هي اكبر درس لنا للتهيؤ والاستعداد
الروحي والمادي
شهر الرحمة والمغفرة:
في آخر جمعة من شعبان، وقف رسول الله(ص) خطيباً في المسلمين، فيما روي عن الإمام الرضا(ع) عن آبائه عن عليّ(ع) أنه قال: «إن رسول الله(ص) قد خطبنا ذات يوم في استقبال شهر رمضان، قال: أيُّها الناس، إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة ـ فهو شهر الله، لأن الله تعالى أراد للمسلمين أن يتفرّغوا لعبادته، وأن يذوبوا في عبوديتهم له، وأن يطيعوه، وأن يرتفعوا إلى مواقع القرب لديه ـ شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيّامه أفضل الأيّام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات ـ فهو الشهر الذي أعطى الزمن روحانيته، فكانت كل أيامه ولياليه وساعاته أفضل الأيام والليالي والساعات ـ هو شهر دُعيتم فيه إلى ضيافة الله ـ لتجلسوا على مائدة الرحمة والبركة والرضوان، ليزيدكم تعالى من رحمته وبركته، وليمنحكم رضوانه، وليرتفع بكم إلى مواقع القرب عنده، وتلك هي الضيافة الإلهية الروحية ـ وجُعلتم فيه من أهل كرامة الله ـ فالله تعالى يُكرم عباده المؤمنين في هذا الشهر بكرامته، حتى يجعل الإنسان في كلِّ أوضاعه روحانياً، بحيث يمثل كل وضع وكل حركة حالةً عبادية.
أنفاسكم فيه تسبيح ـ فأنتم عندما تتنفسون، فكأنكم تسبّحون الله، لأن أنفاسكم هي أنفاس الإيمان في ما تعيشونه في ذاتكم من إيمانكم ـ ونومكم فيه عبادة ـ لأنكم تتخفَّفون من عناء العبادة، لتحصلوا على الراحة التي تتهيأون فيها ليوم عبادة جديد ـ وعملكم فيه مقبول ـ يقبل الله أعمالكم التي تتقرَّبون فيها إليه، حتى لو عرض عليها ما يُنقص بعض أوضاعها ـ ودعاؤكم فيه مستجاب ـ فالله يسمع نداءكم ودعاءكم ويرحمكم من خلال ذلك، فاستعدُّوا لتبتهلوا إلى الله ـ فاسألوا الله ربكم بنيّات صادقة، وقلوب طاهرة، أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه ـ هذا الكتاب الذي يرتفع بعقولكم وقلوبكم لتعيشوا مفاهيمه وروحانيته وشريعته ـ فإن الشقي من حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم»، لأن هذا الشهر هو موسم المغفرة والرحمة، وموسم القرب من الله، الّذي يتنافس فيه المؤمنون لنيل رضاه، فمن فَقَد غفران الله ورحمته في هذا الموسم، لأنه حوّل شهره إلى لهو وعبث ومعصية، فإنه سيعيش الشقاء ويخسر خسراناً مبيناً.

المنهاج والبرنامج:
ويكمل النبي(ص): «واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه ـ فالناس على قسمين: فمن أطاع الله وعبده، فإنَّ وقوفه سوف يقصر يوم القيامة، وأما من عصى الله، فإن وقوفه سوف يطول، وسوف يجوع ويعطش. فعندما تجوعون، أوحوا لأنفسكم بأنكم لا تريدون أن تقفوا طويلاً يوم القيامة ـ وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم ـ فهو شهر الصدقة على الفقراء والمساكين، لأن الإنسان عندما يجوع أو يعطش، فإنه يشعر بجوع الجائعين، وظمأ الظامئين ـ ووقّروا كباركم وارحموا صغاركم ـ فعندما يلتقي الجيل الجديد بالجيل القديم، فإنَّ عليه أن يوقّره، لأنه سبقه إلى الإيمان؛ أن يوقّر عقول الكبار وتجربتهم وإسلامهم، حتى لو كان يملك بعض الفضل عليهم، وعلى الكبار أن يرحموا محدودية أذهان صغارهم وقلّة خبرتهم ـ وصلوا أرحامكم ـ حتى لو كان الرحم رحماً مقاطعاً ـ واحفظوا ألسنتكم ـ عن كل ما حرّمه الله تعالى من الكذب والغيبة والنميمة والفحش والبذاء، وكل ما يرهق أوضاع الناس ـ وغضّوا عمّا لا يحل النظر إليه أبصاركم، وعمّا لا يحل الاستماع إليه أسماعكم ـ فلا تنظروا إلى ما يسيء إلى التزاماتكم الروحية، ولا تستمعوا إلى ما لا يحلّ لكم الاستماع إليه ـ وتحنَّنوا على أيتام الناس ـ هؤلاء الذين هم أمانة الله عندكم، فالله أراد للأيتام أن يكونوا أمانة المجتمع، وعلى المجتمع أن يتحمّل مسؤوليّتهم. ولذلك علينا أن نرعى الأيتام ونحفظهم في بيوتهم أو مبرّاتهم ـ يُتحنن على أيتامكم ـ فما يدرينا، فقد يأتي الأجل لبعضنا في وقت مبكر، ويترك أيتاماً من بعده، فعندما يكون التحنّن على اليتيم خلقاً للمجتمع، فإن المسألة ستطال أيتامه.

ـ وتوبوا إلى الله من ذنوبكم ـ لأن شهر رمضان هو شهر التوبة، والله يقبل التوبة عن عباده ويحبّ التوّابين ـ وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلاتكم، فإنها أفضل الساعات، ينظر الله فيها بالرحمة إلى عباده، يجيبهم إذا ناجوه، ويلبيهم إذا نادوه، ويستجيب لهم إذا دعوه ـ لأن شهر رمضان هو الشهر الذي يعيش فيه الإنسان في عطاء الله، عندما يدعو الله في كل ما أهمّه، وفي كل ما يحتاج إليه، والله تعالى قال: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}(البقرة/186).

ـ أيها الناس، إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكّوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخففوا عنها بطول سجودكم، واعلموا أن الله تعالى ذكره، أقسم بعزّته أن لا يعذّب المصلّين والساجدين، وأن لا يروّعهم بالنار يوم يقوم الناس لربّ العالمين. أيها الناس، من فطّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر، كان له بذلك عند الله عتق رقبة، ومغفرة لما مضى من ذنوبه"، قيل: يا رسول الله، وليس كلنا يقدر على ذلك، فقال(ص): "اتقوا النار ولو بشق تمرة، اتّقوا النّار ولو بشربة ماء».

ويتابع النبي(ص): «أيُّها الناس، من حسّن منكم في هذا الشهر خلقه ـ مع عياله وعمّاله ومع الناس من حوله، بحيث لم يجعل من الصوم مبرراً لضيق خلقه وللتعسّف مع الآخرين ـ كان له جوازاً على الصراط يوم تزلُّ فيه الأقدام، ومن خفَّف في هذا الشهر عمّا ملكت يمينه ـ عن عمّاله وموظّفيه ـ خفّف الله عليه حسابه، ومن كفّ فيه شرّه كفّ الله عنه غضبه يوم القيامة، ومن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه، ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه، ومن تطوّع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار، ومن أدّى فيه فرضاً كان له ثواب من أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن أكثر فيه من الصلاة عليّ ثقّل الله ميزانه يوم تخفّ الموازين، ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور. أيها الناس إن أبواب الجنان في هذا الشهر مفتّحة، فسلوا ربكم أن لا يغلقها عليكم، وأبواب النيران مغلّقة، فسلوا ربكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة فسلوا ربكم أن لا يسلّطها عليكم».

الورع عن محارم الله:
قال أمير المؤمين(ع): «فقمت، وقلت: يا رسول الله، ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال(ص): يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله»، أن يتورّع الإنسان عن كلِّ حرام حرّمه الله عليه ليكون الإنسان المطيع لله ولرسوله، والإنسان الذي يرتفع إلى مواقع القرب عند الله، وليكون خيراً لنفسه ولعياله وللناس وجميع ما يحيط به، وخيراً لله في طاعته وعبادته له.

أيها الناس، استقبلوا شهر رمضان بكلِّ ما يمكنكم من طاعة الله وعبادته، حتى ننال رضى الله تعالى ونحصل على محبته، وحتى نهذّب أنفسنا بكل ما في هذا الشهر من فيوضات الخير والرضوان، لنحصل على التقوى ورضوان الله، حتى نرتفع إليه {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}
(الشعراء/88-89).

وفقنا الله وآياكم لصوم شهر رمضان المبارك
والقيام والتعبد فيه للبارئ تعالى