بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه الأخيار المنتجبين.
قال الله تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}.
وقال جَلَّ وعلا: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}.
وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}.
إنها للحظات تاريخية تلك التي تعيشها أمتنا العربية والإسلامية هذه الأيام، فبعد عقود من الصبر على المعاناة والصمت على الفساد الذي نخر بنية مؤسساتنا، وبعد سنينٍ طوالٍٍٍ عجافٍ يستخف الحاكمون بمقدرات شعوبنا وبقدراتها العظيمة وطاقاتها الفذة هاهي الشعوب نفسها تقول كلمتها واضحة مدوية يسمعها الجميع وترتعد لها فرائص من ظنّوا يوماً من الأيام أن هذه الشعوب رضيت بقدرها وتخلّت عن هويتها وكرامتها.
ها نحن اليوم نعيش عصر الثورات الشعبية التي أراد لها أبناؤها أن تعبر عن حنقهم وسخطهم على ما كابدوه من إجراءات تعسفية تقمع الحريات وتبدد الثروات وتصادر الأحلام والطموحات من قبل حفنة من الحكام انفصلوا عن أبناء جلدتهم وغرّتهم الأصوات المتملقة التي تحيط بهم وما عرفوا أن صوت المتملق بحوح أمام دوي الشعوب، وأن اصطفاف المادحين كسيح أمام سيول المنتفضين العازمين على التغيير.
ها نحن اليوم وبعد أن تابعنا بالأمس القريب ملحمة الشعب التونسي الشقيق العظيمة وهو يثأر لكرامته ويطيح بمن سامه سوء العذاب ويتركه مشرداً لا يأوى إلى ركن ركين ولا يستقبله من كان له بالأمس خير قرين، نرى اليوم ثورة شعبية ثانية في مصر الشقيقة، تابعناها هي الأخرى بيومياتها الباسلة وإرادة شبابها الواعي الغيور، وعشنا معهم الآلام والآمال، تابعناهم وأيدينا مرفوعة للسماء بالدعاء من الله أن يحفظهم وينصرهم ويحقق مطالبهم ... وكان من أسعد اللحظات علينا أن نرى تلك المسيرات تكلل بالنصر وتتحقق رغبة الجماهير بالتغيير.
ولا زلنا نرى تلك الشرارة المباركة التي انطلقت من تونس الحبيبة توقد شجرة الحرية في نفوس شعوب دول أخرى من منطقتنا ليمتد تأثيرها إلى الأردن واليمن والجزائر والبحرين وغيرها. إنني اغتنم هذه الفرصة التاريخية من تاريخنا المعاصر لأخاطب المسؤولين في كل هذه الدول وأنصحهم بالعودة إلى أحضان شعوبهم ومجتمعاتهم وأن يستمعوا إلى أصوات تلك الشعوب وتطلعاتها لحياة كريمة يُحترم فيها الإنسان وتتكافأ فيها الفرص بمستوى واحد أمام الجميع دون محاباة أو محسوبية.
إن تلك الانتفاضات الجماهيرية المطالبة بمستقبل أفضل لأبنائها تعد خير دليل على شعور أصحابها بعمق الإحباط من الوضع القائم ويأسهم مما آلت إليه مسيرة بناء الدولة وكوادرها ومؤسساتها في مجتمعاتنا من فشل ذريع وإخفاق مؤلم. إنها رأي تلك الشعوب بما يتشدق به حكامها حول أرقام التنمية والإصلاح وتشييد الدولة القوية المستقلة، لقد سئمت تلك الشعوب من البطالة التي تحاصرها في كل مكان، ومن التنمية الاقتصادية الكاذبة، ومن الإصلاح الزراعي الخادع، ومن البنى التحتية الهشَّة، ومن المصادرة للحريات وقمعها وملء السجون بالمعتقلين السياسيين، ومن الانعدام المهول للتأمين الصحي، ومن البرامج التعليمية الهزيلة، ومن الفساد المتفشي في مؤسسة القضاء تلك المؤسسة التي تعتبر الروح الأخلاقية لكل أمية حية. لقد ملّوا من مهازل الانتخابات التي يحصد فيها الحاكمون تسعة وتسعون صوتاً من أصوات الناخبين.
إن الأزمة الراهنة لا تحل فقط بمجرد فتح مراكز الاقتراع أمام الناخبين، ولن ترضى الجماهير بمجرد إقامة انتخابات ـ وإن كانت حرة نزيهة ـ لا تلبي تطلعات الشعب ولا توفر لهم كرامة العيش ولا يفي المرشحون بوعودهم التي قطعوها على أنفسهم يوم الانتخابات. لن ترضى تلك الجماهير بدولة يسوسها رجال انتهازيون مستلبون يهملون طموحات الشعب بوطنٍ مستقلٍ واقتصادٍ نامٍ وتعليمٍ متطورٍ...
إنني أوجه كلمتي بنحو خاص إلى حكام العراق الجدد بأن يعوا أنهم ليسوا بمنأى عن هذه المظاهرات والانتفاضات، وأن شعب العراق العظيم الصابر الممتحن سوف لن يقنع بأن تمرر عليه أجندة ومخططات فاشلة فاسدة بحجة أن هناك انتخابات حرة وضعت هؤلاء المسؤولين حيث هم اليوم. على حكام العراق أن يعرفوا أن أدائهم لواجباتهم في خدمة هذا الشعب هي الضمانة الوحيدة لبقائهم هم وأحزابهم في سدة الحكم، وأن أي استمرار للوضع القائم ـ الذي يؤسف المرء أن يصف به دولة نفطية ثرية لها شعب عريق كالعراق ـ سوف لن يدوم طويلاً مهما حاول هؤلاء الحكام إلقاء الخطابات البليغة وإشغال الناس بمخاوف وهمية.
نعم، قد تؤجل بعض الخطب والتصريحات ظهور مواقف البعض الرافضة لهذا الوضع المتردي ولكنَّ هذا لن يُسعد الحكام الجدد كثيراً، وستأتي في لحظة ما ساعة الحساب من قبل هذه الجماهير وتطيح بكل هذه الخطب الرنانة التي لم تثمر على مستوى الواقع شيئاً، حينها سيعرف هؤلاء الحكام أن صبر الجماهير له حدود وأن سوء ـ لا بل انعدام ـ الخدمات وبرامج التعليم والصحة والإسكان والمواصلات أبلغ من كل الخطب الجوفاء التي أطلقوها.
إن المواطن العراقي تجاوز ذلك المنطق الذي يديم نفسه من خلال الاستثمار في مخاوف الناس بالإرهاب أو الطائفية أو الحرص المذهبي، وهو اليوم يتطلع إلى منطق جديد يصون كرامته ويفسح أمامه الفرص بحياة طيبة أفضل في السكن والتعليم وخدمات مستدامة. إنه يريد أن يشعر بكرامته داخل الوطن وخارجه، يريد دولة تسخر كل طاقاتها من أجل النهوض بواقعه المرير المتهالك، يريد أن يلحظ تلك المليارات من ثرواته النفطية وغيرها أن تظهر عليه في عيش يليق به ويضعه على أقل التقادير بمصاف الشعوب التي تجاوره والتي لا تمتلك ما يمتلكه من مصادر الثروة(بل إن بعضها لا يمتلك حتى عشر ما يمتلكه) ولا يتفوقون عليه لا بعقول راجحة ولا بهمّة نحو التقدم عالية ولا بتاريخ مجيد يلهم الطاقات ويشحذ العزائم.
فيا حكام العراق الجدد لا تضيعوا عليكم الفرصة ولا يغرنكم حلم هذا الشعب الكريم، فإنّ ألف ساعة مما تعدون قد تنقضي في حساب الجماهير في غضون ثوانٍ معدودات، وحينها لن تنفع التمنيات شيئاً وتسقط كل أغطية الشرعية مهما كان مصدرها طالما كانت معزولة عن إرادة الجماهير.
صان الله المسلمين في كل مكان وحفظ بلدانهم وأنعم عليهم بالأمن والرفاه، صان الله العراق الأبي وشعبه الكريم من كل سوء وأفرغ عليه الخير والبركة والتقدم والرخاء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
والسلام عليكم وعلى جميع عباد الله الصالحين ورحمة الله وبركاته
كمال الحيدري