الكبة والمسقوف (للكاتب العراقي خالد القشطيني)
كثيرا ما تتحول بعض الأكلات الشعبية الرخيصة الى طعام ارستقراطي غال، لا يعود في متناول العمال وضعفاء الحال. من هذه الأكلات اتي ارتقت و اصبحت من النفائس اكلة السمك المسقوف العراقية.
لكل شعب و كل دولة اكلات تتميز بها و ترتبط بأسمها. اشتهر الانكليز بأكلة الفش اند جبس ، السمك المقلي و البطاطا المقلية. من الأتراك اخذنا اكلة الدولمة و من الفرس شاعت اكلة الفسنجون. و ارتبطت بلاد الشام بأكلة الحمص بطحينة. ماذا عن العراق؟ هناك اكلتان نشأتا في بلاد الرافدين و التقطها الآخرون من العراقيين، هما الكبة و السمك المسقف. يرجع تاريخ الكبة الى عهد الآشوريين و ارتبطت بفتوحاتهم العسكرية. وجدوا ان احسن وسيلة لتجهيز طعام جيد و مغذ للجنود و جاهز اربع و عشرين ساعة. يستطيع الجندي ان يحمله معه في زحفه و معاركه هو الكبة. سهلة الانتقال و سهلة التسخين و تستطيع ان تأكلها باردة او حارة. و تحتوي على كل ما يحتاجه الجندي ، لحم و بصل و كشمش و حنطة و دهونات و نحوذلك من الهايدروكاربونات. و لربما نجد ان الكبة كانت من اسرار تفوق الجيش الآشوري و توغله حتى في مصر. و من الآشوريين تعلم اهل الشام صنع الكبة و تفننوا بها.
الأكلة الثانية التي طورها ابناء الرافدين هي اكلة السمك المسقوف. فقد كان السمك متوفرا في الانهار و الاهوار و يسهل صيده. وعلى جوانب الانهار و الآهوار توجد شتى انواع الحطب و القصب . كل ما يحتاجه ان يوقد النار و يضع السمكة امامه حتى تستوي و يطيب اكلها. و يا عيني!
سميت بالمسقوف لأن الصياد يوقفها و يضعها بجانب النار و فوقها فتصبح كالسقف للنار. اتذكر المسقوف الذي كنا نأكله في شارع ابي نوآس في ايام الخير بأرخص الأسعار ، احسن و اكبر سمكة شبوط او بني بمائة او مائتي فلس. يشويها الصياد بعد ان يرش عليها الملح و الكاري و ينقشها بالبصل و الطماطا ثم يأتينا بها لنأكلها هنيئا مريئا بأيدينا على الشاطي الرملي او على احدى الجايخانات المجاورة.
كانت اكلة شعبية يأكلها العمال و سواق السيارات و البنائين و صغار الموظفين و المستخدمين و من نحوهم. و لكن بتقدم الأيام ، ايام الخير، اكتشف القوم روعة هذه الأكلة فأصبحت غرض المترفين و كبار الموظفين و ضباط الجيش. بل و تحولت الى اكلة متميزة يدعى اليها ضيوف البلاد و رؤساء الدول حتى ان صدام حسين عمد الى تعزيز العلاقات مع فرنسا بأحياء وليمة مسقوف في باريس لرئيس الحكومة الفرنسية. جاءت طائرة محملة بالحطب و السمك و السماكين الذين يحسنون شوي السمكة لتقديم هذه الوليمة ، وليمة مسقوف، لزعماء فرنسا الكبار و سفراء الدول .
ادى تعاظم الطلب على المسقوف الى استعمال اساليب الصيد الحديثة بما فيها الشبكات الواسعة و الزوارق البخارية و حتى القنابل المتفجرة بما تمخض عن شحة كميات السمك من الشبوط و البني و القطان في انهار العراق و اهواره و بحيراته . كما ان الطلب على سمك الأنهار العراقية ذي النكهة المتميزة الخاصة في بلاد الشام و فلسطين و الدول المجاورة قد تعاظم نتيجة توفر وسائط النقل و التبريد ، حتى اصبح تصدير السمك من مصادر التجارة العراقية . لم تكن ايام خير بالنسبة للسمك. فاضطرت السلطات في الأخير الى تحديد كميات الصيد بل و منعه في بعض الأماكن حفظا على وجوده و تكاثره . و كان من ذلك ان متصرف لواء الكوت اصدر امرا في سنة 1954 بمنع الصيادين في المنطقة من صيد السمك بجانب سد الكوت فتعالى احتجاج الصيادين و تجار السمك. فعقدوا اجتماعا عاما و قرروا ارسال احتجاج و شكوى الى رئيس الوزراء السيد نوري السعيد رحمه الله بهذا النص:
فخامة الأمجد نوري باشا السعيد. رئيس الوزراء الموقر. نحن صيادي الأسماك بمدينة الكوت ، لقد حرصنا دوما على اطاعة اوامر الحكومة و القيام بخدمة العلم . ثم فوجئنا بقرار متصرف لواء الكوت القاضي بمنعنا من الصيد ، بحجة ان الموسم موسم تكاثر الأسماك. إن صيد السمك هو مصدر عيشنا الوحيد. فهل ترضى حكومة فخامتكم بأن يموت ابناء الشعب حتى يتكاثر الحيوان و يعيش السمك؟"
لا ادري بما استجاب نوري السعيد على طلبهم ، هل مال الى جانب شعب العراق ام سمك العراق من الشبوط و البني..