الأنظمة وتجاهل المشكلات ..... الشيخ رضا الحمداني
إن من أبرز معالم المنهجية الوعظية الاسلامية أن يكون الإنسان جادًا في مواجهة الأخطاء والخلل. فالنصوص الدينية الواردة ليست مجرد ارشادات أخلاقية وحسب، وإنما إلى جانب ذلك تعد توجيها إلى المنهجية السليمة في التعامل مع مختلف الأمور والقضايا. وبخلاف ما يجري من تساهل بعض الناس بالأخطاء والثغرات ونقاط الخلل في هذا الموضوع أو ذاك، تشدد النصوص الدينية الى أن يهتم الإنسان بأي خطأ مهما بدا صغيرا أو حقيرا. وورد في الرواية عن رسول الله أنه قال: (إياكم والمحقرات من الذنوب فإن لكل شيء طالبا)[6] ، وتنطوي الرواية على الحث على عدم التساهل بالذنوب مهما بدا صغرها، فلا ينبغي للمرء أن يحتقرها أو يستهين بها، وتشدد على أن هذه المنهجية خاطئة، وورد عن الإمام الباقر : (لا مصيبة كاستهانتك بالذنب ورضاك بالحالة التي أنت عليها)[7] ، وفي رواية أخرى: (لا تستصغرن سيئة أنت تعمل بها فإنك تراها حيث تسوؤك)[8] . من هنا فلا ينبغي الاستهانة بأي خطأ، وإنما ينبغي أن تكون لدى المرء منهجية واضحة في التعامل معه.
لا تكمن مسألة المعاصي في كبر أو صغر الذنب، وإنما يكمن جوهر المسألة في عظم من نعصيه وهو الله سبحانه. اذ كيف يتجرأ المرء على معصية خالقه؟. ولهذا ورد في الحديث عن رسول الله : (لا تنظروا إلى صغر الذنوب ولكن أنظروا إلى من اجترأتم)[9] . وعلاوة على ذلك فإن الاقدام على المعصية يجرّئ المرء، إذا استهان بذنوبه، على اقتراف المزيد من الذنوب الأخرى، وورد في هذا الشأن عن الإمام الرضا : (من لم يخف الله في القليل لم يخفه في الكثير)[10] .
وينسحب ذات المفهوم على علاقة الإنسان مع نفسه، فلا ينبغي التساهل ازاء ذلك. فلو انتاب أحد ما علة أو مرض مهما صغر، فلا ينبغي أن يتركه دون علاج حتى يستفحل، بل هو مأمور بالمبادرة للعلاج فورا، فإذا ترك هذا المرض القليل فلربما تفاقم وأصبح مرضا عضالا، فلا يستهينن أحد بوضعه الصحي، وعلى غرار ذلك مختلف الشؤون الشخصية.
كما ينطبق ذات الأمر على المستوى الاجتماعي، فلا ينبغي أن يستهين المرء بأي مشكلة مع أي أحد من الناس. إن هناك من الناس من يستهين بالآخر، لا لشيء إلا لأن ذلك الآخر لا يشكل خطراً ولا يستطيع أن يفعل شيئا، وهذا غير صحيح. يقول الإمام زين العابدين في هذا الصدد: (لا تعادين أحداً وإن ضننت أنه لا يضرك، ولا تزهدن صداقة أحد وإن ضننت أنه لا ينفعك، فإنك لا تدري متى ترجو صديقك، ولا تدري متى تخاف عدوك)[11] .
وهكذا ينبغي أن تُلتَزم منهجية المبادرة لعلاج المشكلات على مستوى الأمم والأوطان. فلا يكاد يخلو بلد من مشاكل قلت أو كثرت، ولكن الفرق يكمن في التفاوت في مدى استجابة هذا البلد أو ذاك لتحدي علاج المشكلات المستديمة والطارئة، فهناك حكومات تولي مشاكل بلدانها العناية الفائقة، فتسلط الأضواء على ازماتها وتبحثها بصورة جادة وتنقب عن حلول حقيقية ومبادرات فاعلة للخروج منها، فهي بذلك إنما تحاصر المشكلات قبل تفاقمها، أما بعض الحكومات فإنها غالبا ما تؤثر الصمت وغض الطرف عن مواجهة الأزمات، فتراهم يستهينون بها، ويلتفون عليها، فإذا بالمشاكل تكبر وتتفاقم حتى تكون المعالجة عندها أصعب والخروج منها أخطر.
ومن أسف نقول إن أشد خلل تعاني منه بلداننا العربية والإسلامية هو غياب المنهجية في علاج الأزمات. إن مجتمعاتنا تئن تحت وطأة العديد من مشاكل الفقر والبطالة والتمييز بمختلف أشكاله، وأزمات لا حصر لها، وعوضاً عن أن نجد المواجهة الجادة لهذه المشاكل، لا نجد سوى سياسة قائمة على غض الطرف عن هذه المشكلات، ولو فتشنا عن تفسير لهذا الأمر لوجدنا أن المسؤولين الرسميين مشغولون بذواتهم، ولفرط أنانيتهم لا يكاد الواحد منهم يشعر بأدنى قدر من معاناة الآخرين، وكأن لسان حاله يقول، ما دامت مشاكل التمييز والفقر والبطالة والإسكان وغيرها بعيدة عني فلا تستحق مني الاهتمام. إن الاشخاص الذي يتبوؤون موقع المسؤولية ينبغي أن يستشعروا آلام من هم تحت مسؤوليتهم، لكن ونتيجة لانشغال هؤلاء بهمومهم الخاصة، فإنهم غالباً ما يتركون المشاكل تزداد وتتطور حتى تتفجر، وحينئذ يكون العلاج أصعب وأخطر. إن غياب المنهجية الواضحة في معالجة الأزمات هي "أم المشاكل" في أي بلد وداخل أي حكومة.
إن من غير الصحيح مراهنة بعض الحكومات على عنصر الزمن في تجاوز المشكلات. إذ كثيراً ما نجد بعض المسؤولين يراهنون على تحمل الناس وتكيفهم وتعايشهم مع المشاكل، وفي ظن هؤلاء المسؤولين أن هذا هو السبيل لتجاوز الازمات، ولكن هذا الكلام غير سليم، سيما في هذا العصر، فالناس بدءوا يعون ما لهم وما عليهم، وإذا كانت الأجيال السابقة تسكت وتتكيف مع الأزمات فإن الأجيال الصاعدة بخلاف ذلك تماماً، فقد أصبح الناس يتمسكون بحقوقهم ويجهرون بمعاناتهم، ويمارسون الضغوط من أجل الخروج من أزماتهم. ولذلك فإن مراهنة الحكومات على تقطيع الوقت للخروج من الأزمات منهجية غير ذات جدوى وغير مضمونة العواقب.
ثمة هناك بعض الحكومات تجهد في محاولة القاء المسؤولية عن الأزمات على أفراد أو جهات بعينهم. هذه الحكومات يحلو لها اختزال بعض القضايا الكبرى بأطراف بعينها، فإذا تحدث شخص ما أو حركة من الحركات عن مشكلة، فإن الحكومة وعوضا عن أن تهتم بمعالجة المشكلة نفسها، تجدها تختزل المشكلة في هذا الشخص أو تلك الحركة وتتناسى جوهر الأزمة!، ويتوهم هؤلاء أنهم إذا قضوا على هذا الطرف أو اعتقلوه أو اسكتوا هذه الحركة أو ذاك الحزب، فإنهم بذلك يُنهون الموضوع. غير أن الحقيقة هي أن الأزمات لا تنتهي ما دامت جذور المشاكل قائمة، فقد يتغير الأشخاص او الجهات المعبرة عنها، إلا انه إذا سكتت جهة فستأتي جهات أخرى، وإذا ما اعتقل شخص أو مات فسيأتي آخرون، ذلك أن القضايا الكبرى ليست مرتبطة ارتباطاً عضوياً بأشخاص بعينهم. ولذلك ينبغي معالجة المعاناة الحقيقية عند الناس بالتوجه مباشرة لعلاج تلك المشكلة واقتلاع تلك المعاناة. إن الأحداث المتصاعدة، والأشخاص الذين يجهرون بالمشكلة، سواء أصابوا في طريقتهم أو أخطأوا، هؤلاء ليسوا هم جوهر المشكلة كما يحاول البعض الايهام بذلك، وإنما هناك مشكلة عبر عنها هؤلاء، فإذا لم تعالج ستبقى تتفجر بصورة أو أخرى، وهذا ليس في مصلحة الوطن.
نحن ندعو المسؤولين في بلادنا العربية والإسلامية إلى الالتفات لمشاكل شعوبهم، ومضاعفة الجهود لمعالجة الفقر والبطالة وضعف الخدمات والتمييز بين الناس وسائر المشاكل المختلفة. ينبغي المراهنة على معالجة هذه المشاكل، والنأي عن المراهنة على الالتفاف، أو الاعتماد على عنصر الزمن في تجاوز الأزمات، فلم يعد الأمر كذلك، فقد أصبح العالم منفتحاً وأصبحت هنالك قوى تبحث عن النفوذ باستثمار الأزمات التي يعاني منها هذا الشعب أو ذاك، ولذلك ينبغي من أجل تحصين استقرار الوطن وأمنه المبادرة لعلاج المشاكل التي يعاني منها الناس، وانتزاع فتيل الأزمات القائمة قبل فوات الأوان.
نسأل الله أن يصلح ما فسد من أمور المسلمين .