في زمنٍ آخر غير هذا الزمن الرديء، كان اسم مدينة فاس حين يرد إلى الذهن تنبعث معه أجمل الصور عن مدينة جميلة ترتاحُ مطمئنة بين" تغات و زلاغ " الجبلان المتيمان بها اللذان يحرسانها بشراسة، مدينة تطوقها البساتين الخصبة وتعمدها الجنان الغناء التي تطبعها بروحٍ هي منذورة لها. ففاس في الذاكرة الشعبية إلى جانب العلم والعلماء وجامعة القرويين حاضنة الحضارات الإنسانية، هي مدينة الجنان والعراصي، ملهمة الفاسيين في مختلف الإبداعات وشتى صنوفها، ومبعثا لبهجتهم، حتى عرفوا بالإحتفاء بجمال الحياة من خلال " النزايه" التي ينظمونها في فصل الربيع خاصة بعراصي الزيات، وجنانات باب الجديد، وبساتين زواغة، وغابة عين الشقف، وحامتي سيدي حرزم ومولاي يعقوب و فضاءات بو ركاييز وشلالات صفرو.. وغيرها من المؤهلات التي أعطت المدينة بعدها المدني..
فاس في ذلك الحين، على أرضها نشأت الحركات الفكرية والفلسفية والسياسية في التاريخ المغربي الأمازيغي العربي الإسلامي، وأضفت على المغرب والأندلس وعلى الحضارة العربية الإسلامية ما عُرفت به من خصوبة في الفكر، و احتكامٍ إلى العقل وارتقاء به إلى المصاف المتقدمة . ومن يرغب في كتابة تاريخ المقاومة والنضال عليه أن يتوقف طويلاً في فضاءاتها التي أعطتنا علماء ورجالات كباراً من وزن وأحمد ميارة و المختار السوسي و علال الفاسي و بلحسن الوزاني عبد السلام جسوس؟ الذين جعلوا التضحية ذاكرة يعرفها القارئ العربي في أبعد زنقة من زنقات المغرب الكبير. كان يمكن أن نستطرد في سرد مزايا وشمائل فاس وأهلها، لو أنها ظلت هي فاس كما عرفها التاريخ. لكنها لم تعد كذلك، فلم يعد بالوسع قول شيء آخر، فهي مستباحة اليوم ممن دفعت بهم المصادفات وسخريات القدر إلى صدارة المشهدها السياسي. من مرتزقة النضال وميليشيات المذهبية التي تتزيا بأسماء شتى، وتضفي على صراعها التطرفي هالات زائفة من القداسة لتبرير وتسويق صراع رخيص على السلطة في المدينة، والتي يحسب كل من يمسك بها يستطيع السيطرة على البلاد كلها، إيمانا بالمثل القائل" فاس والكل في فاس ". أو لعل المتصارعين هذا الصراع الدامي في فاس، يريدون من امتلاكها ووضعها تحت أياديهم أن يجعلوا منها ورقة تفاوضٍ في الصراع العبثي الجاري في البلد كله .
كان يمكن لفاس، لا بل كان يجب، أن يصبح لها حاضر غير هذا الحاضر البائس الذي قاده إليها المحتلون الآتون من اللامكان. وكان يمكن لفاس، مدينة المولى إدريس التي أعطتنا الفن والعلم والملحون و الطاجين، أن يصبح لها حاضر غير حاضر الصبية المفسدين الذين يعيثون خراباً في تراثها، مؤتمرين بأوامر رؤوس خاوية تارة وخرفة تارة أخرى، مسكونة دوما بشهوة السلطة.
وكما هو معروف أن الله سبحانه وتعالى يبعث على رأس كل مئة عام من يصلح ما فسُد من أمور الناس، فها هو ملك المبادرات يلتفت لمدينة فاس لينقذها من براثين العفن ويعيدها لأمجادها الغوابر بمباركته لفكرة رائعة، وخطوة جريئة فريدة متفردة في القرن 21.. فكرة مبعثها شباب المدينة غير المتخصص الوطني البريء من كل زيف، فكرة نبتت مع التجربة والمحبة لتصبح واقعا بمجهود فردي وتعاون مؤسساتي إعلامي ..
فكرة تكشف الكثير من حقائق تاريخ المدينة الذي مر بمراحل تاريخية ساهمت في تغيير الكثير من بناءاتها الاجتماعية المكونة لذات الإنسان المغربي و سلوكه الاجتماعي وتأثيره في حركية تاريخ المجتمعات.