من بين قصص العشاق المؤثرة والتي لا تخلو من الألم والفراق تأتي إلينا قصة قيس ولبنى، هذه القصة الحزينة لحب لم يكتمل وشاعر متيم عاشق لا يجد ما يهدئ به لوعة حبه سوى أشعاره، والتي انطلقت لتعبر عن مدى الألم الذي عاناه هذا العاشق من فراق حبيبته.
شاعرنا العاشق هو قيس بن ذريخ بن سنة بن حذافة الكناني وهو أحد شعراء العصر الأموي من سكان المدينة،
أول لقاء
تبدأ القصة بين قيس ولبنى عندما مر الأخير يوماً لبعض حاجته بخيام بني كعب، فوقف على إحدى الخيم ليستسقى، فخرحت له لبنى وهي فتاة مديدة القامة جميلة حلوة النظر والكلام، مجرد أن رآها قيس سلبت لبه، وبعد أن شرب دعته للنزول عندهم وجاء والدها فنحر له وأكرمه، وبعد أن ذهب قيس ظل مفتوناً بها وانطلق ينشد الأشعار حتى نال الشوق منه، فعاد إليها مرة أخرى يشكو لها حاله ويبوح بمكنون نفسه، ووجد أن حالها ليس أفضل منه فقد أحب الاثنان بعضهما.
ذهب قيس إلى والده فأخبره وسأله أن يزوجه من لبنى فأبي، وقال: يا بني عليك بإحدى بنات عمك فهن أحق بك، وكان والده موسراً فخشي على ماله أن تأخذه فتاة غريبة.
انصرف قيس حزيناً لرفض والده فقال له الحسين (ع): أنا أكفيك، فمشي معه إلى أن أتى أبا لبنى فأعظمه وقال: يا بن رسول الله ألا بعثت إلي، فقال: إن الذي جئتك فيه يوجب قصدك، جئتك خاطباً أبنتك لقيس بن ذريخ، فقال: يا بن رسول الله ما كنا لنعصي لك أمراً، وما بنا عن الفتى رغبة، ولكن أحب الأمرين إلينا أن يخطبها أبوه على أن يكون ذلك عن أمره.
وبالفعل ذهب الحسين (ع)إلى ذريخ وكلمه، فلم يسعه سوى الموافقة وتزوج كل من قيس ولبنى وعاشا في سعادة ولكن لفترة صغيرة.
سعادة لم تكتمل
كان قيس من أبر الناس بأمه وألهاه عكوفه على لبنى عن بعض ذلك، مما أغضب الأم وقالت: لقد شغلت هذه المرأة ابني عن بري، فلما مرض قيس في أحد الأيام قالت أمه لأبيه لقد خشيت أن يموت ولم يترك خلفاً، وقد حرم الولد من هذه المرأة فزوجه غيرها، لعل الله يرزقه ولداً، وزادت في إلحاها، فقال له، فأبى قيس أن يفعل، فعرض عليه أن يتخذ جارية، فقال لا أسؤها أبداً، فأقسم عليه أبوه أن يطلقها، فكان يدخل على لبنى فيعانقها ويبكيان وتقول له لا تطع أباك فتهلك، ولكن مع إلحاح والداه طلقها، وما كاد يفعل حتى استطار عقله ولحق به الجنون وأخذ يبكي ويتألم، وأرسلت لبنى لأبيها فأحتملها، وعندما ذهب قيس لها منعه قومها، وأقبلت عليه امرأة فقالت: ويحك كأنك جاهل هذه لبنى ترحل الليلة أو غداً فسقط ثم أفاق يقول:
يَـقـولـونَ لُـبـنـى فِـتـنَةٌ كُـنـتَ قَـبـلَها
بِـخَـيـرٍ فَـــلا تَــنـدَم عَـلَـيـها وَطَـلِّـقِ
فَطاوَعتُ أَعدائي وَعاصَيتُ ناصِحي
وَأَقــرَرتُ عَـيـنَ الـشامِتِ الـمُتَخَلِّقِ
وَدِدتُ وَبَــيـتِ الـلَـهِ أَنــي عَـصَـيتُهُم
وَحُـمِـلتُ فــي رَضـوانِها كُـلُّ مَـوبِقِ
وَكُـلِّفتُ خَـوضَ البَحرَ وَالبَحرُ زاخِرٌ
أَبــيـتُ عَـلـى أَثـبـاجِ مَــوجٍ مُـغَـرَّقِ
كَـأَنّـي أَرى الـناسَ الـمُحِبّينَ بَـعدَها
عَــصـارَةَ مـــاءِ الـحَـنظَلِ الـمُـتَفَلِّقِ
فَـتُـنـكِرُ عَـيـنـي بَـعـدَهـا كُــلَّ مَـنـظَرٍ
وَيَـكـرَهُ سَـمـعي بَـعـدَها كُــلَّ مَـنطِقِ
ظل قيس يعاني من الألم والحزن لفراق لبنى، وكلما اشتد به الشوق يذهب إلى مكان خبائها يتمرغ به ويبكي وينشد الأشعار.
بِــتُّ وَالـهَـمُّ يــا لُـبَينى ضَـجيعي
وَجَـرَت مُـذ نَـأَيتِ عَـنّي دُمـوعَي
وَتَــنَـفَّـسـتُ إِذ ذَكَـــرتُــكِ حَــتّــى
زالَتِ اليَومَ عَن فُؤادي ضُلوعي
أَتَـنـاسـاكِ كَـــي يُــريـغَ فُـــؤادي
زُمَّ يَــشـتَـدُّ عِــنـدَ ذاكَ وَلَــوعـي
يــا لُـبَـينى فَـدَتـكِ نَـفسي وَأَهـلي
هَـل لِـدَهرٍ مَـضى لَنا مِن رِجوعِ
اشتد المرض على قيس من كثرة الحزن، فأرسل والده للطبيب، ولما أتى وعلم ما في قيس من ألم لفراق محبوبته نصحه قائلاً : إنما يسليك عنها تذكر ما فيها من المساويء والعيوب وما تعافه النفس فقال قيس منشداً:
إِذا عِـبـتُـها شَـبَّـهتُها الـبَـدرَ طـالِـعاً
وَحَـسبُكِ مِـن عَـيبٍ لَـها شَبَهُ البَدرِ
لَقَد فُضِّلَت لُبنى عَلى الناسِ مِثلَ ما
عَـلى أَلـفِ شَـهرٍ فُضِّلَت لَيلَةُ القَدرِ
ولما طال على قيس ما به، أشار البعض على أبيه أن يزوجه لعل هذا يخفف عنه بعض ما يعانيه، وقال قيس في هذا:
لَقَد خِفتُ أَن لا تَقنَعَ النَفسُ بَعدَها
بِـشَيءٍ مِـنَ الدُنيا وَإِن كانَ مَقنَعا
وَأَزجُرُ عَنها النَفسَ إِذ حيلَ دونَها
وَتَــأبـى إِلَـيـها الـنَـفسُ إِلّا تَـطَـلُّعا
وقادته الصدفة بعد ذلك أن تكون الفتاة التي تزوج بها تدعى هي الأخرى لبنى، ولكنه لم يدنوا منها ولا خاطبها، ولما مضى قيس إلى المدينة في إحدى المرات أعلمه صديق له أن خبر زواجه وصل إلى لبنى فغمها وقالت: إنه لغدار ولقد كنت امتنع من الإجابة إلى التزويج فانا الآن أجيبهم.
وكان والدها قد شكا قيس إلى معاوية واعلمه تعرضه لها بعد الطلاق، فكتب إلى مروان بن الحكم يهدر دمه إن تعرض لها، وأمر أباها أن يزوجها بخالد بن حلزة من بني عبد الله بن غطفان، ويقال: بل أمره بتزويجها من آل كثير بن الصلت الكندي حليف قريش، فزوجها أبوها منه.
لما سمع قيس بالخبر أصابه الجزع الشديد وبكى أحر بكاء، وانطلق إليها فقابله أهلها قائلين لقد نقلت لبنى إلى زوجها، فأتى على موقع خبائها وأخذ يبكي قائلاً:
إِلى اللَهِ أَشكو فَقدَ لُبنى كَما شَكا
إِلـــى الـلَـهِ فَـقـدَ الـوالِـدَينِ يَـتـيمُ
يَـتـيـمٌ جَـفـاهُ الأَقـرَبـونَ فَـجِـسمُهُ
نَـحـيـلٌ وَعَــهـدُ الـوالِـدَيـنِ قَــديـمُ
بَـكَـت دارُهُـم مِـن نَـأيِهِم فَـتَهَلَّلَت
دُمـــوعِ فَـــأَيُّ الـجـازِعينَ أَلــومُ
لقاء بعد الفراق
شاء القدر أن يجمع بينهما مرة أخرى في احد المواقف، فقد أبتاع زوج لبنى من قيس ناقة وهو لا يعرفه فباعه إياها فقال له زوج لبنى: إذا كان في غد فأتني في دار كثير بن الصلت، فأقبض الثمن، قال: نعم، ومضى زوج لبنى إليها فقال: إني ابتعت ناقة من رجل بدوي، وهو يأتينا لقبض ثمنها، فأعدي له طعاماً، ففعلت.
فلما كان من الغد جاء قيس، وعرفت لبنى صوته عندما نادى على الخادمة فلم تقل شيئاً وأذن له الزوج، فلما جلس قالت لبنى للخادمة قولي له: يا فتى مالك أراك أشعث أغبر، ففعلت، فتنفس ثم قال هكذا تكون حال من فارق الأحبة واختار الموت على الحياة وبكى.
فقالت لبنى للخادمة: قولي له حدثنا حديثك فلما بدأ يحدثهم كشفت لبنى الحجاب وقالت: حسبك، قد عرفنا حديثك، وأسبلت الحجاب فبهت ساعة لا يتكلم ثم انفجر باكياً ونهض فخرج، فناداه زوجها ارجع فاقبض ثمن ناقتك وإن شئت زدناك فلم يكلمه ومضى.
فقالت لبنى لزوجها: ويحك هذا قيس بن ذريخ فما حملك على ما فعلت به، قال: ما عرفت.
وأنطلق قيس قائلاً:
أَتَبكي عَلى لُبنى وَأَنتَ تَرَكتَها
وَأَنـتَ عَـلَيها بِالمَلا أَنتَ أَقدَرُ
فَـإِن تَـكُنِ الـدُنيا بِـلُبنى تَقَلَّبَت
َلَـــيَّ فَـلِـلدُنيا بُـطـونٌ وَأَظـهُـرُ
لَـقَد كانَ فيها لِلأَمانَةَ مَوضِعٌ
وَلِـلقَلبِ مُـرتادٌ وَلِـلعَينِ مَنظَرُ
بعثت لبنى رسولاً إلى قيس وعنفته على زواجه من أخرى، حتى اضطرت هي للزواج، فاقسم لها قيس أن عينيه ما اكتحلت بالمرآة التي تزوجها وأنه لو رآها في نسوة ما عرفها، وانه ما مد يده إليها ولا كلمها.
وقال أبو الفرج: وقد اختلف في أخر أمر قيس ولبنى فذكر أكثر الرواة أنهما ماتا على افتراقهما، ومنهم من قال إنه مات قبلها وبلغها ذلك فماتت أسفاً عليه.