والدفاع عن كيان الدولة وسلامتها في الداخل والخارج …'(3) ، أو كما عرفته محكمة القضاء الإداري في مصر بأنه : 'العمل الذي يتصل بالسيادة العليا للدولة والإجراءات التي تتخذها الحكومة بما لها من سلطان الحكم للمحافظة على سيادة الدولة وكيانها في الداخل والخارج'(4) .
والحقيقة أنه رغم تميز تعريفات هذه الطائفة على ما سبقها ورغم أنها كانت أكثر نجاحاً وتوفيقاً في تعريفها لعمل السيادة إلا أنه يعيبها اعتمادها على ألفاظ ومفردات واسعة ومطاطة تفتقر للدقة والضبط والتحديد ، عجزت عن إعطائنا تعريفاً دقيقاً لأعمال السيادة ولم تكشف لنا طبيعة هذه الأعمال وعناصرها الموضوعية .
وبعد هذا العرض لمحاولات الفقه والقضاء لوضع تعريف جامع مانع لأعمال السيادة ، يتبين لنا أن كل هذه المحاولات لم تحقق هذا الهدف ، وهذا ما أعلنته صراحة محكمة القضاء الإداري في مصر حيث قضت بأنه : '… لم يتيسر وضع تعريف حاسم أو حصر دقيق لأعمال السيادة ، إذ أن ما يعتبر عملاً إدارياً عادياً قد يرقى في ظروف وملابسات سياسية في دولة ما إلى مرتبة أعمال السيادة ، كما أن ما يعتبر من أعمال السيادة قد يهبط في ظروف أخرى إلى مستوى الأعمال الإدارية …'(5) .
ويرجع عجز هذه المحاولات في رأينا إلى غموض نظرية أعمال السيادة وعدم قيامها على سند متين من المنطق والقانون ، بل ومخالفتها لمبدأ المشروعية وسيادة القانون ، إلا أنه - رغم ذلك - يجب أن يحمد للفقه والقضاء قيامه بهذا الدور ومحاولته تحديد أعمال السيادة من أجل تقييدها وضبطها حتى لا تكون واسعة المدى في الوقت الذي تشكل فيه اعتداء على حقوق وحريات الأفراد .
معيار تمييز أعمال السيادة
تقضي نظرية أعمال السيادة بخروج طائفة من أعمال السلطة التنفيذية من رقابة القضاء ، ومن الطبيعي أن الأمر يحتاج لمعيار يميز أعمال السيادة عن غيرها من الأعمال الإدارية التي تظل خاضعة للرقابة القضائية .
ولذلك اهتم رجال الفقه والقضاء بالعمل على وضع معيار يميز أعمال السيادة عن غيرها من أعمال السلطة التنفيذية ، وكانت نتيجة محاولات الفقه في هذا المجال أن ظهرت العديد من المعايير ، نعرض لها فيما يلي :
أولاً : معيار الباعث السياسي :
ويعد هذا المعيار أول المعايير التي قيلت في هذا الصدد ، وقد أخذ به مجلس الدولة الفرنسي عند ظهور أعمال السيادة لأول مرة ، ويقضي هذا المعيار بأن العمل الصادر من السلطة التنفيذية يعد من أعمال السيادة متى كان الباعث على إصداره تحقيق مقصد سياسي هدفه حماية الحكومة من أعدائها في الداخل والخارج (1) .
وكان معيار الباعث السياسي يجد مسوغه في حقيقة الوضع الذي كان يشغله مجلس الدولة في المرحلة الأولى من بدء نشاطه القضائي ، ذلك أن المجلس كان لا يزال محكوماً بفكرة القضاء المحجوز ، حيث كانت قراراته خاضعة لتصديق رئيس الدولة ، ومن ثم كان طبيعياً أن يساير الحكومة في اتجاهاتها العليا ، وخاصة بالنسبة للإجراءات التي تتخذها لمقاومة أعدائها وللحد من نشاطهم ، حتى تدعم وجودها وتثبت أركان النظام الجديد(2) .
والحقيقة أنه لا تخفى خطورة هذا المعيار ، حيث أنه يوسع من نطاق أعمال السيادة ويضيق من مدى رقابة القضاء لأعمال السلطة التنفيذية ، لأنه يعتمد في تحديده لعمل السيادة على باعث إصدار هذا العمل ، وكان تحديد الباعث موكولا للسلطة التنفيذية ذاتها ، فمتى ما أعلنت الحكومة بأن الباعث على إصدار هذا العمل سياسياً امتنع على القضاء نظر هذا العمل لأنه من أعمال السيادة .
ثانياً : معيار طبيعة العمل ذاته :
ويقوم هذا المعيار في تحديده لأعمال السيادة على التمييز بين نوعين من أعمال السلطة التنفيذية وهما أعمال الحكم وأعمال الإدارة ، ويقضي بأن أعمال السيادة هي تلك الأعمال التي تقوم بها السلطة التنفيذية في مجال وظيفتها الحكومية .
ورغم قيام هذا المعيار على طبيعة العمل ذاته وليس على الباعث من إصداره ، إلا أنه يؤخذ عليه غموضه ، كما أنه يحل المشكلة بمشكلة أخرى ، فهذا المعيار يحتاج لمعيار آخر يميز بين أعمال السلطة التنفيذية الحكومية وأعمالها الإدارية .
ثالثاً : معيار النصوص القانونية المطبقة :
يستند هذا المعيار في تحديده لأعمال السيادة على التفرقة بين النصوص الدستورية والنصوص القانونية ، فأعمال السيادة هي تلك الأعمال التي تقوم بها السلطة التنفيذية تنفيذاً لاختصاصاتها المحددة في النصوص الدستورية ، أما الأعمال التي تقوم بها السلطة التنفيذية استناداً إلى نصوص القوانين واللوائح فإنها تعد أعمالاً إدارية وتخضع للرقابة القضائية(3) .
والحقيقة أن هذا المعيار منتقد ، لأنه يؤدي إلى الخلط بين الأعمال الإدارية وأعمال السيادة ، حيث أن كثيراً من الأعمال التي يعدها القضاء أعمال سيادة ليست تنفيذاً لنصوص دستورية ، كما أن كثيراً من الأعمال الإدارية هي تنفيذ مباشر لبعض نصوص الدستور ولم يعدها القضاء أعمال سيادة(4) ، كما يعيب هذا المعيار أنه يؤدي إلى عدم إخضاع الأعمال المقيدة للحقوق والحريات الفردية لرقابة القضاء لمجرد صدورها تنفيذاً لنصوص دستورية ، وهو الأمر الذي يحول الدستور من أداة أساسية في تقرير الضمانات التي تكفل حماية حقوق الأفراد وحرياتهم إلى أداة في يد السلطة التنفيذية تستخدمها للتخلص من الرقابة القضائية على أعمالها في مواجهة الأفراد(5) .
رابعاً : معيار العمل المختلط :
يقضي هذا المعيار بأن أعمال السيادة هي تلك الأعمال التي تقوم بها السلطة التنفيذية بمناسبة علاقتها بسلطات أخرى سواء كانت هذه السلطات داخلية أم خارجية ، ومثال ذلك علاقة الحكومة بالبرلمان على المستوى الداخلي ، وعلاقاتها بالدول الأخرى على المستوى الخارجي .
ويستند هذا المعيار في تحديده لأعمال السيادة وعدم إخضاعها لرقابة القضاء ، على أن القضاء يعد غير مختص بنظر هذه الأعمال لأن ولاية القضاء الوطني تقتصر على تصرفات السلطة التنفيذية فحسب ولا تشمل ولايته أعمال السلطات الأجنبية أو أعمال السلطة التشريعية .
ورغم أن هذه النظرية تستند على أساس قانوني مستمد من القواعد التي تحكم القضاء الإداري(6) ، إلا إن هذا المعيار - كما يرى البعض - لا يزال قاصراً عن تحديد أعمال السيادة ، لأن التصرف موضوع البحث مهما يكن مركباً أو مختلطاً، فإنه لا يزال من حيث المصدر تصرفاً صادراً عن الهيئة التنفيذية وفي حدود ولايتها الخاصة بتنفيذ القوانين واللوائح ، كما أن اللجوء إلى القضاء إنما يكون لرقابة تصرفات السلطة التنفيذية ، فهي وحدها التي تخضع للمناقشة بمناسبة العمل المختلط ، إذ أنها مصدر العمل وفاعله الوحيد ، دون أن يغير من هذا النظر أن يكون العمل قد صدر بمناسبة علاقة قانونية مع هيئات عامة أخرى لا تخضع بذاتها للرقابة ، فارتباط التصرف بهذه العلاقة لا يصلح مسوغاً لحصانته في جملته ضد رقابة القضاء (7) .
خامسا : معيار القائمة القضائية :
اتجه البعض في تحديد أعمال السيادة إلى استقراء الأحكام القضائية وتعداد أعمال السيادة طبقاً لهذه الأحكام ، وذلك اعترافاً منهم بالعجز عن وضع معيار دقيق لتمييز أعمال السيادة عن غيرها من أعمال السلطة التنفيذية .
ويعيب هذا الاتجاه أنه لا يضع معياراً لأعمال السيادة بالمعنى الفني الدقيق ، كما أنه يؤدي إلى تحكم القضاء بدلاً من الإدارة في تحصين العمل الإداري من الرقابة القضائية ، فمنح القضاء سلطة تحديد عمل السيادة لا يعني عدم الحاجة إلى معيار لتحديد هذه الأعمال ، فالقضاء نفسه يحتاج هذا المعيار وإلا كان الأمر تحكماً واضحاً من القضاء طالما أن تحديد أعمال السيادة يتم بطريقة مزاجية من القاضي ودون معيار موضوعي واضح وسليم .
سادساً : النظرية السلبية :
قامت هذه النظرية في فرنسا في نهاية القرن التاسع عشر ، وتهدف إلى إنكار وجود أعمال سيادة بجوار الأعمال الإدارية ولا تسلم بأن هذين النوعين من الأعمال يختلف أحدهما عن الآخر في المصدر والطبيعة والهدف ، وتقول هذه النظرية بأن ولاية القضاء تتسع لكل نزاع يتعلق بالحقوق والحريات وعلاقات الحاكم بالمحكوم وعلاقات الأفراد والجماعات فيما بينها وكل ما يتعلق بالعدل والإنصاف ، ولا تتقيد ولاية القضاء إلا بالقدر الذي يقضي به نص صريح في الدستور أو في القانون ، ولهذا أخذ فقهاء هذه النظرية يضعون قوائم لحصر تلك الأعمال التي تخرج عن ولاية القضاء ، لا من واقع قضاء المحاكم ومجلس الدولة كأصحاب الحصر العددي أو معيار القائمة القضائية ، بل من واقع الدستور والتشريعات المعمول بها .
والحقيقة أننا نتفق مع أصحاب هذه النظرية فيما قالوا به من إنكار وجود أعمال السيادة واتساع ولاية القضاء لكل المنازعات ، بل إننا نتفق معهم أيضاً فيما قرروه من إمكانية المشرع الدستوري في تحديد ولاية القضاء ، إلا أننا لا نوافقهم فيما ذهبوا إليه من إمكانية المشرع العادي من أن يحدد ولاية القضاء وتحصين بعض الأعمال الإدارية من الرقابة القضائية ، فإذا كان المشرع الدستوري يختص بتحديد السلطات العامة في الدولة وتوزيع الاختصاصات فيما بينها ، فإن المشرع العادي لا يملك - وهو أحد السلطات - أن يعتدي على السلطات الأخرى ومنها السلطة القضائية وذلك بأن ينتقص من ولاية القضاء ويخرج بعض المنازعات أو يحصن بعض الأعمال من الرقابة القضائية ، لأن ذلك يعد اعتداء على مبدأ الفصل بين السلطات وتعدياً على حقوق الأفراد وحرياتهم وإخلالاً بمبدأ المشروعية وسيادة القانون(9) .
والخلاصة في هذا الأمر ، أن الفقه فشل في العثور على معيار يقوم بتمييز أعمال السيادة عن غيرها من أعمال السلطة التنفيذية ، لذلك نراه لجأ إلى معيار القائمة القضائية الذي نقل - بموجبه - هذه المهمة إلى عاتق القضاء ، وحتى القضاء نفسه عجز حتى الآن عن صيانة معيار واضح في هذا الشأن ولذلك نراه يوسع من مدى أعمال السيادة في أحيان ويضيق من مداها في أحيان أخرى .
ويرجع هذا الفشل في العثور على معيار واضح وموضوعي يحدد أعمال السيادة ويميزها عن غيرها من الأعمال الإدارية إلى غموض نظرية أعمال السيادة نفسها وعدم توافقها مع المنطق القانوني السليم وأنها أحد تدخلات السياسة في عالم القانون ، بالإضافة إلى مخالفتها لمبدأ المشروعية وسيادة القانون واعتداءها على حقوق الأفراد وحرياتهم ، فإذا كانت الفكرة غامضة وغير متوافقة مع المنطق القانوني ، فأنه يصعب تحديدها ووضع معيار واضح لها .
الأساس القانوني لأعمال السيادة
اختلف الفقه الفرنسي حول أساس حصانة أعمال السيادة ضد رقابة القضاء ، وتبلورت أهم الآراء فيما يلي :
1 - ذهب بعض الفقهاء - ومنهم العلامة موريس هوريو - إلى مسوغ لها بقوله : إنها تمثل سياسة حكيمة لمجلس الدولة الذي تحاشى - عن طريقها - قيام النظام الجديد - بعد عودة الملكية - بإلغائه للتخلص من رقابته ، وذلك كما أوضحنا سلفاً في دراسة نشأة أعمال السيادة وأصلها التاريخي .
2 - كذلك ذهب البعض إلى أن نظرية أعمال السيادة تستند إلى اعتبارات سياسية ، وذلك إبان الفترة التي كان القضاء يطبق فيها على تلك الأعمال معيار الباعث السياسي ، فاعتناق القضاء للمعيار المذكور ينم عن رغبته في عدم التدخل في الأعمال السياسية للحكومة ، لأن رقابة هذه الأعمال سوف تكون بالضرورة ذات طابع سياسي ، وبالتالي يجب أن يعهد بها إلى هيئة سياسية(1) .
منقول