نحن نعلم أن الإمام المهدي (عج) يظهر في وقت انتشار الظلم، وسأم الناس منه، وانتظارهم لمن ينقذهم من هذا الظلم، ولكن على الناس أن يستعدّوا لتقبّل العدالة ومستلزماتها أيضاً. وأن يعرفوا كذلك جذور الظلم ولو بالإجمال. ففي هذه الصورة ستظهر موجة من إقبال الناس على الإمام (عج) عند ظهوره، وسيتّبعه أهل العالم، وتستقر حكومته الحقة على وجه الأرض بسهولة.

لا يعتمد الله على الأمواج العابرة في المجتمع

لكنّ النظرة العامية هي التصوّر بأن تفشّي الظلم، سيُحدث «موجة» من الإقبال على الإمام، وسترتكز دعائم حكومته على هذا الموج ليس إلا من دون تأهب عام لتقبّل العدالة ومستلزماتها. وهذا تصوّر سطحي، فإنّ الله هل يبحث عن موجة حتى يُركب الحكومة الحقة على موجة «استياء الناس من الظلم»؟
وأساساً لا يكترث الله بالأمواج العابرة وليس ديدنه تسيير الدين على الأمواج. وإذا ما انتفع في وقت من الأمواج الاجتماعية لتسيير جانب من الدين، فإنه بنفسه سيُهيّءُ أرضية انكسار هذه الأمواج عبر الابتلاءات الشديدة. ولفهم هذا الكلام بشكل أدق، نعود ثانية ونُلقي نظرة إلى تاريخ صدر الإسلام:
في أواخر عمر النبي الشريف وإبّان اقتداره لقوة أصحابه، ظهرت موجة كبيرة من التوجه إلى الإسلام: ﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ في‏ دينِ اللَّهِ أَفْواجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ...﴾[1] ، فلو كان المراد من هذه الأفواج، هم الذين اعتنقوا الإسلام في أواخر فترة الرسالة، فمن الواضح أنهم لا يتصفون بإخلاص السابقين في الإسلام. ولذا يمكن القول بأن الأفواج هذه هي نفس تلك الأمواج المفيدة التي اتّجهت صوب الإسلام الأصيل ولكن لم يثبت ويستقر هذا التوجه في الكثير منهم.
فإنّ ظهور هذه الموجة وإن كانت مؤثرة في تعزيز الدين واستقرار المجتمع الديني وبداية الحضارة الإسلامية، إلّا أنّ الله بعد رحيل النبي (ص)، جعل الامتحان في عهد أمير المؤمنين (ع) كالسدّ الذي يقف بوجه هذه الموجة، فسقط الكثير من الذين لم يعتنقوا الإسلام بأصالة، وفقدوا إيمانهم.
وبعد منعطفات كثيرة، وفي أواخر خلافة أمير المؤمنين (ع)، آل المطاف بالناس إلى أن يستعدوا لمواجهة معاوية وتنفيذ أمر الإمام في محاربته - حيث تمرّد على الخليفة الذي اتفق عليه المسلمون - ولكن حان وقت شهادة الإمام.
فلو كانت رؤيتنا سطحية، لكنّا نقول لله: «إلهي! إنك دقيق في معرفة الوقت، والناس لتوّهم قد عرفوا جانباً من أحقية علي (ع) واستعدّوا للالتفاف حوله. وبعد أعوام مما ألحقوا به من أذى، عزموا الآن على اتّباعه، فليس هذا الوقت مناسباً لشهادة علي (ع).» ولعلّ الله أيضاً سيجيب قائلاً: «حسناً، وصيّه موجود وهو الإمام الحسن (ع)، والإمام إمامٌ لا فرق بينهما. فلو أدركوا حقيقة الإسلام حقاً وخضعوا للولاية، فليخضعوا لولاية وصيّه.»
ألا ترون أنّ الله لا يريد مواكبة أيّة موجة؛ ولهذا قبض علي بن أبي طالب (ع) في الوقت الحسّاس. والناس أيضاً لم يتّبعوا الإمام الحسن المجتبى (ع) وسقطوا. وهذا هو أسلوب الله حيث يقوم أحياناً في الابتلاءات بما هو معاكس للجوّ ومخالف للموجة.
وقد وعد الله في كتابه الكريم أن يبتلي المؤمنين وأن لا يعتمد على مجرد نداءاتهم ومدّعياتهم الإيمانية، بل يمحتن الأجواء الإسلامية بما يبتليهم في إيمانهم: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾[2]. وفي موضع آخر يعتبر دخول الإيمان في القلوب أمراً مطلوباً ولا يقبل الادّعاء الواهي في ذلك:﴿قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلکِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا یَدْخُلِ الْإیمانُ في‏ قُلُوبِکُمْ﴾[3].


فهل من السيّء أن يقدّر الله وعي الإنسان وعقيدته الراسخة ويقينه الصائب ولا يكترث بالموجة؟ يريد بنا أنا وأنت أن نكون من أنصار صاحب العصر (عج) وأن نشهد إقامة الحق عن وعي وعقيدة، لا بالانخراط في الأجواء.

يتبع إن شاء الله ...


[1]. سورة النصر، الآية 2.
نزلت هذه السورة بعد فتح مكة، والآية المشار إليها تبشّر بانتشار الإسلام واعتناق الناس له. لاكتساب المزيد من المعلومات راجع تفسير الميزان في ذيل هذه السورة.
[2]. سورة العنکبوت، الآیة 2 و3. وكذلك انظر: سورة بقرة، الآیة 214؛ سورة آل عمران، الآیة 142؛ سورة التوبة، الآیة 16.
[3]. سورة الحجرات، الآیة 14.