ان دراسة السياسة الخارجية لأي دولة في حقبة زمنية محددة ، يتطلب معرفة طبيعة هذه السياسة في المدة التي سبقت حقبة الدراسة ، والسبب يعود الى ان السياسة الخارجية للدول تتضمن استمرار تأثير بعض المتغيرات في المدة التي سبقتها ، وان لم تكن كذلك فلابد من معرفة المتغيرات التي دخلت فغيرت مسارها .
ونظراً لحيوية منطقة المشرق العربي واهميتها كمصدر للامداد النفطي ولكونها تتمتع بموقع استراتيجي مهم ، فقد كانت فرنسا من اقدم الدول العالمية التي حاولت أيجاد موطئ قدم لها في المنطقة .
وعليه كان لابد من تناول الجذور التاريخية للسياسة الخارجية الفرنسية تجاه المشرق العربي ، وبالاخص منذ قيام الجمهورية الخامسة ، لذا سيتم تقسيم الفصل على الوجه الآتي :ـ
ــ المبحث الاول : تطور السياسية الخارجيه الفرنسية تجاه المشرق العربي خلال الحقبة الديغولية من عام 1958 ـ 1981.
ــ المبحث الثاني : تطور السياسية الخارجيه الفرنسية تجاه المشرق العربي من عام 1981 ـ 2003 .







المبحث الاول
تطور السياسية الخارجيه الفرنسية تجاه المشرق العربي خلال الحقبة الديغولية من عام 1958 ـــ 1981
جاءت مؤسسات الجمهورية الفرنسية الخامسة على اثر انهيار مؤسسات الجمهورية الرابعة ، التي واجهت صعوبات كبيرة لبلورة سياسة خارجية مع المشرق العربي ، بسبب السياسات الفاشلة التي اتبعتها مع اقطار المشرق العربي، الامر الذي ادى الى تعريض فرنسا الى التبعيه والعزلة والضعف السياسي .
ومع قيام الجمهورية الخامسة على يد مؤسسها الجنرال ( شارل ديغول ) ، والذي استطاع بعد اجراء اصلاحات وتغييرات دستورية ان يصحح السياسات الخاطئة للجمهورية الرابعة ، والتي اساءت الى سمعة فرنسا ونفوذها في المشرق العربي ، لاسيما بعد هزيمة فرنسا وشركائها في العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956 ، وتفاقم الثورة في الجزائر ، ولمواجهة الارث الثقيل الذي واجهه الجنرال ديغول ، كان لزاماً عليه ان ينهج نهجاً مغايراً ، لذا سعى ومنذ وصوله على رأس السلطة عام 1958 ، الى احداث تغييرات جوهرية يمكن من خلالها وضع حلول للمشكلات التي كانت تعاني منها فرنسا في الداخل والخارج ، سعياً منه لاعلاء اسم فرنسا ، ولكي تأخذ مكانتها بين المنظومة الدولية المتعددة الايديولوجيات والانظمة التي كانت قائمة آنذاك .(1)
وبالفعل فقد اقدم الجنرال ديغول على اجراء تغييرات جوهرية حاسمة ـ قبل ان يصبح رئيساً للجمهورية ـ خدمة لمنهجه وسياسته الجديدة ، والتي وصفها السياسي الفرنسي ( فيليب دي سان روبير ) بأنها " امتداد طبيعي للتقليد السياسي الفرنسي الاصيل " (1) ، ذلك ان الجنرال ديغول تمكن من صياغة نموذج سياسي يستطيع من خلاله اعتماد سياسة تتماشى وطبيعة المجتمع الفرنسي والاوضاع السياسية السائدة آنذاك (2) .
حيث سعى الرئيس ديغول لان يعيد الى فرنسا مجدها الذي كان لها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، والمكانة التي تتبوأها بين الدول الكبرى(3) .
ولقد شغلت الجنرال ديغول قضيتان اساسيتان :
اولهما : الموقف من النظام الدولي ( نظام الثنائي القطبية ) (4) الذي افرزته الحرب العالمية الثانية ، فضلاً عن العلاقات الفرنسية الاوروبية ، حيث بدأ الفرنسيون الضالعون في مجال الشؤون الدولية ، يظهرون القلق من التدهور المضطرد لمركزية اوروبا في شؤون العالم ، وتحول هذا القلق من خلال الحرب الباردة الى استياء من التسلط " الانجلو ـ سكسوني " على الغرب ، ناهيك عن الامتعاض من " امركة " الحضارة الغربية التي ارتبطت به ، وكان التفكير بقيام اوروبا حقيقية ( من الاطلسي الى الاورال ) حسب تعبير الجنرال ديغول ، علاجاً لتلك الحالة المؤسفة " ومادامت باريس هي التي ستقود تلك الاوربة " فانها في الوقت نفسه ستعيد لفرنسا العظمة ، التي مازال الفرنسيون يشعرون بها لأنها قدر امتهم الخاص (5) .
فقد حرص الجنرال ديغول على تحقيق الدور والمكانة اللائقة لفرنسا في العالم ، وتجسد حرصه هذا ايام التحالف ضد المانيا النازية ، وبعدها حينما سعى الى اخراج فرنسا من التنظيمات المشتركة لحلف الاطلسي عام 1966 ، ومناصرته لاوروبا المتحالفة تحت الهيمنة الفرنسية .(6)
ثانيهما : مسألة تصفية الاستعمار ، وبناء علاقات جيدة مع دول العالم الثالث المتطلعة للاستقلال والنمو والتطور (1) .
وافترض الجنرال ديغول انه لتحقيق ذلك لابد من استعادة فرنسا لاستقلالها ، وضرورة اضمحلال التكتلات المسؤولة عن حشر بلدان العالم داخل اغلال الهيمنة للقطبين وقتذاك .
وهكذا ، فأذا كانت الاولوية لديه تٌمنح لاستقلال فرنسا ، فأن التحالف الاطلسي وبناء اوروبا يفقدان الاهمية التي ينبغي التضحية من اجلها بمصالح فرنسا الوطنية .(2)
فأصبح هذان الامران لديه وسائل لاغايات والجنرال ( ديغول ) يؤيدهما او يعارضهما حينما يخدمان اهداف فرنسا ، ولكنه مع ذلك لم ينف انتماء فرنسا للغرب ، بل جاهر بتشبثه بقيم المنظومة الغربية ، ورغم انتقاده لتسلط الولايات المتحدة ـ في خطاباته ومواقفه الدبلوماسية ـ وتقربه من الاتحاد السوفيتي سابقاً على اساس كونه دولة اوروبيه بالدرجة الاولى ، الا ان فرنسا الديغولية لم تترد في الاوقات الحاسمة من الانحياز الى جانب الولايات المتحدة ، بوصفها مدافعة عن الغرب حينما تتهدد المصالح الغربية .(3)
ومع ذلك استمر الجنرال ديغول بانتقاده للثنائية القطبية التي دمغت العلاقات الدولية وقتئذ ، وتعد احدى سلبيات نتائج مؤتمر يالطا ( 1945 ) ، وغني عن البيان ، انه وراء هذا النقد كانت تختفي حقيقة الطموح الفرنسي المتجسد في ايجاد مكانة متكافئة لفرنسا ، الى جانب القوتين العظيمتين . فادانته ( توزيع يالطا ) لم يكن ينصب على المبدأ في حد ذاته ، بقدر ماكان يعبّر عن رفض فرنسا لهذا التقسيم ، لاتها لم تكن طرفاً فيه .
وحسب الجنرال ديغول ، فأنه طالما بقيت ( القطبية الثنائية قائمة ، فانه لا أمل لفرنسا ، اولغيرها من القيام بدور حاسم في السياسة الدولية ، في حين اذا تحول النظام الدولي من طابعه الثنائي الى طابع جماعي ، فان ذلك سيفسح لفرنسا مجال القيام بدور اساسي وايجابي في العلاقات الدولية ) .(4)
ودعى الجنرال ديغول الى اقامة اوروبا ( اوروبية ) ، ولم يكن يعني بدعوته هذه انه يشجع فكرة الوحدة الاوروبية او وجود اوروبا فوق القومية ، ولكن اوروبا التي يصورها الجنرال ديغول ، هي التي تقوم على اساس العلاقات الثنائية ، وتحترم فيها السيادة القومية لأعضائها ، ويقوم التعاون الاقتصادي بدعم هذه الروابط والعلاقات .(1)
ان رفض الجنرال ديغول للوحدة الاوروبية الشاملة يعود لسببين : (2)
اولهما : ان فرنسا في ظل هذه الوحدة الشاملة ستفقد سيادتها .
ثانيهما : ان الجنرال ديغول كان يخشى من انه في حالة ذوبان السيادة الفرنسية في الوحدة الاوروبية ، سيتيح للولايات المتحدة الامريكية ان تفرض زعامتها على هذه الوحدة دون ان تخشى منافساً لها ، اما اذا ظلت فرنسا محتفظة باستقلالها وسيادتها داخل مجموعة اوروبية متحالفة ومترابطة بدون اندماج ، ففي هذه الحالة ستكون باستطاعتها ان تحتفظ بنفوذها ، وان تحد من نفوذ الولايات المتحدة الامريكية على اوروبا .
ويمكن القول ، ان فرنسا اخذت تتجه اكثر فاكثر في اتجاه الخطاب الاوروبي المستقل ، منذ الاجتماع الذي انعقد في الستينيات من القرن الماضي بين الجنرال ديغول والمستشار الالماني اديناور ، وهو التوجه الذي تمحور حول التصالح التاريخي بين فرنسا والمانيا ، وبناء تحالف بينهما يقود الى قيام قوة مشتركة تكون حاكمة لمشروع الوحدة الاوروبية ، بمراحلها المتوالية وحجر اساس للمجموعة المستقلة لغرب اوروبا ، والتي يمكن لفرنسا ان تؤدي دوراً قيادياً فيها.(3)
لقد كان اهتمام الجنرال ديغول منصباً على السياسة الخارجية بالدرجة الاولى ، لانه رأى انها السبيل لاستعادة الحضور والنفوذ في العالم ، حيث سعى لبناء مرتكزات لسياسة جديدة داخلية وخارجية تمثلت في :ـ (4)
1 ـ توظيف قدرات فرنسا السياسية والاقتصادية والثقافية وامكانياتها ، في تحقيق مكانة افضل لفرنسا في العالم .
2 ـ تقوية الاستقلال الوطني كونه الرافد والداعم لاستقلالية السياسة الخارجية ، من خلال تحقيق الاستقلالية داخل المجموعة الاوروبية ، والانسحاب من حلف شمال الاطلسي .
3 ـ اتباع علاقات دولية جديدة ، وتعزيز قيام مجموعة مستقلة لغرب اوروربا تتزعمها فرنسا.
4 ـ تطوير القدرات النووية لفرنسا بالاعتماد على قدراتها الذاتيه .
اما عن اتجاهات السياسة الديغولية تجاه العالم الثالث ، فقد اهتم الجنرال ديغول بدول العالم الثالث ومنها المنطقة العربية ، حيث احتلت قسطاً وافراً في الاستراتيجية الديغولية . فمنذ البداية لمس الجنرال ديغول الاهمية المركزية والمتنامية لهذه الدول في النظام الدولي ، لذا فقد سعى الى اعادة صياغة سياسته الخارجية الموجهة الى هذا الجزء من العالم ، والتي لم تتحدد وتتوضح الا بعد تصفية المشكلة الجزائرية بفضل اتفاقيات ايفان (*) التي وضعت حداً للتدهور الذي دمر الجمهورية الرابعة ، وبالفعل فقد ترتب على هذا الحل ، عودة مظاهر التلاقي والتقارب من جديد بين الطرفين ، فقد وصل الجنرال ديغول الى الحكم بسبب حرب الجزائر ، وكان الشعب الفرنسي يومئذ منقسماً على نفسه بسبب هذه الحرب ، بل كان الانقسام موشكاً ان يتحول الى حرب اهلية داخل فرنسا نفسها من اجل مصير الجزائر . ويمكننا تلخيص سياسة الجنرال ديغول تجاه المستعمرات الفرنسية بسياسة تصفية الاستعمار القديم ، ليحل محله استعمار جديد يقوم على التجزئة والمساعدات . (1) وهذا ضمن منظوره الشامل للعلاقات الدولية .
وقد باشر الجنرال ديغول باعادة ترتيب سياسة البلاد حيال المشرق العربي ، وفي مسعاه هذا ، لم تكن سياسته حيال هذه المنطقة لتنفصل عن منظوره الشامل للشؤون العالمية ولحركة القوتين العظميين .
فقد ادرك تمام الادراك ، الارتباط بين الاستقلالية التي سترفع من وزن فرنسا على الصعيد العالمي وتجعلها قادرة على المشاركة في ادراك مشروع عالمي ، وبين استقلال دول العالم الثالث بصفة عامة والمشرق العربي على وجهه الخصوص ، كساحة رئيسية لللصراع بين القوتين العظميين . كما ادرك الكيفية التي يؤدي بها استمرار الصراعات المحلية والاقليمية ، الى تدعيم مصالح هاتين القوتين في تلك الارجاء ومواقعها .(1)
فقد وجدت فرنسا في العدوان الاسرائيلي على العرب عام 1967 ، فرصةً لان يكون لها تأثيراً فاعلاً في المشرق العربي ، وذلك لان بعض الدول العربية قاطعت الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا بسبب موقفها المساند لـ ( اسرائيل ) ، وهو ماوظفته فرنسا لتطوير علاقاتها مع العرب وجعلهم اكثر تفهماً وميلاً لمصالحها .(2)
فقد باشرت القيادة الفرنسية بأعادة ترتيب سياستها ازاء المشرق العربي ، محاولة ازالة العقبات التي تراكمت على ارضية العلاقات الفرنسية ـ العربية بفعل عوامل متعددة مرتبطة اساساً بالنزعة الاستعمارية ، التي سادت خلال الحقبة الماضية ، واستفحلت بسبب الموقف الفرنسي المتواطيء مع اسرائيل .(3)
فكان لفرنسا موقف معين من اهم احداث تلك المدة منها ـ طلب مصر سحب قوة الطوارئ الدولية ، اغلاق خليج العقبة ومضيق تيران امام الملاحة الاسرائيلية .
وكانت اولى القضايا التي اهتمت بها فرنسا هي مشكلة حرية الملاحة في الممرات الدولية ، التي ادى اليها قرار مصر بسحب القوات الدولية من شرم الشيخ وغزة ، ولكنها كانت تدرك ايضاً ان الازمة القائمة تخص اطراف متصارعة بلغ بها التأزم ، الحد الذي ينذر في أوقات بمواجهة عسكرية .(4)
وموقف فرنسا في هذه المرحلة اتسم منذ البداية بالرغبة في الحياد بين طرفي الصراع ، وتجنب اي تغيير في الوضع القائم للاحتفاظ بالعلاقة الفرنسية بين الطرفين طالما انها ستحقق مصلحتها في ذلك ، حيث استطاعت فرنسا ان تستمر في سياستها ذات الوجهين ( الصداقة مع العرب وتوريد السلاح الى اسرائيل ) طالما ليست هناك توترات حرجة تقتضي الاختيار .
ولهذا ففي 11 مايس 1967 اعلن السكرتير العام لوزارة الخارجية الفرنسية ، في اجتماع سفراء فرنسا في دول الشرق الاوسط والذي عقد في بيروت ، ان حكومته تأمل ان تحتفظ بالاتفاقيات الحالية مع اسرائيل ، والمحافظة ايضاً على العلاقات الطبيعية مع الدول العربية ، وبالتالي فان سياستها ستقوم على مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام استقلال الدول المعنية كلها . وقد اعلنت فرنسا عن موقفها هذا في 24 مايس عام 1967 في بيان صدر عقب محادثات الجنرال ديغول مع وزير خارجية اسرائيل ، اثناء زيارته الى فرنسا وهو في طريقه الى لندن وواشنطن ، ليرى مدى مساندة الدول الغربية لـ ( اسرائيل ) بصفة خاصة ، و مدى تنفيذ ما اتخذته على نفسها من التزامات عام 1957 في الامم المتحدة ، بضمان حرية الملاحة للسفن الاسرائيلية في خليج العقبة .(1)
وعند انتهاء المحادثات ابلغ الجنرال ديغول وزير خارجية اسرائيل ( بأن فرنسا لاتوافق على قيام اسرائيل بمهاجمة مصر ، كما إنه لايقبل بتدمير اسرائيل ، الا انه يدين الدولة التي ستطلق الطلقة الاولى ) . وبهذا لم تعد فرنسا ملتزمة بتعهداتها لاسرائيل التي قدمتها في عام 1957 ، حول تأمين حرية الملاحة في خليج العقبة .(2)
لقد حاولت فرنسا ان تقوم بدور الحكم دون التدخل مباشرة في النزاع . وكان الجنرال ديغول يرى أنّ القوى الكبرى فقط هي القادرة على المحافظة على السلام*. الا ان هذه القوى الكبرى لم تستطع التوصل الى اتفاق ، فقد كان واضحاً ان امكانيات التقارب والتوفيق بين الدول الاربع الكبرى وبصفة خاصة بصدد الحدود التي يجب ان تنسحب منها اسرائيل ، امرٌ بعيد المنال .(3)
وعندما فشلت المحاولات الفرنسية في التوفيق بين الدول الاربع الكبرى ، قررت فرنسا اتخاذ المواقف التي تراها مناسبة لها ولمصلحتها (1) . وهنا لابد من الاشارة الى الحظر الفرنسي للسلاح الى منطقة الشرق الاوسط ، ومتى اتخذت هذا القرار ودوافعه .
عندما بدأت ازمة خليج العقبة ، واحتمال نشوب الحرب اعلنت فرنسا حيادها في النزاع العربي ـ الصهيوني ، واكدت ان الدول التي تلجأ اولاً الى استعمال السلاح وتبدأ في الحرب ، لن تحصل على تأييد فرنسا ومساعدتها . وبالفعل عند بدأت الحرب اعلنت الحكومة الفرنسية وقف امداداتها العسكرية للطرفين ( اسرائيل والدول العربية ) ، ثم عادت واكتفت بوقف تزويد اسرائيل بالطائرات المقاتلة ( ميراج ) ، في حين استمرت فرنسا بارسال قطع الغيار ومعدات عسكرية اخرى ، وبعد ان كان الحظر شاملاً عاد ليصبح حظراً جزئياً اقتصر على خمسين طائرة ميراج كانت قد تعاقدت عليها اسرائيل مع فرنسا قبل الحرب .(2)
وهكذا ، فأن الحظر كان وسيلة في يد فرنسا لتفتح به لنفسها اسواق النفط والذي اهميتة الاستراتيجية لفرنسا اكبر من اهمية اعتبارات التحالف القديم مع اسرائيل ، وقد جاءت قرارات ديغول الخاصة بالشرق الاوسط ، في اطار اهداف سياسته الخارجية فهو كان اولاً واخيراً في خدمة قضية الاستقلال الوطني وهو السبيل الوحيد القادر على الحفاظ لفرنسا على مكانتها الدولية . وكان التقارب مع دول المشرق العربي يسمح لفرنسا بتدعيم استقلاليتها اكثر بان تدعم من جاذبيتها لدول العالم الثالث ، عن طريق الصداقة مع دول المشرق العربي والمنطقة العربية ذات الوضع الجغرافي والاستراتيجي المهم .(3)
لقد استفادت فرنسا من حرب 1967 من خلال محاولتها التخلص من بعض التزاماتها تجاه اسرائيل ، وتحقيق التقارب مع الدول العربية .
وهذا التقارب حقق لفرنسا مصالح اقتصادية بالدرجة الاولى ، فالوطن العربي وعلى الاخص المشرق العربي ، كان هو الشريك التجاري الاول لفرنسا بعد المانيا الغربية ، وهو في هذا يتفوق كثيراًعلى اسرائيل فمثلاً سنة 1966 كانت صادرات فرنسا الى اسرائيل تقدر بنحو 232 مليون فرنك و واردتها منها تقدر بنحو 84 مليون فرنك ، اما مع الوطن العربي فلقد كانت صادرتها في العام نفسه تقدر بنحو 4503 مليون فرنك ، و وارداتها تقدر بنحو 9980 مليون فرنك . لقد كانت الواردات الفرنسية من النفط العربي تمثل 45% من اجمالي مشتريات فرنسا من الدول العربية ، 80% ، من حاجتها الى الطاقة ولقد كانت هذه الواردات سبباً في ظهور الخلل في ميزان المدفوعات الفرنسي ، وكانت فرنسا تحاول موازنته بزيادة صادراتها الى الدول العربية التي هي في حاجة الى متطلبات التنمية .(1)
وهكذا ، كانت الصادرات الفرنسية الى الدول العربية ذات اهمية للاقتصاد وبصفة خاصة بسبب الحاجة المتزايدة لفرنسا من النفط .
وعليه يمكن القول ، ان فرنسا جعلت من حرب حزيران عام 1967 بوابة الدخول الى المنطقة اولاً ، و من ثم تأدية دور فاعل فيها ثانياً . فقد اتخذت السياسة الفرنسية تجاه هذه الازمة خطين واضحين ، هما : (2)
1 ـ خط دبلوماسي يدعمه الالتزام بقرار مجلس الامن الصادر في تشرين الثاني عام 1967 ، والذي طالب بعقد اجتماعات بين الدول الاربع الكبرى وهي الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ( السابق ) وبريطانيا فضلاً عن فرنسا .
2 ـ خط سياسي يعمل على منع التوصل الى اي اتفاق يمكن ان يتم بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الامريكية ، من خلال محادثات ثنائية ويبرم على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني .(3)
كما سعت فرنسا الى التدخل اكثر في المنطقة ، ففي عام 1968 وبعد الغارة الاسرائيلية على مطار بيروت ، فرضت فرنسا حظراً شاملاً على اسرائيل ، ووقفت ضدها ، كما تحركت لكسب اطراف دولية اخرى لتقف الى جانبها ، وتدعم هذا التحرك الفرنسي وكانت هناك جملة اعتبارات هي الاتي : (4)
اولاً : ان لبنان دولة صغيرة كانت دائماً حريصة على احترام ميثاق الامم المتحدة ، كما كانت تحاول دائماً اتخاذ مواقف معتدلة من الصراع العربي ـ الصهيوني .
ثانياً : ان فرنسا كانت تخشى ان تتسع رقعة النزاع ، بعد ان امتد الى دولة عربية لم تشترك في حرب حزيران عام 1967 ، وهو امر كفيل باحباط المساعي التي يمكن ان تبذل في سبيل اقرار السلام في المنطقة . (1)
فضلاً عن هذه الاعتبارات ، هناك اعتبار اساسي اخر يتمثل بكون لبنان هي احدى بوابات المشرق العربي التي يمكن لفرنسا عن طريقها الدخول الى الوطن العربي .
وهكذا ، فان حقبة الستينيات من القرن العشرين ، قد شهدت بداية التقارب الفرنسي تجاه دول المشرق العربي ، من خلال اتخاذ المواقف المؤيدة للحق العربي والتي تختلف عن مواقف الاطراف الغربية الاخرى مثل الولايات المتحدة . وبذلك تكون فرنسا في عهد الجنرال ديغول ، قد غادرت الى منطقة المشرق العربي بزخم جديد مستغلةً الفرص الملائمة لذلك ، ومستغلةً العداء الذي بدأ يستفحل تجاه الولايات المتحدة وبريطانيا في تلك الحقبة ، وذلك بعد ان وضع الجنرال ديغول اساساً جديداً للسياسة الفرنسية ، ثم تبعها بخطوات ومواقف واقعية وجريئة احياناً تجاه القضايا التي كانت تعصف بمنطقة المشرق العربي .(2)
وقد تركزت جهود الجنرال ديغول ، على الابقاء على المصالح الفرنسية في المستعمرات التابعة لفرنسا ، فكانت النتيجة ان شهدت الاعوام الاولى من حكمه تحركاً نشطاً انصب على هذه المستعمرات ، وتمثل في منحها الاستقلال بمقتضى ماسماه الجنرال ديغول في ذلك الوقت ( بقانون الكادر ) وهو قانون يتيح لهذه الدول الجديدة قدراً لابأس به من الاستقلال الذاتي مع ابقائها داخل المجموعة الفرنسية (3) ، وكان الهدف من هذا السلوك الفرنسي تجاه العالم الثالث مايأتي : (4)
1 ـ التأكيد على الدور العالمي والقيادي لفرنسا ، من خلال تقديم المساعدات والمعونات الاقتصادية لدول العالم الثالث ، ولتأكيد وجودها من ناحية ، وتغيير وجهها الاستعماري القديم والظهور بمظهر يمكن بواسطته ان يدعم مكانة بلاده من ناحية اخرى ، وهذا مادفعه لان يمنح الجزائر الاستقلال عام 1962 (1) .
2 ـ عدم تمكن فرنسا من تحقيق دورها القيادي داخل اوروربا الغربية ، الامر الذي حمل الجنرال ديغول على توجيه نشاطه الدبلوماسي نحو العالم الثالث ، ليعود بعد ذلك الى محاولة تحقيق اماله في اوروبا (2) .
3 ـ اتسمت التأثيرات الفرنسية بشكل ملحوظ منذ نهاية الخمسينات وبداية الستينات من القرن العشرين ، فمن ناحية سعى الجنرال ديغول الى الخروج بفرنسا من نطاق الهيمنة الثنائية التي مارستها القوتان العظميان ، اما من ناحية اخرى فقد سعى الى تأكيد الدور المستقل لاوروبا في السياسة الدولية ، وسعى الى ان تمارس بلاده نشاطاً وتأثيراً كبيراً في منطقة المشرق العربي بوصفها قوة دولية مستقلة .
ان تطورات السياسة الفرنسية ازاء الوطن العربي اسرع من اي دولة اوروبية وان قادت فرنسا ذلك الاتجاه داخل الجماعة الاوروبية ، فقد ادرك الجنرال ديغول مدى اهمية بناء علاقات جديدة مع دول العالم وخصوصاً المشرق العربي والمنطقة العربية ككل لما لفرنسا من مصالح اقتصادية وثقافية وتاريخ طويل من العلاقات بينهما ، اذ ان الجنرال ديغول تبنى هذه الاهداف وتابع تنفيذها بامانة . (3)
مماتقدم نستشف ان الجنرال ديغول سعى الى تقوية فرنسا من الداخل انطلاقاً من ان الاستقلالية في الخارج لامعنى لها اذا لم تمتلك شروطها ومستلزماتها في الداخل ، لذا قامت استراتيجية الجنرال ديغول على الصعيد الدولي على محاولة تأكيد نفوذ فرنسا ، وتوسيع ابعاد الدور الذي تقوم به في السياسة الدولية . (4)
ومهما قيل في عهد الجنرال ديغول ، فانه لابد لنا من القول بان الجمهورية الخامسة التي اسسها الجنرال كانت استجابةً لمؤثرات داخلية وخارجية ، فهي لم تكن وليدة يومها ، وانما كانت نتاجاً للواقع الذي تفاعلت فيه جملة من المتغيرات وأدت الى خلق حالة من عدم الاستقرار الذي تميز به النظام السياسي الفرنسي في ظل الجمهوريتين الثالثة والرابعة ، لتأتي بعدها الجمهورية الخامسة التي أسسها الجنرال ديغول والتي وضعت اسساً جديدةً للسياسة الفرنسية الخارجية ، لم يحد عنها اياً من خلفه مهما اختلفت مشاريعهم وخلفياتهم الايديولوجية ، سياسة عادت بالنفع على فرنسا في عهد الجنرال ديغول وفي العهود التالية له.
وباستعراض خطوط السياسة الخارجية الفرنسية تجاه المشرق العربي للرئيس ( جورج بومبيدو ) 1969 ـ 1974 ، الذي خلف ديغول والذي اعتقد الكثيرون ان التوجهات الفرنسية أزاء المشرق العربي في عهده ، ستتبدل لامحاله ، مع اختفاء الجنرال ديغول ، مستندين الى ذلك ، الى ان هذه السياسة كانت نتيجة لاجتهاد شخصي للرئيس الفرنسي السابق فقط ، ومن ثم فان خلفائه ، الذين يفتقدون لـ ( كارزميته ) وتأثيره المعنوي ، لايمكن لهم ان يستمروا بالعزيمة والاصرار أنفسهما ، في هذ الخط الذي اثار معارضة عنيفة في الاوساط الفرنسية ، لكن مثل هذا الطرح كان ينطوي على فهم خاطئ لمحددات السياسة الفرنسية . فهي ، وان كانت قد خضعت للشخصية القومية لمهندسها ، فانها استطاعت ان تتماشى مع الواقع الفرنسي . لهذا فقد أدرك خلفاء الجنرال ديغول صعوبة تعديل سياسته لاسيما وان كثير من المستجدات لم تترك للمسؤولين الجدد خياراً اخراً ، غير ترسيخ المكتسبات الديغولية في هذا المجال .(1)
فقد استمرت السياسة الخارجية الفرنسية تجاه المشرق العربي عما كانت عليه ايام الجنرال ديغول ، وهذا يعود اساساً الى بقاء المصالح الفرنسية في المنطقة وضرورة المحافظة على المكتسبات التي تحققت في الحقبة السابقة ، لهذا ففي اول مؤتمر صحفي عقده الرئيس بومبيدو في 10 تموز عام 1969 ، اكد الرئيس الفرنسي التزامه بالخط الذي وضعه الجنرال ديغول ، حيث قال : ( ان على فرنسا ان تدافع على مصالحها المعنوية والمادية ، وهي مصالح ضخمة فيما يتعلق بحوض البحر المتوسط ، وترجع بصفة خاصة الى العلاقات الودية التي تربطنا بالدول العربية ، لهذا كانت سياساتنا ومازالت قائمة على مناشدة الحكمة اولاً وعلى بذل محاولات في سبيل ايجاد تسوية تتيح لدولة ( اسرائيل ) الحياة في سلام داخل حدود معترف بها ومضمونه ، وفي الوقت نفسه تضمن حلاً للمشاكل الانسانية والسياسية النابعة عن وجود الشعب الفلسطيني وعن حقوقه ) .(1)
لقد قامت سياسة الجنرال ديغول على حق اسرائيل في الحياة والبناء مثلما هو حق الدول الاخرى في المنطقة ، لهذا جاءت تصريحات الرئيس بومبيدو متفقة مع هذه السياسة المعلنة. وكما كان موقف الجنرال ديغول عام 1967 حيث رفض التوسع الاسرائيلي ، جاء موقف الرئيس بومبيدو مشابهاً عندما استقبل السفير السوري احمد عبد الكريم في عام 1971 لدى تقديمه اوراق اعتماده حيث اكد الرئيس بومبيدو ان بلده يرفض ان تكون الحرب مبدأ لكسب اراضي جديدة .(2)
وهكذا ، فقد سار الرئيس بومبيدو على خطى سلفه ، واعطى لفكرة استقلال القرار الاوروبي ابعاداً جديدةً وسعى الى دعم الاتجاه القيادي لفرنسا وتأصيل النهج الديغولي ، كان هو المنطق، الا ان الاستمرارية كانت تندرج ضمن رؤية جديدة لواقع العلاقات الدولية ، متوخيةً الحذر في الدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة الامريكية .
لقد كانت سياسة الرئيس الفرنسي بومبيدو تقوم على اسس ثلاثة هي : (3)
1 ـ الاستمرارية : اي الحفاظ على المكاسب المتحققة من خلال السياسة السابقة وتعزيزها ، بما يدعم مركز فرنسا ويقويها بالمشرق العربي .
2 ـ الانفتاح : ويعني بها الانفتاح نحو اسواق الوطن العربي وبخاصة المشرق العربي ، فالرئيس بومبيدو قرر ان يجعل من فرنسا قوة صناعية من الدرجة الاولى وكرس لذلك جهوده ولهذا قرر فتح الاسواق حيث تكون ، ومع ان الرئيس بومبيدو كان قد التزم بالخط الذي وضعه الجنرال ديغول ، الا انه في نظر الكثيرين من الساسة قد وجه السياسة الخارجية لبلاده بطريقة اكثر اعتدالاً ودبلوماسيةً من تلك السياسة التي كان قد اتبعها الجنرال ديغول ، وكان لهذه الطريقة اثاراً طيبةً على علاقات فرنسا مع حليفاتها ، فعلى الرغم من انه قد رفض البحث في اعادة فرنسا داخل التنظيم العسكري لحلف الاطلنطي ، الا انه اكد مراراً ان فرنسا ستبقى عضواً في التحالف الغربي ، كما انه اعطى الجماعة الاوروبية فرصةً جديدةً عندما الغى اعتراض فرنسا على انضمام بريطانيا الى السوق الاوروبية ، وقلل ايضاً روح العداء التي كانت سائدة ضد سياسة فرنسا الاوروبية بين شريكاتها في السوق .(1)
لقد كانت سياسة الرئيس بومبيدو قائمة على ضرورة مساندة الجماعة الاوروبية لفرنسا في معظم تحركاتها ، وخاصةً فيما يتعلق منها بقضايا المشرق العربي ، لهذا فان المدة التي استلم فيها الرئيس بومبيدو الحكم كانت مرحلة التحرك الجماعي لاوروبا ولكن بمبادرة فرنسية ، لهذا لم يكن غريباً ان اول من دعى الى الحوار العربي الاوربي في مطلع السبعينيات من القرن العشرين هي فرنسا على لسان رئيسها بومبيدو .(2)
كما شهدت العلاقات الفرنسية العربية تطوراً ملموساً ، فقد سعت فرنسا الى تقوية العلاقات بينها وبين المشرق العربي بعد ان تقلصت مصالحها الاقتصادية في الجزائر ، على اثر الاصلاحات التي قامت بها الجزائر بما فيها تأميم ثرواتها النفطية عام 1971 ، مما جعل فرنسا تسعى لتعويض احتياجاتها النفطية من المشرق العربي ،لذلك بدأت يتعزيز حضورها في المنطقة لحماية مصالحها الاقتصادية ، بعد ان اصبح للنفط معنى سياسي الى جانب كونه سلعة اقتصادية . (3)
ونظراً للصعوبات الداخلية والخارجية فقد تميزت سياسة الرئيس بومبيدو بمحاولته لتأطير تحركه في اتجاه يناسب القدرات الحقيقية للرأسمالية الفرنسية ، فالسياسة الخارجية فقدت كثيراً من بلاغة ورمزية الحقبة الديغولية ، وصبت اهتمامها على قضايا ملموسة بحيث ان المجالات التي لاتؤثر فيها فرنسا بشكل حاسم لم تعد تدخل في حقل انشغالاتها .(4)
فسياسة الرئيس بومبيدو تميزت بالاعتدال عن سياسة الجنرال ديغول ، لانه كان مدركاً لابعاد الدور الفرنسي الذي لايصل الى مستوى تأثير القوتيين العظميين في المنطقة ، ففرنسا تدرك ان امكانياتها ليست موازية لما تملكه الولايات المتحدة الامريكية من امكانيات هائلة .(5)
وعندما اندلعت حرب تشرين الاول عام 1973 بين العرب واسرائيل ، وقفت فرنسا الى جانب الدول العربية ، فقد كانت متفهمة لوجهة النظر العربية وقد عُد الموقف الفرنسي من اكثر المواقف الاوروبية تفهماً ، ولذلك عندما قطعت الدول العربية المنتجة للنفط امداداتها النفطية عن الدول المساندة لاسرائيل وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا ، فرنسا لم يمسها الحظر لانها صنفت ضمن اصدقاء العرب مما عاد بالفائدة على مصالحها في المنطقة.(1)
لذلك ادرك الرئيس الفرنسي بومبيدو اهمية التوجه نحو المنطقة العربية لخدمة المصالح الفرنسية ، وبخاصة منطقة المشرق العربي لضمان استمرار الامدادات النفطية لبلاده ، كما اكد على مصالح فرنسا في جنوب شرق المتوسط ( سوريا ، لبنان ، فلسطين ) .(2)
اما السياسة الخارجية الفرنسية اثناء مدة حكم الرئيس ( فاليري جيسكار ديستان ) ( 1974 ـ 1981 ) ، الذي وصل على اثر وفاة الرئيس جورج بومبيدو، والذي يُعد من كبار الاقتصاديين في فرنسا حيث تولى منصب وزير الاقتصاد والمالية في مدة حكم الرئيس ديغول ، فقد حدد الرئيس ديستان الاستقلال والتعاون والتضامن كمبادئ لتوجه فرنسا الخارجي ، فقد فسر الاستقلالية الفرنسية باعتماده مزيداً من التعاون والتضامن بخاصةً مع الولايات المتحدة الامريكية واوروبا الغربية لمواجهة التكتلات الاخرى ، والمهم في الامر ان يصب في مصلحة فرنسا العليا وقد عرفت هذه الدبلوماسية بدبلوماسية العزلة الايجابية او سياسة الانفراج .(3)
كما اتبع الرئيس ديستان سياسة خارجية ، تميزت بالتغيير والتطور في آنٍ واحدٍ ، حيث اتبع اسلوباً يتكيف مع طبيعة النظام الدولي ودون مواجهة مع الولايات المتحدة الامريكية ، وذلك لادراكه قدرات و وسائل بلاده الداخلية المحدودة .(4)
في الوقت الذي استمر فيه جسور التعاون مع المعسكر الاشتراكي خصوصاً الاتحاد السوفيتي والصين ، وكذلك الانفتاح على دول اخرى تمتلك فرنسا معها مصالح ستراتيجية كدول المشرق العربي الغنية بالنفط ، (1) فقد كانت سياسة الرئيس ديستان في المشرق العربي محكومة بمصالح فرنسا العليا ؛ وخصوصاً مع الدول النفطية ؛ اذ لاحظ الرئيس ديستان مدى اعتماد فرنسا على الواردات النفطية لهذه المنطقة .(2)
فحاول القيام بخطوات من شأنها ان تحدث تقارباً اكثر بين فرنسا والمنطقة ، فقام بزيارة الى المنطقة عام 1980 كانت هي اطول زيارة قام بها لاي بلد منذ تسلمه منصب الرئاسة عام 1974 لاسيما في منطقة الخليج العربي والاردن وذلك لتعزيز مسار العلاقات الفرنسية مع المشرق العربي ، وللتأكيد على مبدأ الاستقلالية في خط سياسة بلاده عن سياسة الولايات المتحدة الامريكية .(3)
وعليه يمكن القول ان السياسة الخارجية الفرنسية في عهد الرئيس ديستان اتسمت بالواقعية والميل نحو التعاون والحوار والحلول السلمية في سبيل تحقيق المصالح والمنافع المتبادلة بين الامم ، ولذلك لاقت سياسته رواجاً وقبولاً لدى دول المشرق العربي ،(4) وقد اختلفت سياسته تجاه المشرق العربي عن سابقيه قليلاً والسبب في ذلك يرجع الى :(5)
اولاً : ان الرئيس ديستان ينتمي الى حزب آخر غير الذي ينتمي اليه سابقيه .
ثانياً : ان الرئيس ديستان رجل اقتصاد ، وهذا يعني ان الاعتبارات الاقتصادية كانت لها الارجحية في تفكيره وهذا يتوضح من خلال :
1 ـ موقفه من المقاطعة التي فرضها الجنرال ديغول على تصدير السلاح الى منطقة الشرق الاوسط ، حيث قال ( ان فرنسا لاتستطيع ان تكون دولة محايدة فقط بل يجب ان تتبنى موقفاً لصالح اسرائيل التي حاجتها للامان واضحة بسبب الخطر الذي يهددها ) .
2 ـ قراره برفع الحظر عن السلاح المصدر للمنطقة ، والذي فرض اثر حرب حزيران 1967، بعد توليه السلطة في عام 1974 على ان تُبحث كل حالة على حدة .
3 ـ كان اول من دعا الى حوار مثلث الاطراف ، يشمل كل من اوروبا والعرب وافريقيا .
4 ـ تشجيعه للحوار الاوروبي الخليجي والذي لايمكن ان يفهم منه اكثر من رغبة اوروبا في السيطرة على مصادر الطاقة ، والتي تتركز بالدرجة الاساس في منطقة الخليج العربي . (1)
وفي ضوء ماتقدم ، نجد بأن هناك تغييراً ملحوظاً في مسار السياسة الخارجية الفرنسية ، فبعدما ارسى الجنرال ديغول دعائمها وحقق انعطافاً كبيراً في مساراتها ، جاء الرئيس بومبيدو ليفقدها الكثير من بلاغة ورمزية الحقبة الديغولية ، وبوصول الرئيس ديستان الى الحكم تمكنت فرنسا من اتباع سياسة عالمية عن طريق اعادة صياغة العلاقات الاطلسية ، وايجاد ارضية للتفاهم مع الولايات المتحدة الامريكية ، وتجنب الدخول في مواجهة مباشرة معها ، وتعزيز العلاقات مع دول المشرق العربي من اجل ضمان تحقيق مصالحها .


(1) د . أمنه محمد علي ، حدود التحول في السياسة الفرنسية في ظل الجمهورية الخامسة : دراسة في الجانب الاقتصادي والسياسي ، مجلة دراسات دولية ، ( جامعة بغداد ، مركز الدراسات الدولية ، العدد38 ، 2008 ) ، ص143.

(1) فيليب دي سان روبير ، سياسة فرنسا تجاه البحر المتوسط ، عرض نبيه الاصفهاني ، ( مجلة ) السياسة الدولية ، ( القاهرة : مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالاهرام ، العدد29، تموز 1972) ،ص189.

(2) د.أمنه محمد علي ، حدود التحول في السياسة الفرنسية في ظل الجمهورية الخامسة : دراسة في الجانب الاقتصادي والسياسي ، مصدر سبق ذكره ، ص143.

(3) فيليب دي سان روبير ، سياسة فرنسا تجاه البحر المتوسط ، مصدر سبق ذكره ، ص 190 .

(4) د. بطرس غالي ، الدبلوماسية الديغولية والجمهورية الخامسة ، ( مجلة ) السياسة الدولية ، ( القاهرة : مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالاهرام ، السنة الثانية ، العدد4، 1966) ، ص47.

(5) زبينغيو بريجينسكي ، رقعة الشطرنج الكبرى ، الاولوية الامريكية ومتطلباتها الجيوستراتيجية ، ترجمة امل الشرقي ، ( عمان : الاهليه للنشر والتوزيع ، 1998 ) ، ص38.

(6) عاصم محمد عمران ، العلاقات الاوروبية الامريكية في ضوء المتغييرات الدولية واثرها على السياسة الفرنسية قبال المنطقة العربية ، مجلة دراسات ستراتيجية ، ( جامعة بغداد ، مركز الدراسات الدولية ، العدد الثاني ، السنة الاولى ، 1995 ) ، ص 103.

(1) د. بطرس غالي ، الدبلوماسية الديغولية والجمهورية الخامسة ، مصدر سبق ذكره ، ص54.

(2) جان لاكويتر ، ديغول ، ( بيروت : دار النهر للنشر ، 1969 ) ، ص 161.

(3) عاصم محمد عمران ، العلاقات الاوروبية الامريكية في ضوء المتغييرات الدولية واثرها على السياسة الفرنسية حيال المنطقة العربية ، مصدر سبق ذكره ، ص ص 103ـ104.

(4) نقلاً عن : بوقنطار الحسان ، السياسة الخارجية الفرنسية أزاء الوطن العربي منذ عام 1967 ، سلسلة اطروحات الدكتوراة (9) ، ( بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، 1987 ) ، ص 30.

(1) ينظر : الجنرال ديغول ، مذكرات الامل والتجديد 1958 ـ 1962 ، ترجمة سموحي فوق العادة ، ( بيروت : منشورات عويدات ، 1971 ) ، ص ص 230 ـ 240 .

(2) د. بطرس غالي ، الدبلوماسية الديغولية والجمهورية الخامسة ، مصدر سبق ذكره ، ص ص 50 ـ 51.

(3) الجنرال ديغول ، مذكرات الامل والتجديد 1958 ـ 1962 ، مصدر سبق ذكره ،ص ص 230 ـ 240 .

(4) المصدر نفسه ، ص 236.

(*) معاهدة ايفان : هي معاهدة وقعت بين القوات الفرنسية والجزائر عام 1962 ونصت على استقلال الجزائر.

(1) د. احمد سعيد نوفل ، مستقبل السياسة الفرنسية في الشرق الاوسط في القرن الحادي والعشرين ،مجلة شؤون عربية ،( القاهرة : الامانة العامة لجامعة الدول العربية ، العدد 97 ، اذار 1999 ) ، ص 53.

(1) د. نادية مصطفى ، السياسة الفرنسية والصراع العربي ـ الاسرائيلي ( 1967ـ1977) الابعاد والمحددات ، مجلة الفكر الاستراتيجي العربي ، ( بيروت : العدد 13 ـ 14 ، السنة 4 ، تموز 1958 ) ، ص103.

(2) ينظر : د. فاضل زكي محمد ، الاستراتيجية الامريكية في المشرق العربي ، ( بغداد : شركة الطبع والنشر الاهلية ، 1968) ، ص52 .

(3) د. بوقنطار الحسان ، السياسة الخارجية الفرنسية أزاء الوطن العربي 1967 ، مصدر سبق ذكره ، ص 34.

(4) د.نبيه الاصفهاني ، الدبلوماسية الفرنسية والمواجهه العربية الاسرائيلية ، مجلة السياسة الدولية ، العدد 30 ، تشرين الاول 1972 ، ص70.

(1) المصدر السابق ، ص 72.

(2) المصدر السابق ، ص 73.

* ويقصدهنا بالقوى الكبرى هي الدول الاربعة الكبرى حينها وهي الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفيتي ( سابقاً ) وبريطانيا وفرنسا ومن الممكن اضافة الصين اليها ، اي القوى الذرية في العالم فالجنرال ديغول كان يؤمن بان امتلاك الدولة للقدرة النووية يعني رفعا الى مصاف الدولتين الكبيرتين وبالتالي امكانية لعب دور مؤثر في السياسة الدولية ومن هنا جاء برنامجه النووي الفرنسي .

(3) د. بطرس غالي ، القضايا العشر في تسوية ازمة الشرق الاوسط ، مجلة السياسة الدولية ، ( القاهرة ، مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ، العدد 24 ، 1971 ) ، ص12 .

(1) المصدر السابق ، ص 12 .

(2) شحادة موسى ، علاقات اسرائيل مع دول العالم 1967 ـ 1970 ، ( بيروت : مركز الابحاث في منظمة التحرير الفلسطينية ، 1971 ) ، ص 129 .

(3) بول مالطا وكلودين ويلمو ، سياسة فرنسا في البلاد العربية ، ترجمة : كامل فاعور و نخلة قريغر ، ( بيروت : الرأي الجديد ، السنة بلا ) ، ص 42 .

(1) المصدر السابق ، ص 74 .

(2) الكتاب السنوي للقضية الفرنسية لعام 1971 ، ( بيروت : مؤسسة الدراسات الفرنسية ، 1975 ) ، ص 411 .

(3) بول مالطا وكلودين ويلمو ، سياسة فرنسا في البلاد العربية ، مصدر سبق ذكره ، ص45.

(4) نبيه الاصفهاني ، الدبلوماسية الفرنسية والمواجهة العربية الاسرائيلية ، مصدر سبق ذكره ، ص 81 .

(1) جلين روبنسون ، المشكلة العربية ـ الاسرائيلية وامن الخليج ، ( ابو ظبي : مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية ، 2006 ) ، ص 44 .

(2) د. احمد سعيد نوفل ، مستقبل السياسة الفرنسية في الشرق الاوسط في القرن الحادي والعشرين ، مجلة شؤون عربية ، الامانة العامة لجامعة الدول العربية ، ( القاهرة ، العدد 97 ، اذار 1999 ) ، ص 129 .

(3) نبيه الاصفهاني ، الدبلوماسية الفرنسية والمواجهة العربية الاسرائيلية ، مصدر سبق ذكره ، ص 70 .

(4) د . بطرس غالي ، الدبلوماسية الديغولية والجمهوري الخامسة ، مصدر سبق ذكره ، ص54.

(1) عامر كامل محمد ، السياسة الخارجية الفرنسية تجاه المشرق العربي في عقد التسعينات ، اطروحة دكتوراة ( غير منشورة ) ، كلية العلوم السياسية ، جامعة بغداد ، 2000 ، ص 9 .

(2) د . بطرس غالي ، الدبلوماسية الديغولية والجمهوري الخامسة ، مصدر سبق ذكره ، ص54 .

(3) احمد صرفي الدجاني ، الحوار العربي الاوروبي ، وجهة نظر وحقائق ، (القاهرة : مكتبة الانجلو مصرية ، 1976) ، ص 41.

(4) جان كريستان بيتفيس ، الديغولية ، ترجمة : جان كميد ، سلسلة ( ماذا اعرف ـ 46 ) ، ( بيروت ، المطبعة البوليسية ، 1978) ، ص 32 .

(1) د. بوقنطار الحسان ، السياسة الخارجية الفرنسية أزاء الوطن العربي 1967 ، مصدر سبق ذكره ، ص 52.

(1) نقلاً عن : الكتاب السنوي للقضية الفلسطينية لعام 1971 ، ( بيروت : مؤسسة الدراسات الفلسطينية ، 1975 ) ، ص 421 .

(2) جلين روبنسون ، المشكلة العربية ـ الاسرائيلية وامن الخليج ، مصدر سبق ذكره ، ص 46 .

(3) يوسف الدرة ، انتخابات الرئاسة الفرنسية ، دراسات فلسطينية ، جامعة بغداد ، مركز الدراسات الفلسطينية ، العدد3 ، 1974 ، ص119.

(1) المصدر السابق ، ص120 .

(2) جلين روبنسون ، المشكلة العربية ـ الاسرائيلية وامن الخليج ، مصدر سبق ذكره ، ص 49 .

(3) د. احمد سعيد نوفل ، مستقبل السياسة الفرنسية في الشرق الاوسط في القرن الحادي والعشرين ، مصدر سبق ذكره ، ص 156.

(4) د. بوقنطار الحسان ، السياسة الخارجية الفرنسية أزاء الوطن العربي 1967 ، مصدر سبق ذكره ، ص ص 52 ـ 53.

(5) د . حميد حمد السعدون ، فرنسا ـ امريكا التعاون القلق ، متابعات دولية ، مركز الدراسات الدولية ، جامعة بغداد ، مركز الدراسات الدولية ، جامعة بغداد ، العدد 106 ، 2003 ، ص1.

(1) عامر محمد معاذ ، العلاقات السورية ـ الفرنسية مابعد الحرب الباردة ، رسالة ماجستير ( غير منشورة ) ، كلية العلوم السياسية ، جامعة بغداد ، 2004 ، ص 256 .

(2) بشارة خضر ، اوروبا والخليج العربي ، الشركاء الاباعد ، ( بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، 1997 ) ، ص191 .

(3) احمد فائق العبيدي ، تطور العلاقات الفرنسية مع دول مجلس التعاون الخليجي في عقد التسعينات واثره على منطقة الخليج العربي ، رسالة ماجستير ( غير منشورة ) ، الجامعة المستنصرية ، بغداد ، 2002 ، ص ص 153 ـ 154 .

(4) نادية مصطفى ، السياسة الفرنسية والصراع العربي الاسرائيلي ( 1967 ـ 1977 ) ، مصدر سبق ذكره ، ص ص 79 ـ 80 .

(1) احمد فائق ، تطور العلاقات الفرنسية مع دول مجلس التعاون الخليجي في عقد التسعينات واثره على منطقة الخليج العربي ، مصدر سبق ذكره ، ص 155 .

(2) آليزابيث ستيفنز ، العلاقات العسكرية والاقتصادية بين دول الخليج العربي والاتحاد الاوروبي ، ( ابو ظبي : مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية ، 2004 ) ، ص 124 .

(3) د. عامر كامل احمد ، السياسة الخارجية الفرنسية حيال المشرق العربي منذ التسعينات ، مصدر سبق ذكره ، ص12 .

(4) د. احمد سعيد نوفل ، العلاقات الفرنسية ـ العربية من خلال موقف فرنسا من العناصر الاساسية للقضية الفلسطينية ، ( الكويت : شركة كاظمة للنشر والتوزيع ، 1984 ) ، ص 316 .

(5) كلود كليمن ، اسرائيل والجمهورية الخامسة ، ترجمة مركز البحوث والمعلومات ، بغداد ، ص 211 .

(1) المصدر نفسه ، ص 212 .