- الطبيعة الانسانية :

ان الواقعية السياسية عند (مكيافللي)*، مبنية على نظرة ساخرة الى الطبيعة البشرية، فالبشر عند مكيافللي خبثاء يتمسكون بـ المصالح المادية اكثر من تمسكهم بحياتهم الخاصة([1])، وهم على استعداد لتغيير اهوائهم وعواطفهم وهم ناكرون للجميل ومتقلبون، مراؤون، ميالون الى تجنب الأخطار، وشديدو الطمع وهم الى جانبك طالما أنك تفيدهم، فيبذلون لك دماءهم وحياتهم واطفالهم وكل ما يملكون، ولا يترددون في الاساءة الى ذلك الذي يجعل نفسه محبوباً بقدر ترددهم في الاساءة الى من يخافونه، اذ أن الحب يرتبط بسلسلة من الالتزام التي قد تتحطم بالنظر الى أنانية الناس عندما يخدم تحطيمها مصالحهم، بينما يرتكز الخوف على الخشية من العقاب، وهي خشية قلما تمنى بالفشل([2]).
استنتج (مكيافللي) هذا الموقف من الانسان من خلال خبرة واسعة في العمل الدبلوماسي جعلته يتشاءم بهذه الصورة من طبيعة الانسان، وكان يعتقد ان طبيعة البشر تتميز بـ الأنانية وحب الذات، ويدعو رجال السياسة الى ان يجعلوا هذه الحقيقة موضع اهتمامهم عندما يحكمون الشعوب، وفي رأيه ان هذه الأنانية تبدو واضحة في رغبة المواطن العادي في تأمين حياته وممتلكاته، اما طبقة الحكام فتبدو أنانيتهم في رغبتهم في ازدياد قوتهم وسلطانهم([3]).
ويرى (مكيافللي) بأن الانسان ميال بفطرته الى القتال وحب التملك والمحافظة على ثرواته ويحرص على الاستزادة منها ويقول بهذا الصدد: "أذ أن من الاسهل على الانسان أن ينسى وفاة والده من أن ينسى ضياع ارثه وممتلكاته"([4])، فالرغبة في التملك لا حدود لها، لذا لابدّ من سلطان يقرر الحدود، وبما أن مصادر الثروة محدودة بطبيعتها، كما أن مقاعد السلطان محدودة، وبما أن يشتد النزاع بين الافراد للحصول على اكبر نصيب منها، وهذا النزاع يهدد كيان المجتمع وأمنه واستقراره ما لم توجد القوانين التي تضبطه وتضع حداً للرغبات، ويرى (مكيافللي) ان سلطة الحاكم ترتكز على أنها ضرورية لانقاذ المجتمع من الفوضى والدمار([5]).
ولما كانت هذه هي طبيعة الانسان الشريرة، فأن (مكيافللي)، يرى بأنه بالامكان اكتشاف قوانين ثابتة للسلطة السياسية مبنية على طبيعة الانسان السيئة، فالحاجة الى السلطة حاجة دائمة تمثل وازعاً لهذا السوء، فمادامت طبيعة الانسان السيئة لا تتغير، فان السلوك السياسي للحاكم ايضاً نواميس لا تتغير([6])، وقد عبر هذا في كتابه (المطارحات)، بقوله "آشار جميع كتاب السياسة عبر التاريخ الطويل، الى أن هناك عدداً ضخماً من الامثلة التي تقيم الدليل على أن الواجب يدعو عند تأليف الدول والتشريع لها، الى اعتبار الناس جميعاً من الاشرار، والى أنهم ينفسون دائماً عما في ظمائرهم من الشر، عندما تتاح لهم الفرصة للتنفيس عنه"([7])، بل انه يرى ان الناس لا يفعلون الخير الا اذ اضطروا الى فعله بدافع الحاجة، وانهم عندما تتاح لهم فرصة العمل كما يشاؤون وتتاح لهم الحرية في الاختيار، فأن الاضطراب والفوضى يصبحان المسيطرين([8]).
ولما كان الشر من طبيعة الانسان، فأن السلطة التي تقيه عواقب هذا الشر هي خير قائم بذاته، ولذلك لا تخضع هذه السلطة لقواعد الخير والشر الخلقية السائدة بين الافراد ولكنها تخضع للقواعد الموضوعية التي تفرضها متطلبات وجودها، وقد تكون مخالفة للفضائل الفردية المتعارف عليها، ففضيلة السلطة هي أن تكون، وان تبقى وتنجح، ويرى (مكيافللي)، أن الانسان الذي يريد امتهان الطيبة والخير في كل شيء يصاب بالحزن والأسى عندما يرى نفسه محاطاً بهذا العدد الكبير من الناس الذين لا خير فيهم، ولذا فمن الضروري لكن (أمير)، يرغب في الحفاظ على نفسه أن يتعلم كيف يبتعد عن الطيبة والخير وأن يستخدم هذه المعرفة أو لا يستخدمها وفقاً لضرورات الحالات التي يواجهها([9]).
مع أن (مكيافللي)، كانت فكرته سيئة عن الطبيعة البشرية، الا أنه لا يقف ازاءها مصدوماً مكتوف اليدين، فقد ذهب الى ما هو أبعد من هذا، أنه يتقبل هذا الموقف ويشرع في استكشاف أسلم الوسائل لمعالجته، كما أنه لا يلجأ الى الجانب الديني على انه حل لهذه الحالة، بل على العكس يظل يحترم جوانب معينة في الطبيعة البشرية، والتعاليم التي تجسدها، من ذلك لجؤه الى القوة والحيلة بوصفهما سبيلاً يتبعه الامير للخلاص من التمزق الاقليمي والصراع والفوضى المتفشية بين ابناء الشعب([10]).

- خطاب الوحدة والقوة :

عاصر (مكيافللي)، الفساد السياسي والاجتماعي اللذين تعرضت لهما ايطاليا، وتمزق قلبه لحالة التفتت والانقسام التي سادت بلاده في ذلك العصر، فراح يدعو الى الوحدة الوطنية، متخذاً من القوة السافرة والوسائل المختلفة والذرائع شتى أدوات لتحقيق هذه الوحدة، ورأى أن ايطاليا المنقسمة لن تتوحد الأ على يد حكومة موناركية (حكومة فرد واحد)، تتميز بالقوة والجبروت والدهاء، من أجل ذلك فضل النظام الموناركي على أي نظام آخر، على الرغم من علمه بمساوئه، الا أن الغاية التي كان يهدف اليها تتطلب حكومة موناركية، ولا سيما وأن ايطاليا في عهده كانت مقسمة الى خمس دويلات، هي مملكة نابولي في الجنوب، ودوقية ميلان في الشمال الغربي، وجمهورية البندقية في الجنوب الغربي، وجمهورية فلورنسا والدولة البابوية في الوسط، وكانت العلاقات فيما بين هذه الدول تتسم باستفحال الحروب والخلافات فيما بينها، مما جعل كل الوطن هدفاً سهلاً للغزو الاجنبي المستمر([11]).
فـ كتاب (الأمير)، إذن دعوة الى تحرير ايطاليا، الى وحدتها وتقدمها، وحدتها السياسية في اطار دولة مركزية، ثم تقدمها على وفق أن التقدم مقرون بالوحدة، ذلك ما حصل في اسبانيا (كما يرى مكيافللي)، ويجب ان يحصل في ايطاليا، وكان هذا كل ما يستقطب تأملات مكيافللي السياسية([12]).
دعوة (مكيافللي) صريحة وواضحة الى (الأمير)، على أن يتجنب مفاهيم الاخلاق ومنطق البحث الأخلاقي، اذ ينصح (الأمير)، في الفصل الثامن عشر من كتاب (الأمير)، باستعمال الوسائل شتى من أجل المحافظة على وحدة الدولة، وبهذا الصدد يقول "لا ريب في أن كل انسان يدرك أن من الصفات المحمودة للأمير أن يكون صادقاً في وعوده وأن يعيش في شرف ونبل لا في مكر ودهاء، لكن تجارب العصر أثبتت أن الامراء الذين قاموا بجلائل الاعمال لم يكونوا كثيري الاهتمام بعهودهم والوفاء بها وتمكنوا بالمكر والدهاء من الضحك على عقول الناس وارباكها، وتغلبوا أخيراً على آقرانهم من الذين جعلوا الاخلاص والوفاء رائدهم"([13])، لذلك كان (مكيافللي) يستخدم تشبيهه الشهير. اذ يقول "على الامير أن يكون ثعلباً واسد في الوقت نفسه، اذ أن الاسد لا يستطيع حماية نفسه من الاشراك والثعلب لا يتمكن من الدفاع عن نفسه امام الذئاب، ولذا يتحتم عليه أن يكون ثعلباً ليميز الفخاخ، وأسداً ليرهب الذئاب، ولكن من يرغب في أن يكون مجرد اسد ليس الا لا يفهم هذا"([14]).
ولما كانت (القوة)، ضرورية لتحقيق الوحدة وللحد من رغبات الانسان، فأن على (الأمير)، أن يدرك انه ثمة سبيلين للحرب، الاولى بواسطة القانون، والثانية عن طريق القوة، فالأسلوب الاول هو آسلوب الأنسان، أما الاسلوب الثاني فهو أسلوب الحيوان الوحش، ولكن لما كان الاسلوب الاول غير كافٍ لتحقيق الاهداف عادة، فأن على الانسان أن يلجأ تبعاً لذلك الى الطريقة الثانية، أي القوة، اذ من الضروري ان يعرف (الأمير) أستخدام الطريقتين معاً([15]).
وبناءٍ على ذلك، فليس من الضروري أن يتحلى (الأمير)، بالصفات المشكورة، بل من الضروري أن يظهر وكأنه يتحلى بها، يقول ميكافللي "وهكذا فمن الخير ان تتظاهر بالرحمة وحفظ الوعود والشعور الانساني النيل والاخلاص والتدين وأن تكون فعلاً متصفاً بها، ولكن يجب ان تكون دائماً وابدا على استعداد لتتغير فتتلبس الصفات المعاكسة عندما تدعو الحاجة الى التغير"([16]).
وتأكيداً لذلك، أورد (مكيافللي)، مثلاً، فيقول "أن البابا اليكساندر السادس لم يقم بأي عمل سوى خداع الاخرين، ولم يفكر بأي شيء سوى ذلك، وكان يجد دائماً الفرصة للنجاح في خداعه، ولم يكن ثمة من يفوقه مهارة في تقديم الوعود، وآغداق التاكيدات، داعماً اياها بالايمان المغلطة، في الوقت الذي لم يكن هناك من هو أقل تمسكاً بها، ومع ذلك نجح دائماً في خداعه، اذ انه يتقن هذه الطريقة في معالجة الأمور"([17]).
لذا فقد آضفى (مكيافللي) صفة القداسة على كل الوسائل المتبعة من أجل الغاية، الغاية التي كان ينشدها ويعمل بإخلاص من أجلها، حتى انه انتقد الكنيسة كونها تعلم مبادئ متعالية لا علاقة لها بمبادئ الارض، أنها ترسم مجد السماء، ولم يكن مكيافللي يرغب سوى في مجد الارض، وان حدود (السياسي)، تقع في نظره في الارض لا في السماء([18]).
فالسياسة اذن تتحدد بالقوة، بالجرأة، اكثر مما تتحدد بالقانون، انها تتحدد بالحيوانية اكثر مما تتحدد بالانسانية (هكذا يرى مكيافللي)، ذلك انه لو كان البشر فضلاء وخيرين (وهو ما ينفيه مكيافللي)، لاكتفوا بالقوانين تحكمهم، لكنهم ماداموا اشراراً وجبناء ومخادعين فيلزم ان يحكمو بالقوة والخديعة، فالخديعة والقوة هما الوسيلتان الاساسيتان في العمل السياسي، انهما الاداتان اللازمتان لكل مسعى سياسي، ولا سيما للمسعى الذي كان (مكيافللي)، يرمي الى تحقيقه، وهو وحدة ايطاليا وقوتها([19]).

- الدولة والكنيسة :

تنشأ الدولة بدافع الحاجة الماسة لتأمين حياة الناس التي تهددها طباعه الشريرة، لذلك كانت الدولة بمثابة المخرج الضروري للتأزم والمعاناة على وفق انها الشكل الاجتماعي التاريخي الثقافي الذي لاغنى عنه في تطوير الحياة الاجتماعية والسياسية مما يجعل الحفاظ على بنيتها وديمومتها مسألة ضرورية، وحرصاً على تحسين وسائل الدفاع عن أنفسهم، شرع الناس يتطلعون الى رجل منهم يكون اكثر قوة واكثر شجاعة من غيره فينصبونه رئيساً عليهم ويدينون له بالطاعة، بعد أن كانوا يعيشون في العالم اشتاتاً متفرقين كالحيوانات([20]).
يرى (مكيافللي)، أن الدولة، أما أن تقوم على آسس أخلاقية ودينية، وأما لا تقوم عليها، فتتجه نحو الحكم على السلوك الانساني بما فيها السلوك السياسي وفقاً لمبادئ السلوك الإنساني البحت، وقد أكد (مكيافللي)، الطريق الثاني، وقرر أن الدولة التي تتبع قواعد الأخلاق لا تلبث أن تنهار، فأن ما تفعله الدولة لا يتصل بـ الاخلاق أو اللأخلاق، فهذا لا يهم الدولة في قليل أو كثير، فشؤون الحكم لا تعرف الا مبدأ واحداً أو معياراً وحيداً يحكم به على الفعل، وهذا المبدأ وذلك المعيار هو النتائج التي يحققها الفعل، فأذا كانت النتائج مفيدة، كان الفعل صائباً، واذا كانت غير مفيدة، كان الفعل خاطئاً، فليس ثمة ما يدعو للعجب حينما هاجم مكيافللي رجال الدين وبشدة([21]). وهو الذي شكر فضل (الكنيسة) على الشعب الايطالي، فيقول بهذا الصدد "نحن الايطاليين ندين لكنيسة روما وقسيسيها بما وصلنا اليه من عدم تدين وفساد خلق بل نحن ندين لها بدين اعظم وهو ذلك الدين الذي سيؤدي بنا الى الانهيار، ذلك أن الكنيسة هي التي عملت، وما زالت تعمل على تقسيم وطننا، ولا ريب أن ايطاليا لم تنعم بنعمة الشعور بالوحدة وبالسعادة كما هي الحالة في فرنسا واسبانيا بفضل وجود الكنيسة، وعلى هذا فقد كانت الكنيسة السبب في الحيلولة دون وجود ايطاليا تحت حكم سلطة واحدة، وجعلها موزعة بين عدد من الامراء والسادة الذين جاءوا لها بالفرقة والضعف حتى انها غدت فريسة لا للأقوياء من البرابرة فحسب بل لكل من يهاجمها([22]).
مع هذا لم يكن (مكيافللي)، غير مبال بما للدين من أثار في جماهير البشر وفي الحياة الاجتماعية والسياسية، وأن كان يقر بأستخدام الوسائل غير الاخلاقية لتحقيق الغاية الاساسية من السلطة، ولم يشك في أن الفساد الاخلاقي في الشعب يجعل الحكم الصالح مستحيلاً، وكان (مكيافللي)، معجباً بالفضائل المدنية التي تحلى بها الرومان القدماء، كما تحلى بها السويسرون في ايامه، ورأى ان هذه الفضائل نشأت من النقاء في الاسرة والاستقلال في الحياة الخاصة، والبساطة في العادات، والولاء والأمانة في آداء الواجبات العامة، وهذا لا يعني أن على الحاكم أن يؤمن رعاياه، أو يطبق أخلاقياتهم([23])، فقد وضع (مكيافللي)، معيارين للاخلاق في الدولة: آحدهما لـ (الأمير)، والأخر، للمواطن المحكوم، ومقياس المعيار الأول، (أخلاق الأمير)، بمدى ما يتصل اليه من نجاح في توطيد مركزه وتحقيق وحدة الدولة، ويقاس المعيار الثاني (أخلاق الرعايا)، بمقدار الخدمات التي يؤديها المواطن للمجتمع([24]).
لقد كان (مكيافللي)، يدرك أن الشعب في حاجة الى القوتين معاً، أي القوة المادية والقوة الروحية، ثم يلقي على الحاكم تبعة تحقيق هاتين القوتين للشعب، ويجعل الحاكم خارج اطار المجتمع فلا يلزمه باتباع القواعد الخلقية التي يجب أن يتمتع بها المجتمع، أي أنه فوق الاخلاق التي يراد فرضها في داخل المجموعة([25]). كما أنه يدعو (الأمير)، أن يبدو في نظر الاخرين فاضلاً، مؤمناً، وبفضل هذه الازدواجية وحدها يستطيع الحاكم ان يحتفظ بموقعه([26]).
الا أن هذا الموقف من الدين والاخلاق قد تغير شيئاً فشيئاً عند (مكيافللي)، وظهر ذلك بصورة واضحة من كتابه (المطارحات)، فيقول "على كل من يرغب من الأمراء والجمهوريات في البقاء في نجوة من الاحتلال ان يحتفظ بنقاء طقوس الديانة التي يؤمن الامير أو الجمهورية بها، وأن يحلها محل الاجلال دائماً، اذ لا دليل اصدق على انحطاط أي بلد من البلاد، من رؤية العبادة السماوية فيها موضع الاهمال وعدم الاكتراث"([27])، وهكذا صار (مكيافللي)، يدعو الأمراء على اتباع المبادئ الاساسية للديانة المسيحية، اذ يقول "ولهذا يتوجب على حكام أية جمهورية أو مملكة، أن يحافظوا على المبادئ الاساسية للديانة التي تصون لهم وجودهم واذا ماعملوا هذا سهل عليهم أن يصونوا تدين دولتهم مما يؤدي الى الحفاظ عليها متحدة طيبة، وعليهم ايضاً ان يسندوا وأن يشجعوا كل ما يمكن له أن يساعدهم على تحقيق هذه الغاية"([28])، ومعنى هذا، اتباع التعاليم الدينية كما يرغب (الأمراء)، وليس كما يرغب رجال الدين والبابا، ويرى (مكيافللي)، أنه من الممكن ان تكون الديانة المسيحية ذات نفع في سبيل الوحدة والبطولة الايطالية، اذا لم تكن الباباوية قد أفسدتها وجعلت كل أنسان لا يؤمن بها ولا ثقة له فيها، وكان هذا شراً مستطيراً وجريمة لا تغتفر، وليس هناك دولة تستطيع أن تقف على قدميها ويصلح أمرها دون ايمان، ويرى أنه من الواجب أن يؤمن الشعب، وليس من المحتم أن يكون الحاكم من المؤمنين([29]).
واستشهد (مكيافللي)، بالتاريخ الروماني وكيفية ممارستهم للسياسة والدين معاً، وبهذا الصدد يقول "وكان الدين هو الذي ذلل لمجلس الشيوخ، ولرجال روما العظام المشاريع التي عزموا على القيام بها"([30])، وقد أتخذ من ممارساتهم (أي الرومان القدماء)، مثالاً يحتذى به "وسيرى أولئك الذين يهتمون بالتاريخ الروماني ايضاً، كيف كان الدين عاملاً مساعداً في السيطرة على الجيوش، وفي تشجيع العامة على أخراج افضل الرجال وفي الحاق العار بأسوإهم"([31]).
ومهما يكن من نظرة (مكيافللي)، العملية للدين، فانه تمكن وله يعود الفضل في فصل السياسة من القيم والاعتبارات الاخرى (الدين والاخلاق)، وجعل السياسة موضوع بحث مستقل، لذلك تميز خطابه بالجدة والاصالة، وقد استمد النسق السياسي من حقيقتين، الحقيقة الاولى، استمدها من الفكر السياسي الاغريقي، وهي تقرر أن الدولة أسمى صورة من صور التجمعات الانسانية وهي من ثم تعلو على أي فرد، أو على أي تجمع ما دامت قادرة على رفاهية افرادها وحمايتهم([32])، أما الحقيقة الثانية فتقرر أن اهتمام الذات بشئ أو بأخر، لا سيما المادي منها وهو العامل الرئيسي في البواعث السياسية، وبالتالي فأن مهنة السياسة فن يخضع لحساب دقيق للاهتمامات الانسانية في أي صوب، وهو يرتكز على الاستعمال الذكي لأمهر الوسائل العملية في مقابلة الصعاب التي قد تعوق الاهتمامات، وبذلك يبعد (مكيافللي)، عن دائرة السياسة كل نفوذ لاهوتي أو كنسي([33]).

- تقسيم الحكومات :

رفض (مكيافللي)، التقسيمات السابقة لانظمة الحكم (التقسيمات الثلاثية)، وكان يرى أن هناك نوعين من الحكم صالحين ويتمتعان بالاستقرار، فيقول "لا تخرج جميع الحكومات والمماليك، التي حكمت الجنس البشري في الماضي أو التي تتولى حكمه الان، عن أن تكون في أحد شكلين، اما الشكل الجمهوري أو الشكل الملكي، والملكيات أما أن تكون وراثية، بحيث ينتقل الحكم فيها عبر السنوات الطويلة، ضمن أفراد الاسرة الواحدة، أو حديثة العهد والنشوء، والملكيات الناشئة حديثاً، إما أن تكون جديدة في كل شيء، كما هي الحالة في ميلان، أو تكون ملحقات جديدة اتبعت بممتلكات الامير الوراثي الذي ضمها الى ممتلكاته كما هي الحالة في مملكة نابولي التي يحكمها ملك اسبانيا"([34]).
ويرى (مكيافللي)، أن أي من النظامين، الملكي أو الجمهوري، قد يصلح في حالة معينة ولا يكون صالحاً في حالة أخرى نظراً للظروف التي تمر بها الدولة وطبيعة الشعب المحكوم، فالنظام الملكي في نظره ضروري للدولة الجديدة، اذ يكون الحاكم في هذه الدولة هو صانع الدولة وصائغ أخلاقها ونظمها الاجتماعية، كما أن النظام الملكي ضروري لأصلاح الدول الفاسدة والقضاء على الاعداء والمنافسين والثورات وفي اوقات الازمات([35]).
وعلى الرغم من أن (مكيافللي)، ظهر في كتابه (الأمير)، نصيراً للنظام الملكي فأن ذلك لم يكن منه الا بمثابة نزعة عارضة مؤقتة يمكن تفسيرها كون (مكيافللي) كان رجلاً وطنياً ويرى انه لا يمكن تحقيق وحدة ايطاليا كلها الا على يد أمير قوي مثل أمير فلورنسا الجديد (مديتشي)، فضلاً عن محاولته التقرب من الأمير الجديد الذي تولى حكم فلورنسا، لأسترضائه وأعادته الى وظيفته فقد أستغنى عن خدماته قبل ذلك([36]).
كان (مكيافللي)، يعتقد أن الشعب الايطالي، شعب لم يصل بعد الى درجة الفضيلة اللازمة للحكم الجمهوري (في عصره)، ولذلك كان يرى أن اكثر الانواع ملاءمة لحكم الشعب الايطالي هو النظام الملكي، مع ذلك يجب الا يؤخذ الملكية على أنها النظام الأمثل للحكم عند (مكيافللي)، بل أن الوضع السياسي في بلدة كان يتطلب ذلك، وعد الحكومة الجمهورية أمر غير عملي، وأن الدكتاتورية هي الطريق الوحيد لخلق نوع من الاستقرار([37]).
مع أن (مكيافللي)، دعى الى الملكية المطلقة، الا أن ذلك لا يتطابق مع تحمسه المخلص للحرية والحكم الذاتي في الجمهورية، الا أن النظام الجمهوري ليس الا شكلاً خاصاً من أشكال الحكم لا يمكن تطبيقه في شعب الا ذو ميزات خاصة، بحيث لا يطبق في شعب الا اذ بلغ هذا الشعب درجة عالية من (الفضيلة)* ، تجعله قادراً على تطبيقه والافادة منه، فاذا آعوزت الفضيلة شعباً فأنه يكون فاسداً وعلى ذلك لا يستطيع الا أن يعيش على وفق نظام الملكية، ويمكن القول بأن (مكيافللي) كان يفضل النظام الجمهوري بوجه عام (أي كمبدأ عام)، أما النظام الملكي فكان يفضله (بوجه خاص)، لايطاليا من آجل توحيدها([38]).
في الواقع أن (مكيافللي)، لم يضع نظرية عامة يدافع بها عن ايمانه بالحكم المطلق كما فعل (توماس هويز)، فيما بعد، وسبب ذلك تردده بين هذا الايمان وبين حبه الدفين لنظام الحكم الجمهوري، وكأنه بذلك يقدم نظريتين لأمثل حكم، احدهما للثورات، والاخرى للحكومات، وهو يوصي بنظام الحكم المطلق في حالتين، الأولى في حالة تكوين دولة جديدة، والثانية حالة اصلاح دولة فاسدة، فاذا ما تكونت الدولة واستقرت، ويكون للمواطنين حق المشاركة في الحكم ليستمر بقاء الدولة، ويجب على الحكومة ان تحترم الحقوق الاساسية للأفراد، وأن تحترم القوانين، فبذلك تستمر الدولة ويمتد بقاءها([39]).
وانصافاً لمكيافللي، ينبغي القول (كما ذهب الى ذلك برتراندرسل)، بأن (مكيافللي) لم يكن يدعو الى الشر من حيث هو مبدأ، فقد كان ميدان بحثه يقع خارج نطاق الخير والشر، وكانت الحجة التي يعرضها هي أنك اذا أردت اكتساب السلطة فعليك أن تكون قاسياً بلا رحمة، اما مسألة ما اذا كان هذا خير أم شر، فهي مسألة أخرى تماماً لا شأن لمكيافللي بها، فدراسته لسياسة القوة كما كانت موجودة فعلاً، لا يعدو وآن يكون تلخيصاً للممارسات التي كانت شائعة في ايطاليا خلال عصر النهضة([40]).


* ولد نيكولا مكيافللي Niccolo Machiavelli (1469 – 1527)، بمدينة فلورنسا الواقعة في وسط ايطاليا، وكان والده محامياً، بدأ مكيافللي حياته السياسية بعد أن اختير سكرتيرا للجنة الحرب سنة 1498، والتي استمر فيها حتى عام 1512، أشهر مؤلفاته (الأمير – 1513) وكذلك كتابه (المطارحات – 1520)، وكتب أيضاً كتاباً بعنوان (فن الحرب – 1520)، و (تاريخ فلورنسا)، فضلاً عن كتابته لرسائل مختلفة عن بعثاته الدبلوماسية وعن الوضع السياسي في فرنسا والمانيا وعدد من الرسائل العائلية، (للمزيد عن حياة نيكوى مكيافللي، أنظر: جوزيبي، بريتيزوليني: حياة نيكولا مكيافللي الفلورنسي، ترجمة طه فوزي، مراجعة حسن محمود، مؤسسة سجل العرب، القاهرة 1964، ص 16).

([1]) باول، جون: الفكر السياسي الغربي، ترجمة محمد رشاد خميس، مراجعة راشد البراوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1985، ص 246.

([2]) موسيليني، بنيتو: تعليق على كتاب الأمير، ترجمة خيري حماد مع ترجمة لكتاب (الامير) لمكيافللي، دار الافاق، بيروت، ط9، 1988، ص 7.

([3]) غالي، بطرس بطرس ومحمود خيري عيسى: المدخل في علم السياسة، ص 85.

([4]) مكيافللي، نيكولا: الأمير، تعريب خيري حماد، تعقيب فاروق سعد، مقدمة كريستيان غاوس: تعليق بنيتو موسوليني، ط11، دار الافاق الجديدة، بيروت 1981، ص 145.

([5]) غالي، بطرس بطرس ومحمود خيري عيسى: المدخل في علم السياسة، ص 85.

([6]) صعب، حسن: علم السياسة، ص 95.

([7]) مكيافللي، نيكولا: المطارحات، تعريب خيري حماد، منشورات المكتب التجاري، ط1، بيروت 1962، ص 224.

([8]) مكيافللي، نيكولا: المطارحات، تعريب خيري حماد، منشورات المكتب التجاري، ط1، بيروت 1962، ص 224.

([9]) مكيافللي : الأمير ، ص 136، وكذلك، حسن صعب: المصدر نفسه، ص 96.

([10]) جون باول: الفكر السياسي الغربي، ص 272.

([11]) محمد، علي عبد المعطي، ومحمد علي محمد : السياسة بين النظرية والتطبيق، تقديم محمد علي ابو ريان، دار الجامعات المصرية، الاسكندرية 1976، ص 125 – 126، وكذلك، أحمد، كمال مظهر: مكيافللي والمكيافيللية، منشورات دائرة الشؤون الثقافية والنشر، بغداد 1984، ص 27.

([12]) عبد اللطيف، كمال: "الامير" خطاب الحظ والقوة، مجلة دراسات مغربية، دار التنوير للطباعة والنشر، الدار البيضاء ، المغرب 1985، ص 59.

([13]) مكيافللي: الأمير ، ص 147.

([14]) مكيافللي: الأمير، ص 148.

([15]) المصدر نفسه، ص 148، وكذلك، بدوي، محمد طه: أمهات الافكار السياسية الحديثة وصداها في نظم الحكم، دار المعارف، ط1، القاهرة 1958، ص 42.

([16]) مكيافللي: الأمير، ص 150، وكذلك ينظر: قربان، ملحم: قضايا الفكر السياسي (القوة)، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، بيروت 1983، ص 222.

([17]) مكيافللي : الأمير، ص 249، وأيضاً، بلال، عبد الناصر زاهر أحمد: الفلسفة السياسية بين ابن خلدون ومكيافللي، رسالة ماجستير، كلية الاداب، جامعة بغداد 1998، ص 148.

([18]) كمال عبد اللطيف: مصدر ذكر سابقاً، ص 63.

([19]) كمال عبد اللطيف: مصدر ذكر سابقاً، ص 66.

([20]) مكيافللي : المطارحات، ص 218.

([21]) محمد، علي عبد المعطي: السياسة اصولها وتطورها في الفكر الغربي، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية 1983، ص 180.

([22]) مكيافللي : المطارحات، ص 269.س

([23]) سباين، جورج: تطور الفكر السياسي، ك3، ترجمة راشد البراوي، تقديم أحمد سويلم العمري، دار المعارف بالاشتراك مع مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، القاهرة 1971، ص 477.

([24]) بطرس بطرس غالي ومحمود خيري عيسى: المدخل في علم السياسة، ص 85.

([25]) سباين، جورج: تطور الفكر السياسي، ك3، ص 478.

([26]) رسل، برتراند: حكمة الغرب، ج2، فلسفة حديثة ومعاصرة، ترجمة فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 1983، ص 32.

([27]) مكيافللي: المطارحات، ص 265.

([28]) مكيافللي: المطارحات، ص 266.

([29]) جوزيبي، بريتيز وليني: حياة نيكولا مكيافللي الفلورنسي، ص 160، وكذلك بلال، عبد الناصر زاهر: الفلسفة السياسية بين أبن خلدون ومكيافللي، ص 159.

([30]) مكيافللي: المطارحات، ص 261.

([31]) مكيافللي: المطارحات، ص 262.

([32]) محمد، علي عبد المعطي: السياسة اصولها وتطورها في الفكر الغربي، ص 179.

([33]) محمد، علي عبد المعطي: السياسة اصولها وتطورها في الفكر الغربي، ص 179.

([34]) مكيافللي: الأمير، ص 54.

([35]) بركات، نظام، (وآخرون): مبادئ علم السياسة، دار الكرمل للنشر والتوزيع، ط1، عمان 1984، ص 54، كذلك ينظر: سعفان، حسن شحاتة: اساطين الفكر السياسي والمدارس السياسية، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1959، ص 182.

([36]) باول، جون: الفكر السياسي الغربي، ص 266.

([37]) المصدر نفسه: ص 267.

* تكرر ورود مصطلح (الفضيلة) في كتابات مكيافللي، فهي لا تعني عنده مثلا، الحكمة أو الخير أو سلامة الحكم، أو السلطان، كما لا تعني مطلقاً حسن الطالع، بل كان يقصد بها في آغلب الاحيان (الكفاية)، حتى لو استعملها مع الجنود اذ تؤدي كلمة (البسالة) المعنى بصورة ادق، ذلك أن مكيافللي لا يصف الجندي الناقص التدريب أو السيء الكفاية بالفضيلة، يقول تيلي – tilly، أن مؤلف الامير عنى بمصطلح (الفضيلة) لا (الفضيلة) في حد ذاتها، بل البسالة والمقدرة والنجاح، وهي الصفات التي قدرها عصر النهضة كل التقدير، أي أن (مكيافللي) استخدم هذا التعبير على الصعيد السياسي المجرد، ولا يعني أي معنى أخر (ووكر) ليسلى: عرض نظرية مكيافللي السياسية، ترجمة خيري حماد - لكتاب المطارحات لمكيافللي، منشورات المكتب التجاري، ط1، بيروت 1962، ص 125.

([38]) متولي، عبد الحميد: الوجير في النظريات والانظمة السياسية ومبادئها الدستورية، دار المعارف، ط1، مصر 1959، ص111.

([39]) بطرس بطرس غالي ومحمود خيري عيسى: المدخل في علو السياسة، ص 87.

([40]) آنظر: رسل، برتراند: حكمة الغرب، ص 30.