ينبغي للإنسان أن يهيئ نفسه لاستقبال الأمور المهمة في حياته وأن لا يتعامل معها بعفوية واسترسال. فإذا أراد أن يلقي كلمة - مثلا- فعليه أن يعمل للتحضير لها جيدا، وعلى غرار ذلك إذا أراد أن يحضر اجتماعاً فيجب أن يُعد نفسه ويرتب أفكاره، وكذلك الحال إذا أراد أن يقابل شخصاً مهماً فعليه أن يفكر فيما يمكن أن يتحدث فيه معه. إن من يستعد ويتهيأ لاستقبال الأمور فسيكون أقرب إلى النجاح في أموره، فشتان بين من يحضر اجتماعاً وقد أعد حديثه ورتب أفكاره بصورة منهجية جيدة، وبين آخر يفاجئه ما يطرح الآخرون دون أن يستعد ذهنياً ونفسياً للتفاعل مع أطروحاتهم، أو يكون مبادراً في طرح الأفكار وقضايا النقاش. إن الإسلام يربي الانسان على التحضير وإعداد النفس في كل الأمور حتى ينجح فيها وحتى يستثمرها ويوظفها بالشكل السليم. ولا أدل على ذلك من حثّ الشريعة للإنسان المسلم على التحضر والتهيؤ للعبادات اليومية بالتزام الآداب والمستحبات، كما ينسحب الأمر ذاته على الأعمال والممارسات العادية للمسلم، فإذا قرأنا كتب الآداب والسنن فسنجد الكثير من التوجيهات حول آداب شرب الماء وأكل الطعام والوضوء والصلاة، بل لا تستثني آداب دخول بيت الخلاء، كل ذلك حتى يتعود المرء على الاستعداد والتهيؤ لأي أمر في حله وترحاله.
إن شهر رمضان ليس زمناً عادياً بالمعيار الإلهي، بل هو زمن مميّز مبارك وعظيم عند الله. من هنا نفهم النصوص الكثيرة التي توجه المسلم لاستقبال شهر رمضان المبارك. إن على المسلم أن يتهيأ نفسياً وعملياً لاستقبال هذا الشهر الكريم. ويندرج في هذا السياق ما ورد عن الإمام الرضا ، فقد روى عبدالسلام بن صالح الهروي قال دخلت على أبي الحسن علي بن موسى الرضا في آخر جمعة من شعبان فقال لي يا أبا الصلت: إن شعبان قد مضى أكثره وهذا آخر جمعة منه فتدارك فيما بقي منه تقصيرك فيما مضى منه، وعليك بالإقبال على ما يعنيك وترك ما لا يعنيك وأكثر من الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن وتب إلى الله من ذنوبك ليقبل شهر الله إليك وأنت مخلص لله عز وجل، ولا تدعن أمانة في عنقك إلا أديتها، ولا في قلبك حقدًا على مؤمن إلا نزعته، ولا ذنبا أنت مرتكبه إلا أقلعت عنه، واتق الله وتوكل عليه في سر أمرك وعلانيتك[1] . كما ورد عن رسول الله خطبته الشهيرة في المسلمين قبيل شهر رمضان والذي جاء فيها (أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله. أنفساكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب)[2] . هذه النصوص والأدعية الواردة في استقبال شهر رمضان وعند رؤية الهلال كلها تصب في سياق التهيؤ لاستقبال هذا الشهر الكريم.
وضمن إطار التهيؤ للشهر الفضيل تركز لنصوص على جملة أمور عملية ومنها:
أولاً: أن يراجع الإنسان نفسه ويصحح أخطاءه. فقد حثت النصوص الشرعية الإنسان المسلم على استباق الشهر الفضيل بإعلان التوبة والأوبة الى الله من ذنوبه ومعاصيه، وذلك حتى يدخل إلى الشهر الكريم وهو نقي من الذنوب والآثام، وورد في الرواية (وتب إلى الله من ذنوبك ليقبل شهر الله إليك وأنت مخلص لله عز وجل)، ينبغي للمرء أن يتفكر لحظات يحصي فيها أخطاءه وذنوبه، ثم ليقرر الاقلاع عنها، فالتوبة تعني الإقرار بعدم العودة للذنب والخطأ.
ثانياً: أداء حقوق الناس. وذلك بأن يقرر المرء قبل حلول شهر رمضان، أن يؤدي الحقوق المادية والمعنوية للناس، فإذا كان للناس عليك حقوق مالية فبادر لدفعها وتبرئة النفس منها، ويعجب الإنسان من القادر على أن يعطي الآخرين حقوقهم ولا يبادر لفعل ذلك، ويشمل ذلك بطبيعة الحال الحقوق الشرعية، فهي لله تعالى من جهة وللناس من جهة أخرى. إن على الإنسان أن يصفي هذه الحقوق لأنه مقبل على الصيام فليكن افطاره على طعام ورزق حلال. وقد ورد عن رسول الله : (كلوا الحلال يتم لكم صومكم)[3] ، ذلك ان من يحمل على عاتقه حقوق وأمانات الآخرين فيأتيه شهر رمضان فلا يصفي هذه الحقوق التي عليه، فيخشى أن يكون ماله مشبوها في كثير من الحالات. وورد عن النبي الأكرم حديث آخر جاء فيه: (العبادة مع أكل الحرام كالبناء على الرمل)[4] ، إن البناء على الرمل لا يثبت بل هو أقرب للزوال، وهكذا ثواب العبادة التي يتبعها أكل الحرام فهو معرض للتلاشي والانتهاء.
ثالثاً: تطهير القلوب من الأحقاد. اذ ينبغي على المسلم أن يستقبل شهر رمضان المبارك بالصوم والدعاء والمناجاة والعبادة بقلب نقي طاهر، أما إذا كان قلب المرء أسوداً يحمل الحقد على هذا وذاك، فإن هذا القلب لن يجلب النظرة الإلهية ، فالله تعالى لا ينظر إلى ذوي القلوب السوداء المليئة بالحقد. من هنا فإن على المرء أن يصفي نفسه من الأحقاد في هذا الشهر الفضيل. ورد عن الإمام الرضا (في أول ليلة يغل المردة من الشياطين ويغفر الله في كل ليلة لسبعين ألف فإذا كان في ليلة القدر غفر الله لمثل ما غفر في رجب وشعبان وشهر رمضان إلى ذلك اليوم، إلا رجل بينه وبين أخيه شحناء فيقول الله عز وجل أنظروا هؤلاء حتى يصطلحوا)[5] ، فلماذا يحرم الإنسان نفسه من مغفرة الله ورحمته لمجرد أنفة وحمية تحجزه عن حل مشكلة مع أخيه.
رابعاً: ينبغي للمسلم أن يضع لنفسه برنامجاً عبادياً خلال الشهر الكريم. فلا ينبغي أن يكون يوم صومك كيوم فطرك، فأين برنامجك لقراءة القرآن الكريم وأينك عن الدعاء والعبادة وصلاة النوافل وصلة الرحم ومساعدة الفقراء وطلب العلم والمعرفة. للقيام بجل هذه الأمور ينبغي أن يضع الإنسان لنفسه برنامجاً يستثمر خلاله هذا الشهر الكريم.
نحمد الله تعالى أن بلغنا وإياكم شهر رمضان المبارك، ونسأله تعالى أن يبلغنا صيامه وقيامه وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال والطاعات. وأن يوفقنا وإياكم للاستفادة من بركات هذا الشهر الكريم .
ا