تحت ظلال أشجار داره، الواقعة في قضاء أبي الخصيب جنوب البصرة، يجلس (الحاج عبدالقادر المياحي) البالغ من العمر 79 عاماً، كعادته يوميا، وقد ذبل عوده واشتعل رأسه شيبا ، يستذكر عذب ذكرياته مع أخيه الأكبر (متعب) الذي غادر البصرة منذ نحو نصف قرن، وانقطعت أخباره وضاع مع أمواج البحر التي ركبها وعياله طلباً للتجارة باتجاه إيران، وقبل إن يختم نهاره، يرفع المياحي يديه إلى السماء بعيون تملؤها الدموع ولا تكاد تبصر النور مردداً بصوت شجي حزين "يا راد يوسف إلى يعقوب.. رد اليّ أحبتي".
ولم يطب للحاج عبد القادر الرقاد طيلة تلك الأعوام، فبينما هو متسائل عنهم، حتى شاءت الأقدار، بعد أن عزم على السفر إلى إيران، طلباً لعلاج عينيه، وحل في مدينة عبّادان المجاورة للبصرة، وما فتئ التحسس في اثر أخيه وعياله غير آيِس من لقائه، متنقلاً بين الأحياء والأزقة، طارقاً الأبواب سائلاً عنهم، حينها شم في احدهم رائحة أخيه الغائب، فعانقه بلا إرادة عناقاً طويلاً، فتأكد بعد حوار امتزجت به دموع الفرح والحزن، انه مما بقي له من أخيه، الذي ضمّه التراب، لتنتهي قصة هي الأغرب في عصرنا هذا، دام أمد الفراق فيها 47 عاماً.
وداع العائلة الأخير
الحاج (عبدالقادر عبدالحسين المياحي)، من مواليد 1934 البصرة، يحدث إذاعة المربد قائلا" الأمر برمته حدث لي كالمعجزة، وهو لطف رباني لنا كعائلة وعشيرة، وأنا لم افقد أيماني بالخالق عزوجل ولقاء أحبتي".
ويتابع قائلاً " فارقنا أخي الأكبر(متعب) مع عياله في خمسينيات القرن الماضي، مسافراً باتجاه جنوب إيران، وزارنا مرة واحدة في البصرة عام 1966، وكان لديه خمس أولاد صغار وبنت، وبعد أحداث العراق وانقلاباته وتغيرات الحكم فيه، رجع حينها إلى إيران ولم يعد، ولانعلم بالتحديد مدينته ومقر سكناه، لكن كانت تصلنا منه تحايا عبر وسيط في الكويت بشكل متقطع" مضيفا "لم تكن آنذاك هناك وسيلة اتصال هاتفي، أو رقم بريدي للتواصل معه، كما إن مدينتنا الصالحية تعد ريفية، واقتصرت معرفتنا بوجوده في إيران فحسب، ثم جاءنا خبر وفاته المفجع عام 1976 في ديار الغربة".
ويواصل الحاج المياحي حكايته مسترسلاً "ما زاد الطين بِلَّة، هو الانقلاب الإيراني على الشاه وقيام الثورة الإسلامية في سبعينيات القرن الماضي، وفي المقابل تسلم حزب البعث زمام الحكم وتلاها نشوب الحرب العراقية الإيرانية، في الثمانينيات، حيث انتقلنا من البصرة إلى النجف، واتسعت فجوة الفراق والبعد بيننا وبين عياله، وعدنا إلى البصرة عام 1996 وانتقلنا إلى مدينة مهيجران في قضاء أبي الخصيب، بدلاً من الصالحية التي دمرها الحرب".
عناق الأقدار ينهي الفراق الطويل
ويمضي الكهل البصري سارداً محاسن أقداره "بعدما اشتد الضعف في عيني، قررت التوجه إلى العاصمة الإيرانية طهران طلباً للعلاج، لكن واجهتنا مشكلة التحدث باللغة الفارسية، مما اضطررنا الى الذهاب لمدينة عبّادان الجنوبية، التي يتحدث أهلها اللغة العربية، وما إن وصلتها وانشغلت في إجراء الفحوصات، حتى دب في قلبي شعور غريب بهذه المدينة، حفزني بشدة لمواصلة البحث عن ضالتي".
مضيفاً " في صباح يوم الجمعة، 3 / نيسان/ 2013، كنت انتقل بين الأحياء والأزقة، اسأل كبار السن والشيوخ والوجهاء، بحثاً عن عائلة من البصرة والصالحية قصدت إيران آنذاك للتجارة، حتى طرقت باب دار، خرج منها رجل في الخمسين من عمره، لكن يتمثل فيه روح أخي الغريب وشمائله، فعانقته من ساعتي، وأجهشت بالبكاء، وبعد سؤال وجواب، تأكدت انه ابن أخي الأكبر، وبالكاد يعرف انحداره من البصرة، ويحمل الجنسية الإيرانية التي ذكر فيها اسم أخي ولقبنا ذاته، بعدها التقيت الآخرين من العائلة بلقاء حزين محفوف بأشواق و حنين الماضي الجميل، واستجاب الرحمن دعائي وحقق لي حلمي في لم شملي على كبر سني، ثم توجهنا جميعاً إلى المقبرة لزيارة أخي الذي غيّبه الموت عني، وارتحل إلى دار الآخرة".
ويلفت صاحب القصة الغريبة "بالرغم من إن أولاد أخي متعب، حازوا على الجنسية الإيرانية، وتجاوزت أعمارهم الخمسين عاماً، ومعظمهم لايجيدون اللغة العربية، لكنهم ينوون العودة إلى العراق، والتوطن فيه، إلّا انه تواجههم عقبة قيد النفوس في دائرة الجنسية التي لايمتلكها سوى والدهم المتوفى في إيران، وهو أمر بحاجة إلى متابعة عبر توكيل محام لحصولهم على الجنسية العراقية وتشجيعهم للانتقال إلى البصرة".
ويختتم الحاج المياحي حديثه قائلاً" بعد عودتي إلى البصرة، تهيئنا لاستقبال عائلة أخي، وأقمنا لهم حفلاً عائلياً حميماً لا يوصف، لنوثّق حبنا لهم وانحدارهم ألينا، ونرغّب عودة هذه البضعة التي سكنت ديار الغربة، وننهي فصلاً من الفراق دام نصف قرن" مضيفاً "نحن على اتصال يومي معهم عبر الهاتف، ونعلمهم الجمل والكلمات العربية التي لايجيدو نطقها".
لقد أسفرت الانقلابات والحروب والأحداث السياسية التي جرت على ارض العراق، سيما التي كانت في منتصف القرن الماضي وحتى يوما هذا، إلى هجرة ولجوء الكثير من المواطنين والكفاءات والمثقفين إلى جانب الأقليات الدينية، إلى دول العالم، بحثاً عن ملاذ ومستقبل آمن، ما جعلت العراق دولة متقدمه في إحصائيات الهجرة واللجوء الإنساني والسياسي على صعيد دول المنطقة.