طبقات فحول الشعراء
لابن سلام الجمحي
مولده :
ولد محمد بن سلام الجمحي في البصرة عام 139 هـ ، وعاش حياته في بغداد ، وتوفى بها عام 232هـ . وهو أحد الإخباريين والرواة كما قال فيه صاحب الفهرست ، وهو من جملة أهل الأدب كما قال فيه الأنباري صاحب كتاب " نزهة الألباء في طبقات الأدباء " كما أنه نحوي أخذ النحو عن حماد بن سلمـة ، وهو كذلك لغوي عده الزبيدي الأندلسي صاحب كتاب " طبقات النحويين واللغويين " في الطبقة الخامسة من اللغويين البصريين وهو يعد أحد كبار نقاد الشعر .
وقد تتلمذ محمد على يد والده سلام الجمحي ، وأراد له الأب أن يكون عالما أو فقيها ، وكان أخوه عبد الرحمن من رواد الحـديث . وقد قرأ محمد بن سلام الجمحي على فحول شيوخ الأدب واللغة في عصره ؛ فدرس على يد عبد الملك الأصمعي ، وخلف الأحمر ، وأبو عبيدة معمر بن المثنى ، والمفضل الضبي ، ويونس بن حبيب ، وغيرهم .
أهم مؤلفاته :
أورد ابن النديم في كتابه الفهرست ثبتا بأسماء الكتب التي ألفها ابن سلام ومنها : كتاب الفاصل في ملح الأخبار والأشعار ، وكتاب بيوتات العرب ، وكتاب طبقات الشعراء الجاهليين ، وكتاب طبقات الشعراء الإسلاميين ، وكتاب غريب القرآن .
ومحمد بن سلام الجمحي هو أول ناقد متخصص في القرن الثالث الهجري ، وكتابه طبقات الشعراء هو أول مصدر نقدي وصل إلينا حتى الآن . فقد كانت الأعمال النقدية قبله لا تتجاوز الجمل أو الفقرات ، نراها مبعثرة في المصادر الأدبية . ونرى أن طبقات الشعراء الجاهليين ، وطبقات الشعراء الإسلاميين وطبقات الشعراء ، هى مسميات مختلفة لكتاب واحد ، هو طبقات الشعراء ، أو طبقات فحول الشعراء .
أهمية ابن سلام ومكانته :
يعتبر محمد بن سلام الجمحي أول من نظم البحث في القضايا الأدبية والنقدية المختلفة ، وعرف كيف يعرضها ويبرهن عليها ويستنبط منها حقائق أدبية في كتابه طبقات فحول الشعراء . وقد شارك معاصريه في كثير من الأفكار ، ولكنه محصها وحققها وأضاف إليها ، وصبغها بصبغة البحث العلمي وسلكها في كتاب خاص ، هو خلاصة ما قيل إلي عهده في أشعار الجاهلية والإسلام ، فالفرق بينه وبين من عاصره كثير ، حيث زاد على ما قالوا في النقد الفني وفي النظر إلى الأدب ، حيث أودع كل معارف عصره في النقد في كتابه الذي يعد أسبق الكتب في ذلك المجال ، فكان أول المؤلفين في النقد الأدبي ، بالإضافة إلي أنه قد جمع الآراء المبعثرة التي قالها الأدباء والعلماء في الشعر والشعراء ، ودرسها دراسة نقدية بروح عالم متأثر بطريقة عصره في الاستيعاب والشرح والتحليل وذكر الأسباب والمسببات .
مادة الكتاب :
ينقسم الكتاب إلى قسمين :
القسم الأول - ويشمل المقدمة وتحدث فيها ابن سلام عن المشكلات الآتية :
أولا : مفهوم الشعر ، وقد جعل ابن سلام الشعر صناعة لا يحسنها إلا من كان على دراية واسعة بها ، فشأن الشعر عنده كشأن سائر الصناعات . فهو يقول : ( وللشعر صناعة وثقافة ، يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات ، منها ما تتثقفه العين ، ومنها ما تتثقفه الأذن ، ومنها ما تتثقفه اليد ، ومنها ما يتثقفه اللسان ، من ذلك اللؤلؤ والياقوت ، لا يعرف بصفة ولا وزن دون المعاينة ممن يبصره ؛ ومن ذلك الجهبذة بالدينار والدرهم ، لا تعرف جودتهما بلون ، ولا مس ، ولا صراط ، ولا وزن، ولا صفة ، ويعرفه الناقد عند المعاينة ، فيعرف بهرجها وزائفها ، وكذلك يعرف الرقيق فتوصف الجارية ، فيقال ناصعة اللون ، نقية الثغر ، حسنة العين والأنف ، جيدة النهود، طريفة اللسان ، واردة الشعر ، فتكون في هذه الصفة بمائة دينار وبمائتي دينار، وتكون أخرى بألف دينار وأكثر ، لا يجد واصفها مزيدا على هذه الصفة ) . وابن سلام في هذا النص يذكر الشروط التي يجب أن تتوفر في الناقد ، أو بالأحرى جسد لنا عوامل ثقافة الناقد ، ويتمثل العامل الأول عنده في ذوق الناقد ، فالكثير من أحكام الناقد تعتمد على ذوقه الشخصي ، وعليه أن يقرأ كثيرا للشعراء .
ويتجسد العامل الثاني في التربة ، فهذا المران يهذب ذوقه ويربيه ، ويحدد له مواقع الجمال في الشعر ، ومن الأفكار التي عرض لها ابن سلام في كتابهفكرة الشعر الموضوع ، الذي يضاف إلى الجاهليين وليس لهم . وتلك الفكرة تزعجه ، وتحتل الجانب الأعظم مما يتصل بالنقد الأدبي في مقدمة كتابه . وترد في ثنايا الكتاب مرة بعد مرة ، وقد نبه بعض العلماء على أن هناك مصنوعا ، كخلف الأحمر ، والمفضل الضبي ، وكان ابن سلام أشدهم تحرجا في هذا الشعر ، وأراد خدمة الروح العلمية بإسناد كل قول إلى صاحبه ، وكل شعر إلى عصره .
ويؤمن ابن سلام أن من الشعر الجاهلي ما هو مصنوع ، وتلك فكرة ذاعت قبله ، لكنه يعرضها فيحسن العرض ، ويبرهن عليها فيصيب ، فخلف الأحمر يرى أن من الشعر ما هو مصنوع لا خير فيه ، فلذلك يرده . ويونس بن حبيب يتهم حماد الراوية بالكذب ، وأبو عبيدة يروي أن داوود بن متمم بن نويرة قدم البصرة ، فأتاه هو وابن نوح فسألاه عن شعر أبيه متمم ، فلما نقد شعر أبيه جعل يزيد في الأشعار ويضعها ، وإذا كلام دون كلام متمم .
وابن سلام يعيب على محمد بن إسحاق ، صاحب السيرة النبوية ؛ أنه هجن الشعر وأفسده ، وأورد في كتابه أشعارا لرجال لم يقولوا الشعر قط ، ونساء لم يقلن شعرا قط، بل أورد أشعارا لعاد وثمود . وقد أبطل ابن سلام الجمحي هذا الشعر ونفاه بأدلة أربعة وهى :
1- دليل نقلي :
فالله عز وجل يقول : ( وأنه أهلك عاد الأولى وثمود فما أبقى ) ، ويقول في عاد (فهل ترى لهم من باقية ) ، لم تبق بقية من عاد ، فمن إذن حمل هذا الشعر ومن أداه منذ ألوف السنين .
2- إن اللغة العربية لم تكن موجودة في عهد عاد ، وليس يصح في الأذهان أن يوجد شعر بلغة لم توجد بعد . فأول من تكلم بالعربية إسماعيل بن إبراهيم – عليهما السلام – وإسماعيل كان بعد عاد ، ثم إن معد الجد الذي قبل الأخير ؛ كان في عصر موسى – عليه السلام – وموسى جاء بعد عاد وثمود .
3- يذكر ابن سلام أن عاد من اليمن ، وأنه لليمنيين لسان آخر غير العربية . ويستدل على ذلك بقول أبي عمرو بن العلاء :
" العرب كلها ولد إسماعيل إلا حمير وبقايا جرهم "
وبقوله :
" ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا "
4- ويفعل ابن سلام في هذا الشعر برجوعه إلى تاريخ الأدب فيقول: ( لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات ، يقولها الرجل في حادثة ، وإنما قصدت القصائد وطول الشعر على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف ، وذلك يدل على إسقاط شعر عاد وثمود وحمير وتبع ...... ) وإذا كان هؤلاء هم الذين أطالوا الكلام وقالوا القصيد ، فلابد من نفي كل قصيدة تعزى إلى عهد أقدم من عهده ، ولابد إذن من نفي تلك القصائد التي وردت في سيرة ابن إسحاق .
وابن سلام الجمحي يرجع قضية الانتحال في الشعر الجاهلي إلى سببين :
أولا : العصبية في العصر الإسلامي :
فقد حرص كثير من القبائل العربية على أن تضيف لإسلامها ضروبا من المكانة والمجد . والشعر الجاهلي ضاع منه الكثير كما يرى أبو عمرو بن العلاء ، وكما فطن إلى ذلك من قبله عمر بن الخطاب – رضى الله عنه - ، فقد تشاغلت العرب عنه بالجهاد وغزو الروم وفارس ، ولم يكن مدونا ، فلما فرغوا من الفتوح واطمئنوا بالأمصار ، وراجعوا روايته ، وجدوا كثيرا من حملته قد هلكوا بالموت والقتل ، وذهب منهـــم أكثره . يقول أبو عمرو بن العلاء : ( ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلا أقله ، ولو جاءكم وافرا ، لجاءكم علم وشعر كثير ) .
ثانيا : ويتمثل ذلك في الرواة أنفسهم ، وزيادتهم في الأشعار ، ويذكر ابن سلام الجمحي مثالين للرواة المتزيدين وهما ؛ داوود بن متمم ، وحماد الراوية ، ويبرهن على ذلك بطرفة بن العبد ، وعبيد بن الأبرص ، فهما مقدمان مشهوران ، والمروى لهما عند المصححين قليل ، فعبيد بن الأبرص قديم عظيم الذكر عظيم الشهرة ، وشعره مضطرب ذاهب ، لا يعرف ابن سلام الجمحي له إلا قوله :
أقفر من أهله ملحوب فالقطبيات فالذنوب
وحسان بن ثابت كثير الشعر جيده ، وقد حمل عليه ما لم يحمل على أحد ، لما تعاضهت قريش واستتبت ، وضعوا عليه أشعارا كثيرة لا تليق به . وعدي بن زيد كان يسكن الحيرة ومراكز الريف ، فلان لسانه ، وسهل منطقه ، فحمل عليه شئ كثير . وكان أبو طالب شاعرا جيد الكلام ، وأبرع ما قاله قصيدته التي مدح فيها النبي – صلى الله عليه وسلم – ومنها قوله :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ربيع اليتامى عصمة للأرامل
وقد زيد فيها وطولت . ولأبي سفيان بن الحارث شعر كان يقوله في الجاهلية فسقط وابن سلام الجمحي في هذه القضية يدون الحقائق العلمية الشائعة في عصره ، وينم بالفكرة من أطرافها ، ويأخذها أخذ العلماء بالنظر والتحليل .
منهج ابن سلام الجمحي :
صنف ابن سلام شعراء الجاهلية عشر طبقات ، في كل طبقة أربعة شعراء ، وبذلك اختار من الشعراء الجاهليين أربعين شاعرا ، وكذلك أربعين في طبقات الشعراء الإسلاميين ، وأربعة شعراء في طبقة أصحاب المراثي ، واثنين وعشرين شاعرا في طبقة شعراء القرى العربية ، وثمانية في طبقة شعراء اليهود ، فهم جميعا 114 شاعرا .
ورتب ابن سلام الشعراء داخل الطبقة الواحدة وفقا للأهميتم ، وكان يبدأ بالحديث عن نسب كل منهم ، ويعرض ما قاله العلماء فيهم ، وما كان من تفضيل شاعر على آخر ، وفي بعض الأحيان نراه يفسر الكلمات الغريبة التي تأتي في قصائد الشعراء ، وآراء علماء اللغة فيها ، وكانت له آراء خاصة في مزاعم هؤلاء اللغويين ؛ فقد كان يختلف معهم أحيانا ، ويتفق معهم أحيانا أخرى ، وتمثلت
مقاييس اختياره لشعراء كل طبقة في ثلاثة أسباب :
1- جودة الشعر .
2- وفرة الشعر .
3- تنوع الأغراض التي نظم فيها الشعر
.
وإذا تساوى شاعران في الإجادة ، وما روى عن أحدهما أقل من الآخر ، وضع صاحب الكثرة في طبقة أرفع ، أما إذا اتفق شاعران في الكثرة وتنوع الأغراض ، كان مقياس المفاضلة بينهما جودة الشعر . وهو تصنيف يذكرنا بعلم الإحصاء . وقد راح ابن سلام يوازن بين شاعر وآخر ، ولم يكتف بمعنى الموازنة ، بل نراه يفضل أحدهما ، وفي بعض الأحيان كان يوازن بين الأبيات المفردة والقصائد .
وخلاصة القول ، يظل كتاب طبقات فحول الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي ، من أهم كتب النقد الأدبي عند العرب .
ويظل ابن سلام الجمحي من أكثر النقاد صحة ذهن ، ونفاذ بصيرة ، فقد كانت الأذكار في النقد مبعثرة لا يربطها رابط ، حتى جاء فضم أشتاتها ، وألف بين المتشابه منها بروح علمية قويه ، وكتابه يعتبر أقدم وثائق النقد ،المدونة فيه كثير من آراء الأدباء واللغويين ، التي انتفع بها فيما بعد كبار النقاد كالآمدي صاحب الموازنة بين الطائيين ، وأبي الفرج الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني . فقد كان كتاب" طبقات فحول الشعراء " لمحمد بن سلام الجمحي جماع القول في الشعر العربي القديم في العصر الجاهلي والعصر الإسلامي .
منقول