أبو القاسم الشابي
لم يدر في خلد ذلك الشاب الغض الطري، الذي ولد ضعيف القلب هزيل البنية، أن يخلد اسمه في تاريخ النضال وتغدو كلماته التي سطرها وحي شعره مضرب المثل في الصمود ومقارعة الظالمين، التي تمثلت في أبياته الشهيرة المضمنة ــ استعارة ــ في النشيد الوطني التونسي الذي كتبه مصطفى الرافعي: (إذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلا بد أن يستجيب القدر، ولا بد لليل أن ينجلي.. ولا بد للقيد أن ينكسر).
أبو القاسم الشابي الشاعر التونسي الذي أتم حفظ القرآن في التاسعة من عمره، واستقام لسانه عربيا في مرحلة مبكرة، يمثل قصة تستحق التأمل في فصولها، أبرزها سنوات عمره القصيرة التي قضاها بصحبة مرض لم يمهله سوى 25 عاما قضاها ورحل مبكرا قبل أن يلتفت المجتمع إليه، وتقلبه بصحبة والده القاضي الشيخ محمد الشابي في مناطق تونس الساحلية والجبلية، مارا على بيئات متعددة أكسبته سعة الخيال والتأمل، وتتلمذه في منارة «الزيتونة» التي لم تشبع نهمه بمناهجها آنذاك، فضلا عن مصادمة آرائه لشيوخها.. ففضل التوجه لكلية الحقوق بعد أن نال إجازة «التطويع» من الزيتونة.
هناك إجماع من النقاد على جزالة ألفاظ الشابي في شعره، واحتوائه على مفردات غريبة لمن هم في سنه، تدل على إحاطته بالقاموس العربي مع مفارقة عجيبة في سنواته الأخيرة نقم فيها على الشعر العربي التقليدي، إلا أن حياته لم تكن فسحتها رشيقة، عندما رضخ لطاعة أبيه في الزواج رغم جسمه العليل وقلبه الضعيف، إلى أن رحل الأب.. وبوفاته اهتز كيان الشاعر الشاب وضعف قلبه أكثر وأكثر، وقال فيه (ياموت قد مزقت صدري.. وقصمت بالأرزاء ظهري، وفجعتني فيمن أحب.. ومن إليه أبث سري)، ولم يتوقف بوحه العاطفي المتوج بقصيدة «صلوات في هيكل الحب» وغناها محمد عبده (عذبة أنت كالطفولة، كالأحلام.. كاللحن كالصباح الجديد)، وتأبى مرحلة النضال إلا أن تكون الأبرز في حياته، كما في شهيرته «إرادة الحياة» التي تلتها «إلى طغاة العالم» (ألا أيها الظالم المستبد.. حبيب الظلام عدو الحياة، سخرت بأنات شعب ضعيف.. وكفك مخضوبة من دماه).
أكثر مشهد يبكي في قصة الفتى الصغير، تفاصيل لحظة ذبحة صدرية أصابته، ظل يلح فيها طالبا شيئا لم يعرفوه، وبعد ساعتين قال: أعطني ورقة وقلم وكتب (يا إله الوجود، هذي جراح في فؤادي تشكو إليك الدواهي ولم يحسن الشابي مداراة مرضه، بل استمر يرهق نفسه بما كان الأطباء قد نهوه عنه).. رحمه الله وحفظ تونس وأهلها.
*نقلا عن "عكاظ" السعودية