ذات القرط اللؤلؤي أو هكذا كان الرسم في القرن السابع عشر
من أفلام السيرة
سعد هادي.... الحلقة الاولى
ليس فيلم "ذات القرط اللؤلؤي" تأملاً سردياً في حياة الرسام الهولندي الكبير جوهانس فيرمير (1632-1675) وليس أيضاً رواية عن رسمه للوحته التي توصف بأنها "موناليزا الشمال" عام 1665(تشير بعض المصادر الى أنها رسمت عام 1667)، كما أن الفيلم لا يصور عشق فيرمير الصامت للخادمة الشابة التي ألهمته تلك اللوحة وهو الذي عرف برسمه للخادمات في لحظات لا يمكن لأي رسام آخر تكرارها، لحظات من الحياة اليومية قد لا تلفت إنتباه أحد، فالفيلم كل هذه الأشياء مجتمعة مثلما هو بالأساس درس بتفاصيل متعددة عن الرسم في القرن السابع عشر: كيف كان الرسامون يعدون ألوانهم، كيف كانوا يتعاملون مع نماذجهم الإنسانية، كيف كانوا يهيئون مصادر الضوء، ماذا يوجد في مراسمهم، أية أدوات كانوا يستخدمونها. وأكثر من ذلك عن أساليب تسويق اللوحات الفنية وكيف كان التجار ورعاة الفن من الأرستقراطيين والإقطاعيين وسواهم يفرضون شروطهم على الرسامين ويعاملوهم كأجراء. فالنبيل ريفن (الممثل توم ويلكونسن1948) الذي يشتري لوحات فيرمير( الممثل كولن فيرث1961) أو يطلب منه أن يرسم مايتفق مع ذوقه يقول للخادمة حين يراودها عن نفسها: أنت ناضجة كالخوخة غير المقتطفة، إن فيرمير يرسمك لي. وهو يباغت فيرمير بسؤاله: هل قررت ماذا سترسم، هل وجدت الوحي في غرفتك؟ كأنه يشير بطرف خفي الى الخادمة، التي ستتحول الى أشهر موديل مرسوم عبر العصور، أما حين تقتحم الزوجة المرسم الذي منعت من دخوله وترى لوحة الخادمة، تواسيها أمها قائلة: لوحات لأجل المال لا تعني شيئا. وعلى العكس من ذلك الإقتحام يبدو دخول الخادمة(الممثلة سكارليت جوهانسن1984) المتأني الى المكان ذاته(المرسم) كأنه رحلة لأكتشاف المجهول، تنظر بحذر الى ما حولها وتتعامل مع الأشياء برقة تداعبها وتحاول أن تتعلم منها. وحين تفتح النوافذ يبدو المشهد كأنه سلسلة من اللوحات صممها خيال فيرمير ولكنه لم يرسمها، صور يعاد إنتاجها على وفق المنطق البنائي الذي أستعان به هو قبل ثلاثة قرون ونصف. صور بحجم اللقطات المتوسطة والكبيرة التي يؤكد عليها في مشاهده الداخلية(تعني بالمصطلح السينمائي ما يصور داخل الجدران بأضواء صناعية) والتي تعكس الواقع بلمسة شاعرية. ولكن مشاهد الغرف والصالات لديه (وفيها جميعاً بشر متوحدون ليسوا أكثر من ثلاثة في لحظة فعل أو تأمل في زاوية ما) مضاءة بالضوء الطبيعي الآتي من نوافذ مفتوحة.
في أحد المشاهد تسأل الخادمة "غريت" زوجة الرسام: هل أمسح نوافذ المرسم، قد يتغير الضوء؟ فترد عليها سيدتها بحقد: نعم، إمسحيها، في مشهد لاحق يطلب منها فيرمير أن تقف قرب النافذة ليشاهدها في الضوء، وحين تستجيب يدرك أنه وجد الموضوع الذي يبحث عنه، هو البطيء في الرسم والذي لم تعرف له سوى 36 لوحة فقط تعد الأغلى بين رسوم أساطين الفن الآن. يسألها عن الغيوم ما ألوانها، فتقول أنها بيضاء، يطلب منها أن تراها بشكل أفضل، فترد إنها بيضاء وزرقاء ورمادية وصفراء، يقول لها: الآن بدأت تفهمين حقا، ما الذي تفهمه؟ إنها اللعبة المستمرة بين الضوء والعتمة، لعبة تبادل المواقع والمؤثرات لمشاهدة الآخر والبحث عن كينوته، مشاهدة الجمال في أجلى معانيه وفي أنقى صوره. تقول "غريت" لفيرمير بعد أن رأت صورتها: لقد نظرت في داخلي. بينما يرد على زوجته ببساطة حين تسأله: لماذا لا ترسمني؟ قائلاً أنت لا تفهمين. نعرف فيما بعد أن الزوجة أتلفت إحدى لوحاته والتي استغرق في رسمها ستة شهور وصوَّر فيها خادمة سابقة، لذا فهي ممنوعة من الدخول ثانية الى المرسم. "فيرمير" لا يرسم النساء المسنات، إنه يرسم الجميلات فقط. هذا ما يقال دائما عن مواضيعه المفضلة.
"ذات القرط اللؤلؤي" هو أيضا عن الصراع الديني في أوربا ما بعد عصر النهضة، والدة غريت البروتستانتية توصيها قبل ذهابها الى بيت مخدومها الكاثوليكي: لا تستمعي الى صلواتهم وإذا إضطررت فأغلقي أذنيك، تعثر غريت لاحقاً على قطعة المرمر التي رسم فوقها والدها موضوعاً دينياً وأهداها لها حين غادرت البيت مهشمة بفعل فاعل. عشيقها الشاب يطالبها بقبلة لأنه عثر عليها كما توقَّع في الكنيسة البروتستانتية صباح الأحد. نشاهد أيضا ما ترتديه أوربا في تلك الأيام، طرز الملابس المغرقة في تحفظها وإنغلاقها، إنها هنا جزء من النسيج الرمزي من الفيلم، "غريت" مثلا ترفض أن تخلع غطاء رأسها طوال
الفيلم وحتى حين تخلعه تستبدله بآخر(يشبه العمامة العربية) سيظهر في اللوحة وسيخلد الى الأبد، والدة الزوجة التي تظهر بمسوح سوداء وتوحي طريقة ظهورها بأن من رسمها هو هالز أو روبنز أو حتى غويا وليس صهرها، أعني إن ملامحها الخارجية تنتمي الى الأساليب الضاجة بالحياة والحركة والفعل الخارجي لأولئك الرسامين أكثر من إنتمائها الى الأسلوب التأملي الصامت الذي يرسم به فيرمير. فثياب العجوز التي تتحكم في اللعبة بأكملها وتدير شؤون البيت على هواها، وتتواطأ حتى ضد إبنتها بل تقول لغريت بقسوة حين يقرر فيرمير رسمها: ما أنت الا ذبابة في شبكته، ترمز(تلك الثياب) لأوربا المتمسكة بتقاليدها المتفسخة الموروثة عن القرون الوسطى والتي يسعى عصر النهضة لتحطيمها بقيمه التنويرية المستلهمة من مبدأ فصل الدين عن الدولة والتبشير بحرية الإنسان الفردية وإستقلاله الروحي تمهيدا لعصر الثورة الصناعية الذي سيمزج الرخاء المادي بالرومانسية. كما ترمز أيضا لزوال الهيمنة وللحزن الخفي الذي يؤطر الحياة داخل البيت مثلما يشير الى الأسى العميق الذي يغلف مظاهر الحياة خارجه. والذي يمكن الإحساس به عبر إشارات عديدة: هدوء وصمت يسبقان عاصفة قادمة ستطيح بالمثل والتقاليد وتعيد رسم الخارطة الإجتماعية وستعيد توزيع الثروة أو تكشف عن مصادر جديدة لها في بقاع أخرى من العالم.
فيلم "ذات القرط اللؤلؤي" الذي عرض للمرة الأولى في 31 آب2003 هو العمل الأول لمخرجه البريطاني "بيتر ويبر" وقد كتبت السيناريو له "أوليفيا هيتريد" عن رواية بالإسم ذاته لـ"تريسي شيفالييه" صدرت عام2001 وقد رشح الفيلم لثلاث جوائز أوسكار عام2004 هي: أفضل إخراج فني، أفضل تصوير، أفضل تصميم ملابس.