-السياسية :
السياسة لغة واصطلاحاً :
يقول إبن منظور(ت711هـ)فهي لغةً:((السَّوسُ:الرّياسة،يقال ساسوهم سَوْسَاً،وإذا رأسوه قيلَ سَوَّسوه.وساسَ الأمرَسياسةً:قامَ بِهِ،ورَجُلٌ ساسٌ من قوم ساسةً وسُوّاسٌ؛وَسوَّسَهُ القَوْمُ،جعلوه يَسوسُهُم.ويقال سوَّسَ فُلانٌ أمرَ بني فُلان أي كُلِّفَ سياسَتَهُم))([1]) .
وأما إصطلاحاً:فهي ((القيامُ على الشّيء بِما يُصْلِحُهُ.والسياسة:فِعْلُ السائِس.يُقالُ:هوَ يَسوسُ الدّوابَّ إذا قامَ عليها وراضها،والوالي يسوس رَعيَّتَهُ)) ([2]) .
وأما مفهوم السياسة من وجهة النظر الإسلامية فيعني((تدبير شؤون الأمة حسب تعاليم الإسلام، التي تتناول الجوانب الدينية والدنيوية معاً؛ ذلك أن الإسلام – كما فهمه الأولون– دينٌ وسياسةٌ وعقيدةٌ ونظام، فالدين والسياسة متلازمان في الشريعة الإسلامية)) ([3])،ولا يجوز الفصل بينهما. فإذن تعني الوصية السياسية بصورة عامة هي الحث على تنظيم شؤون الأمور الإدارية بشتى أشكالها المختلفة كما اعتاد عليها الناس عند إطلاق تلك الكلمة، إلا أنها في الحقيقة تعطي أكثر من هذا المعنى كوصية الآباء للأبناء ليكونوا بمستوى المسؤولية في تحمل أعباء قضايا تهمّ مسيرة حياتهم مستقبلاً في إدارة ما يوكّل إليهم لرئاسة القبيلة كما في عصر ما قبل الإسلام([4])،أو السلطة الإدارية التي يطمح إليها بعض الآباء لأبنائهم كوصايا الخلفاء السياسية لأولادهم ليكونوا من بعدهم خلفاً لهم([5])،أوربما تتضمن تلك الوصايا التحذيروالإبتعاد عن الأمور التي تقلل مــن شأن الموصى إليه عندما يتولى أمراً مهماً ليكون على بصيرة من امره، ويجنب بها نفسه ما لا يليق به، فعلى سبيل المثال لا الحصر وصية يحيى بن خالد البرمكي(ت190هـ)لإبنه الفضل حينما ولاّه الخليفة هارون الرشيد(ت193هـ)ولاية خراسان، فوجده منشغلاً باللهو والصيد، فاستدعى الخليفة والده يحيى ليطّلعَ على ما يفعله إبنه، فدفع ذلك بيحيى إلى أن ينشد إبنه الفضل أبياتاً يدعوه فيها الإبتعاد عما لا يليق به، ويقلل من شأنه السياسي([6]) .
فهذا ما يوضح أن الشعر بحد ذاته((فَنٌّ سياسيٌّ مِنْ حَيْثُ غايَتُهُ وَجَوُّه الذي يتنَفَّسُ فيه))([7]). كما ذهب إليه الأستاذ أحمد الشايب،مؤكداً أنه كان يدافع عن كيان القبيلة ومآثرها داخلياً وخارجياً كما في عصر ما قبل الإسلام،ومسايرته الدولة الإسلامية دفاعاً عن كيانها الداخلي وسلطانها الخارجي،وإستخدامه سلاحاً فعالاً من المعارضة السياسية ضد الدولة الأموية([8]).
فلابدّ هنا من الإشارة إلى أن الوصايا السياسية التي يتناولها النثر الأدبي تكون أكثر من الوصايا السياسية التي يتناولها الشعر،لأنه بإمكان كلّ إمريءٍ أن يكون ناثراً وليس بإمكانه أن يكون شاعراً،لأن الشعر يعتمد على الموهبة الخاصة بالشاعر وقد لا نجدها في غيره .
ويرى البحث أن اول وصية في الشعر تعطي معنى السياسة في بداية عصر صدر الإسلام هي الابيات التي أوصى بها أبو قيس بن صرمة(ت نحو5 هـ)أبناءه بالإبتعاد عن الحقد والضغينة والحسد بازاء قومهم وعشيرتهم إن أصبحوا أهل السيادة والرياسة،وحثهم فيها على إقامة العدل والتمسك به وأمرهم بالدفاع عن قومهم وعشيرتهم،وبذل النفس في سبيلهم إن نزل بهم أمر عظيم، أو استنجدوهم لدفع الملمات،كما في قوله :
يَقُولُ أبوقَيْس وَأصْبَحَ غادِيَـــاً ألا ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ وصاتي فافْعَلُـوا
* * * * * *
وَإنْ قَوْمَكُمْ سادُوا فَلا تَحْسُدوهُـم وَإنْ كُنْتُمْ أهْلَ السِّيادَةِ فَاعْدِلـــوا
وإنْ نَزَلَتْ إحْدَى الدَّواهي بِقَوْمِكُمُ فَأنْفُسكمْ دونَ العَشِيرةِ فابذُلـــوا
وَإنْ طَلَبُوا عُرْفًاً فَلا تَحْرِمُوهُـمْ وَإنْ كانَ فَضْلُ العُرْفِ فِيهِمْ فَأفْضلوا
وإنْ أنْتُمْ أعوَزْتُم فَتَعَفَّفُــــوا وما حَمَّلوكُمْ فِي النَّوائِبِ فَاحْمِلــوا ([9]).
ما ورد في هذه الوصية يدل على حرص الآباء على أبنائهم، فأبو قيس يرى أنه يتحتم عليه أن يقدم لأبنائه عصارة تجاربه وخبراته لأنه يطمح فيهم أن يكونوا من أهل السيادة والرياسة في عشيرتهم من بعده وبمستوى المسؤولية في تحمل مهامهم،وأن يبذلوا كل ما في وسعهم خدمةً لعشيرتهم وأبنائها،ويدفعوا عنهم ما يسيئهم،ويكونوا فيهم أهل الفضل والعطاء ومدَّ يد العون والمساعدة إلى أهل العوز منهم ليثبتوا لهم من خلال هذه الأعمال النبيلة جدارتهم وإخلاصهم وشجاعتهم وتمكنهم في إدارة المهام الملقاة على عاتقهم ويبدو من البيت الثالث أن الشاعر ينطلق من وصيته لأبنائه من خلال النزعة العصبية القبلية التي كانت سائدة في حياة ما قبل الإسلام التي تدعو إلى بذل النفس في سبيل القبيلة والتي تخالف المباديء والقيم النبيلة التي جاء بها الإسلام،وهذا يدل أن الشاعر لم يتشرب بمباديء العقيدة الإسلامية بشكل تنظم فيه فكرته الداخلية بصورة متكاملة،وربما يعود ذلك غلى بقايا بعض العادات والتقاليد القديمة في نفسه ولم تتأصل فيها على نحو نهائي .
وهذا معاذ بن جوين بن حصين الطائي(ت 58هـ)،كان من الخوارج ومسجوناً لدى المغيرة بن شعبة أحد قادة بني أمية،أوصى إخوته من الخوارج بالنهوض ضد الحكم الأموي، قائلاً :
ألا أيُّها الشّارونَ قَدْ حانَ لامريءٍ شَرَى نَفْسَهُ لِلّهِ أنْ يَتَرَحَــلا
أقَمْتُمْ بِدارِ الخاطِئينَ جَهالَــــة وَكُلُّ امرِيءٍ مِنْكُمْ يُصادُ لِيُقْتَلا
فَشُدّوا عَلَى القَوْمِ الغَداةِ فَإنّمــا إقامَتُكُمْ للذَّبْحِ رَأيَاً مُضَلِّــلا
ألا فاقْصُدُوا يا قَوْمُ للغايَةِ التــي إذا ذُكِرَتْ كانَتْ أبَرَّ وَأعْــدَلا ([10])
وكانت حرب الخوارج حرباً دينية كما يزعمون،فآمنوا بأنهم على الحق والمسلمون من غيرهم خرجوا على حدود الله،وأنه ينبغي جهادهم حتى يعودوا إلى حياض الشريعة،ويرون جهادهم فرضاً مكتوباً،لذا كانت غاية كل خارجي أن يوصي الآخر منهم أن يُقْتَلَ حتى يُكْتَبَ في سجل المستشهدين ([11]) .
وكان أبو الوازع الراسبي من مجتهدي الخوارج ونساكها،وكان يذم نفسه ويلومها على القعود، فأتى نافع بن الأزرق وهو في جماعة من أصحابه،يصف لهم جور السلطان وفساد العامة وكان نافع ذا لسان عضب واحتجاج،وصبر على المنازعة،فأتاه أبو الوازع،فقال له يا نافع:إنك أُعْطيتَ لساناً صارماً،وقَلباً كليلاً،فوددت أن صرامة لسانك كانت لقلبك،وكلال قلبك للسانك؛ أتحض على الحق وتقعد عنه!وتُقَبِّح الباطل وتقيم عنه!فقال نافع:يا أبا الوازع؛إنا ننتظر الفرص؛ إلى أن تجمع من أصحابك من تنكي به عدوّك([12])،ثم أوصاه أبو الوازع بالجهاد، قائلاً:
فَجاهِدْ أناسَاً حارَبُوا اللهَ واصطَبِرْ عَسَى اللهَ أنْ يُخْزِيَ غَويَّ بَنِي حَرْب ([13]) .
مما لا شك فيه أن شعراء الخوارج إتخذوا الجهاد في سبيل الله طريقاً لإقناع أصحابهم للقيام بالثورة ضد مناوئيهِم، وانطلقوا من هذا الباب بغية إعطاء الشرعية لثورتهم .
وكان الوليد بن عقبة(ت61هـ)أخو الخليفة عثمان بن عفان t ،لأمه،ونشأ في كنفه بعدما قتل أبوه صبراً يوم بدر،فقد ارتبط الوليد بالخليفة الراشد عثمان بأكثر من وشيجة فقد تولّى رعايته وعاش في ظله،ولما قُتِلَ الخليفة t تركت مأساة قتله أثراً واضحاً في شعره، ودفعته إلى أن يظل ملتزماً بهذا الإتجاه في شعره وكلما وجد الفرصة مؤآتية للدعوة إلى الثأر له([14]) ،ذلك ما دفعه إلى أن يوصي معاوية بن أبي سفيان بإتخاذ موقف تجاه القضية سِلماَ أو حرباً ، قائلاً :
مَعاوي إنَّ المُلْكَ قَدْ آبَ غارِبُــهُ وأنْتَ بِها في كَفِّكَ اليَوْمَ صاحِبُـه
أتاكَ كِتابٌ من عَلِيٍّ بِخَطِّــــهِ هِيَ الفَصْلُ فاخْتَرْ سِلْمَهُ أو تُحارِبُه
* * * * * *
وَلا تَرْجُونَ مِنْهُ الغَداةَ مَـــوَدَّةً وَلا تَأمَنَنَّ الدَّهْرَ ما أنْتَ راهِبُــه
وحارِبْهُ إنْ حارَبْتَ حَرْبَ إبْن حُرَّةٍ وَإلاّ فَسِلْماً لا تَدُبُّ عَقارِبُــــه
ولا تَدَعَنَّ المُلْكَ والأمْرَ مُقْبِـــلٌ وَلا تَطْلُبَنْهُ حِينَ تَهوى مَذاهِبُـه
فَإنْ كُنْتَ تَنْوِي أنْ تُجِيبَ كِتابَــهُ وأنْتَ لأمرٍ لا مَحالَةَ راكِبُـــه
فالحق إلى الحَيِّ اليَمانِينَ كَلِمَــةً تَنالُ بِها الأمْرَالذي أنْتَ طالِبُــه([15]) .
لقد تسلم الوليد ((مواقع خطيرة في بداية الدعوة فكان والي الصدقات في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، وأبي بكر الصديق وعمروتولى أمارة الكوفة في زمن عثمان t،ومن غير المعقول أن يتسلم هذه المواقع الحساسة وفي بداية الدعوة إذا لم تكن له من المؤهلات ما تضعه في هذا الموضع،ومن الدراية ما يستطيع بها أن يؤدي مهمته على الوجه الأكمل،ومن الثقة ما يحقق له هذا التوجه.ويبدو أن البعد السياسي الذي تحرك فيه الشاعر بعد مقتل عثمان بن عفانt،هو الذي هيأ للأحداث التأريخية أن تصب في هذا المجرى،وهو الذي لوّن بعض أعماله باللون الذي إكتسبه حتى جعلها صورة من صور الإخفاق النفسي والإحباط الذاتي والخيبة الإجتماعية التي بسطت ظلها عليه بكل أعبائها،وتراكمت أحداثها عليه بكل أثقالها فارتسمت في نفسه أشكال الإنتقام،وتعالت في شعره صيحات الثأر إنتقاماً من الواقع)) ([16]) .
وبقيت المأساة عالقةً بنفس الوليد من جراء ما أصابه من الحزن العميق،ولم تُجْدِهِ نَفْعاً تحقيق ما كان يسعى لأجله،وتحرك مرة أخرى بالإتجاه السياسي نفسه الذي كان يتحرك من خلاله ولكن على نحو أقل حدة،فكتب إلى معاوية مرة أخرى أبياتاً من الشعر يوصيه فيها بالحفاظ على كيان دولته من الإمارات التي تحت هيمنته بكل ما أوتي من قوة ومنعة،ويحذره من جانب آخر أن يدخل الحرب ضد الإمام علي كرَّمَ الله وجهه إن لم يضمن الانتصار فيها بل السلم أولىله في هذه الحالة،قائلاً :
مُعاويَ إنَّ الشّامَ شامُكَ فاعْتَصِمْ بِشامِكَ لا تَدْخُلْ عَلَيْكَ الأفاعِيـا
وَحامِ عَلَيها بالقَنابِل والقِنـــا ولا تَكُ مَحْشوشَ الذِّراعَيْنِ وانيا
وإنَّ عَلِيّاً ناظِرٌ ما تُجيبُــــهُ فاهْدِ لَهُ حَرْبَاً تُشيبُ النواصيـا
وإلا فَسِلْمٌ إنَّ في السِّلْمِ راحـةً لِمَنْ لا يُريدُ الحَرْبَ فاختَرْ مُعاويا([17]).
يبدو من خلال الأبيات انّ الوليد لم يجد منفذاً لتحقيق ما كان يختلج في نفسه من الثأر لأخيه الخليفة عثمان t فلجأ إلى من لهم صلة قرابة به عسى أن يجد عندهم ما يحقق هدفه السياسي وغايته المنشودة ويندمل بذلك جراحه الذي كاد أن يفتك به،فاختار لذلك معاوية وحركه بالإتجاه الذي يلزمه به موصياً إياه ومحذراً بأن معارضيه يرصدونه ليضعفوا سيطرته ولهذا يحثه على أن يحاربهم بكل ما أوتي من قوة دفاعاً عن كيانه السياسي،وقبل أن يصاب بخيبة أمل ثم يدعوه إلى السلم والتخلي عن الحرب إن لم يتوقع فيها النصر.يتضح لنا هناأن الدافع من وراء هذا الخطاب السياسي لمعاوية والذي أتبعه الوليد للوصول إلى تحقيق أمانيه وأهدافه المطلوبة هو اعتماد صلة القرابة التي تربط بين أخيه عثمان t ومعاوية والتي من خلالها أراد أن يحرك ضميره نحو الأخذ بالثأر لأخيه عسى أن يخفف عن مصابه وزفراته الحزنية([18]) .
ومن اللافت للنظر أن الشاعر لم يلتزم البناء التقليدي في قصائده وأبياته الشعرية،وكان يباشر الغرض ويدخل بلا تمهيد،ويتصل بغرضه دون افتتاح،وهو وجه من وجوه الحماسة التي كانت يغمر حياته،وانعكاس الوضع النفسي الذي كان يمر به،وهذا ما جعل شعره يفيض بوجهة النظر التي كان يتصف بها،ودواعي الحجج التي كان يستخدمها،وصور الثأر التي كان يقف عندها،وقد ظل الشاعر يحمل قريشاً وبني هاشم قتل الخليفة في كثير من أبياته،وقد تمثلت في شعره صور الحجج التي استخدمها والأدلة والتي اعتمدها،وقد أخذ هذا الضرب من الشعر دوره الحاسم في حجم الهياج السياسي،واستخدم أساليب والطرق ليصل إلى أعمق المشاعر،وليثير في النفوس أشد بواعث الإندفاع من أجل تحقيق الهدف المطلوب والغاية المنشودة التي كان يسعى لأجلها،كما التجأ إلى توجيه الوصايا إلى من كان يرجو فيه النهوض للمطالبة بالحق الضائع ورده إلى ذوي القضية ([19]) ممن تربطهم صلة القرابة من السلطة القائمة آنذاك .
ويبدو من خلال كل هذه الأساليب التي اتخذها الوليد والتي اعتمدها أنه قد وصل إلى قناعة أن ما كان يبذله للوصول على حقه الضائع لم يُجْدِهِ نفعاً فاضطر إلى أن يغير سياسته التي تبناها بشأن القضية وبدأ يوجه وصاياه إلى من كانت تعنيهم القضية بالتخلي عن فكرة الثأر والإنتقام.
وأما أبو زبيد الطائي(ت نحو 62هـ)فيوصي بأنه لابد للمرء إذا تولى مهمة في حياته من أن يسعى ليسمو بها شخصيته ومكانته،وعليه أن يبني سياسته على خدمة الناس والأصدقاء والخلان ولا يتخذها تجبراً وتكبراً على الآخرين،ويجنب نفسه الحيف والتعسف،فقلما يوجد إنسان يبقى على حاله بعدما يتولى أمراً مهماً في المجتمع، بل ينحرف ويصيبه الغرور ويتعجرف .
ويكرر وصيته ويقول عليه أن يكون ذا حكمة بالغة في تدبير أموره،وينهج نهجاً قويماً وسليماً ووسطياً في تعامله بحيث لا يكون حلواً سهلاً فيبتلع أي يستغل من العامة والخاصة ، كما عليه أن لا يكون شرساً ضاراً عنيفاً فيقذف أي يفر الناس من شراسته وعنفه، قائلاً :
إذا نِلْتَ الإمارَةَ فاسْمُ فيـها إلى العَلياءِ بِالحَسَبِ الوَثيـقِ
فَكُلُّ إمارَةٍ إلاّ قَليــــلاً مُغَيِّرَةُ الصّديقِ على الصَّديق
وَلا تَكُ عِنْدَها حُلُواً فَتُحْسَى وَلا مُرّاً فَتَنْشَبَ في الحُلُـوقِ([20]).
إنطلق الشاعر من خلال سياسته الحكيمة وتجربته العميقة في الإدارة،إذ إن عمر بن الخطابt،إستعمله على صدقات قومه،وكان واثقاً به([21]) ،فدفعه ذلك إلى أن يقدم خلاصة خبرته الطويلة التي إكتسبها من توليه المهمة التي وكلت إليه من قبل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب t،إلى الآخرين ليتخذوها منهجاً لعملهم السياسي والإداري.وهذا مايؤكد أن على كل من يتولى مهمة إدارية أن يتحلى بالقيم النبيلة ولاسيما الحلم والصبر،ويتجنب الغرور والعنف كي لا يصيبه الفشل والإنهيار في أداء مهمته.كما عليه أن أن يتبنى سياسة معتدلة في تعامله مع الناس .
وهذا نهار بن توسعة(ت 82هـ)له مقطوعة شعرية يحذر فيها قتيبة بن مسلم الباهلي من خطورة الموقف بعد أن عزم على خلع سليمان بن عبدالملك بفرغانة،ناصحاً له وموصياً بأن لا ينخدع بالشاغبين عليه ،والماكرين به من جميع القبائل،من تميم والأزد،ومن بكر أيضاً فكلهم خونةٌ غدرةٌ،يتحفزون لإغتياله،وإلا فإنه سيلاقي المصير الذي لاقاه عبدالله بن خازم قبله([22])،ثم أنشده قائلاً :
تَنَمَّرْ وَشَمِّرْ يا قُتَيْبَ بِنْ مُسْلِمٍ فَإنَّ تَميماً ظالِمٌ وابنُ ظالِـم
وَلا تَأمَنَنَّ الثّائِرِينَ وَلا تَنَـمْ فَإنَّ أخا الهَيْجاءِ لَيْسَ بِنائـِمِ
وَلا تَثِقَنْ بِالأزْدِ فَالغَدْرُ مِنْهُمُ وبكرٍ فَمِنْهُمْ مُسْتَحِلُّ المَحارِمِ
وَإنّي لأخْشَى يا قُتَيْبُ عَلَيْكُمُ مَعَرَّةَ يَوْمِ مِثْلَ يَومِ ابْنِ حازم([23]) .
ينبه الشاعر قتيبة على أن يكون حَذراً من معارضيه،ويكون دائماً على أهبة الإستعداد للتصدي لهم لأنهم يترصدون له،وينتهزون الفرصة المناسبة للتنكيل به والقضاء عليه .
وأما الخليفة عبدالملك بن مروان(ت86هـ)فقد جمع أبناءه وتوجه إليهم يوصيهم،فقال إحفظوا هذه الأبيات عني :
إنْفُوا الضَّغائِنَ عَنْكُمْ وَعَلَيْكُـمْ عِنْدَ المَغيبِ وفِي حضور ِالمَشْهَـدِ
بِصَلاحِ ذاتِ البَيّنِ طُولَ بَقائِكُمْ إنْ مُدَّ في عُمْري وَإنْ لَمْ يـَـمْدُدِ
وَلِمِثْلِ رَيْبِ الدَّ هْرِ أُلِّفَ بَيْنَكُمْ بِتَراحُمٍ وتَواصُلِ،وَتَــــــوَدُّ دِ
حَتّى تَلينَ قُلُوبُكُم وَجُلُودكـُمْ لِمُسَوَّدٍ مِنْكُمْ وَغَيْرِ مُسَـــــوَّدِ
إنَّ القِداحَ إذا جُمِعْنَ فَرامَـها بِالكَسْرِ ذو حَنقٍ وبَطْشٍ أيّــــدِ
عَزَّتْ فَلَمْ تُكْسَرْ وإنْ هِيَ بُدِّدَتْ فَالوَهْنُ والتَكْسيرُ لِلْمُتَبـــــَدِّدِ([24]) .
يوصي عبدالملك أبناءه باجتناب الحقد والضغينة فيما بينهم فهو يريد بذلك أن يكونوا متحدين فيما بينهم متحابين متماسكين،ومما لا شك فيه أن الحقد والضغينة يورثان العداوة والبغضاء،وأن التماسك والتحابب يورثان القوة والمنعة ويبعثان فيهم الرفعة والسيادة،وبذلك تسمو مكانتهم وسمعتهم في المجتمع.فالوصية بهذا الشكل تدل على حرص الأب على أبنائه،وطموحه في أن يعلو شأنهم بالمحبة والتعاون،وأن يكونوا بمستوى المسؤولية في إدارة المهام الملقاة على عاتقهم من بعده، مؤكداً لهم أن النجاح حليفهم إذا تبنوا سياسة حكيمة في الإتحاد والتماسك فيما بينهم، مؤكداً أن فشلهم سوف يأتي من خلال التشتت والتفرق والكراهية .
ومما لاشكّ فيه أن عبدالملك كان شديد الحرص على ابنائه،وفي هذه المرة وجه وصيته إلى إبنه الوليد فأوصاه بأهله خيراً،ذاكراً له أسماءهم اذ أوصاه بأخيه معاوية الذي كان مصاباً بضعف البصر والإبتلاء في عقله ومحمد بن مروان،ومن أبناء العم علي بن عبدالله بن العباس([25])،فأجاب الوليد والده بهذه الأبيات تعبيراً عن إلتزامه بوصية أبيه،وإطاعة أمره،قائلاً :
إنّي لَما أوصَيْتنِيه لحافِــــظ أرْعاهُ غَيْرَ مُقَصِّر في المُحْتَــــدِ
وأَكونُ للأعْداءِ سُمّاً ناقِصــاً وَِلذِي قَرابَةٍ كالحمِيدِ الأيّــــــَدِ
ولِكُلِّ إخْوانِي وَجُلَّ عَشِيرَتِــي أرْعَى المَغِيبَ في حِفْظِهِم في المَشْهَدِ
وأقُومُ بَعْدَكَ في الرَّعية بالـّذي أوْصَيْتَني بِهِمْ بِحُسْنِ تـــــودُّدِ ([26]).
وَلما تسلم الوليد مقاليد الحكم لم يلتزم بما أوصاه به والده،فعزل عمه محمداً عن ولاية الجزيرة ، على الرغم من أن أباه كان قد أكد عليه ألا يعزله،كما أنه لم يلتزم بوصية أبيه له في أخيه عبدالله فأسرع إلى عزله عن ولاية مصر،وأما بشأن علي بن عبدالله بن العباس فقد نفاه إلى الحميمة([27]).أما عمه معاوية،فلم تذكر المصادر عنه شيئاً ذلك يعود إلى ضعف بصره،وقلة نشاطه السياسي ([28]) .
وللأخطل(ت92هـ)أبيات يوصي فيها بني أمية ويحذرهم من زفر بن الحارث بن الكلاب الكلابي،قائلاً :
بَنِي أمَيَّةَ إنّي ناصِحٌ لَكُـــم فَلا يَبيتَنَّ فِيكُم آمٍِناً زُفَــرَ
واتَّخِذوهُ عَدُّواً إنّ شاهِــدَهُ وما تَغَيَّبَ مِنْ أخْلاقِه دَعَـرُ
إنَّ الضَّغينَة نَلْقاها،وإنْ قَدُمَتْ كالعُرِّ يُكْمِنُ حيناً ثُمَّ يَنْتَشِرُ ([29]).
فكان الأخطل من شعراء بني أمية ومؤيديهم،فأراد أن يثبت لهم سياسته بازائهم وإخلاصه وموقفه من خلال تحذيراته لهم من أعدائهم ومعارضيهم ليكتسب مودتهم وثقتهم،فحذرهم من زفر بن الحارث وقال لهم إنه يكنُّ لكم العداوة والضغينة،فعليكم أن لا تثقوا به أو تأمنوا جانبه بل إتخذوه العدو الحاقد وأن لا تنخدعوا بما يتظاهر به من الود والبراءة تجاهكم،فإنه يتلوى غضباً وحقداً عليكم وقد أوضح لهم حقيقة كراهية زفر وحقده أكثر بتشبيهه بمن به جرب إن اختفى حيناً فسوف ينتشر ويفتضح أمره في النهاية .
وعندما ولّى خالد القسري الموالي لبني أمية أخاه أسداً على خراسان سنة 117للهجرة مما دفع الشيعة الى الثورة عليهم،فنهض منهم الكميت بن زيد الأسدي(ت126هـ)وأرسل إلى أهل مرو هذه الأبيات يوصيهم فيها ويحثهم على الثورة عليه ([30]) ، قائلاً :
ألا أبْلِغ جَماعَةَ أهْلِ مَــــروة عَلَى ما كانَ مِنْ ناءٍ وبُعــد
رسالة ناصح يُهْدى سَلامـــاً ويَأمُرُ في الذي رَكِبوا بِجَــد
* * * * * *
فَلا تَهِنُوا وَلا تَرْضَوا بخَسْــفٍ وَلا يَغْرُرْكُمْ أَسَدٌ بِعَهْـــــد
* * * * * *
وإلاّ فارفَعُوا الرّاياتِ سُـــوداً عَلَى أهْلِ الضّلالَةِ والتعَـــدّي([31]).
فالصراع السياسي كان قائماً بين بني أميه والشيعه،فكل واحد منهما يسعى إلى إضعاف الجانب الآخر بما أوتي من قوة فدفع ذلك بالكميت إلى أن يوجّه وصاياه إلى مؤيديهم للنهوض بالثورة ضدّ حكم بني أميه ومواليهم ولاسيما عندما ولّى خالد القسري أخاه أسداً على خراسان .
وبعد أن ترددت الأوضاع السياسية لبني أمية في خراسان وأوشكت دولتهم على الانهيار،تشغبت جماعة من الأزد([32]) ،على نصر بن سيار القائد الأموي بمرو الرّوذ سنة 126 للهجرة،فضلاً عن أنّ الأزد كانوا يخططون منذ زمن طويل للثورة على بني أمية،وسقطت المدنية بيد الأزد،وكان الشاعر عبّاد بن الحارث من مؤيدي الدولة الأموية،ويتألم لكل ما يلحق بهم من الأذى،ويطالب نصراً بالمبادرة إلى استرجاع المدينة شارحاً له وضعهم البائس وموقفهم الحرج،وما كانوا يلاقونه من البطش والقتل على أيدي هؤلاء المحتلين([33]) ،وقد دفعه ذلك الى أن يوصي نصراً والمضربين بأن ينتبهوا على خطر الأزد،قائلاً :
أَلا يا أَيُّـها المرءُ الـَّ ـذي قَدْ شَفهُ الطَّـــربُ
أَفِقْ وَدَعِ الّذي قَدْ كَنْـ ـتَ تَطلُـبُـهُ وَنَطـّلِــبُ
فَقَدْ حَدَثَتْ بِحَضْرَتِنـا أُموُرٌ شَـأْنـُها عَجَـــبُ
الأزْدُ رَأَيْـتُها عزَّتْ بِمَـرْوَ وَذَلَّـتِ العَــربُ
فَجازَ الصُّفرُ لما كـا نَ ذاكَ وبُهْرِجَ الذّهَــبُ([34]) .
فلوصية الشاعر عبّاد بن الحارث أثرها البالغ في نفس نصر فاستفزّلها،وتحفز لاستخلاص المدينة من أيدي الأزد،ووجه اليها خيرة جيشه وقادته فاصطدموا في حربٍ بطيئة مع الأزد وربيعة بقيادة الكرماني([35]) .
ولابد هنا الاشارة إلى أنّ الشاعر قد انطلقت تحذيراته من خلال العصبية القومية كما في البيت الأخير وما قبله ليثير بها في نفوسهم روح التضحية والتصدى أكثر،ويدفعهم للأحساس بخطر الوضع السياسي،والاستعداد للتصدى له وايجاد الحل المناسب الذي يخدم مصالحهم .
وكتب نصر بن سيار(ت131هـ) إلى زعماء ربيعة ومضر يحذرهم ويوصيهم بأمر أبي مسلم الخراساني ويدعوهم إلى التحالف ونبذ الأحقاد فيما بينهم، قائلاً :
أَبْـلغْ رَبـيعةَ في مروٍ وَاخوتَـهـا أن يَـغْضَبوا قَبلَ أَنْ لا ينفعَ الغضَـبُ
وَلْينصبُوا الحرْبَ أَنَّ القومَ قد نَصَبوا حَرْباً يُـحرَّقُ في حافاتِــها الحطَـبُ
ما بالُـكُمْ تُـلْقُحونَ الحَرْبَ بَينكُـمُ كأنَّ أهْلَ الحِجا،عَنْ مِغِلكُمْ غَيَـــبُ([36]).
يعدّ نصر بن سيار من رجال المهمات الصعبة في خراسان للحفاظ على حكم بن أمية ، والتّصدي لمناويئيهم ومعارضيهم،وكان عليه الاعتماد الكبير لدى خلفاء بن أمية،ويسعى بكل الوسائل الممكنة للحفاظ على موقعه السياسي والقيادي،ويتحرك هنا وهناك لجمع الشمل بين القبائل العربية،ويوصيهم بالتكاتف والتآزر فيما بينهم،وغضّ الطرف عن الأمور بينها ، كما يبذل قصارى جهده لكسب التأييد منهم لمساندته على حملته ضدّ المعارضة على السلطه الاموية التّي تولى ادارتها وقيادتها في خراسان .
وبعد تردي الأوضاع السياسية في خراسان فيما يخص الدولة الأموية((خرج الحارث بن سريج التميمي بالنُّخَذِ في إمارة عاصم بن عبدالله الهلالي،وسيطر على أكثرمدن خراسان الشرقية والجنوبية،وكاد يستولي على مرو الشاهجان،لولا ثبات عاصم في مجابهته...وكان الحارث يرى رأي المرجئة،فحمل عليه نصر بن سيار حملة شديدة،ليصد الناس على الإنضمام إليه،ويصرف أشياعه عنه،وهي حملة أذاعها في قصيدته النونية الطويلة))([37])،واستهلها بهذه الوصية ، قائلاً :
دَعْ عَنْكَ دُنْياً وَأهْلاً أنْتَ تارٍكُهُمْ ما خَيْرُ دُنْيا وأهلٍ لا يَدومونـا
إلاّ بَقِيَّةَ أيّامٍ إلى أجَــــــلٍ فاطْلُبْ مِنَ الله أهْلاً لا يَمُوتونا
أكْثِرْ تُقَى الله في الأسْرارِ مُجْتَهِداً إنَّ التُقى خَيْرُهُ ما كانَ مَكْنونـا
واعْلَمْ بِأنَّكَ بالأعْمالِ مُرْتهِـــنٌ فَكُنْ لِذاكَ كَثِير الهَمِّ مَحْزونــا
فامْنَحْ جِهادَكَ مَنْ لَمْ يَرْجُ آخِـرةً وَكُنْ عَدُوّاً بِقَوْمٍ لا يُصًلّونـــا
فاقْتُلْهُمْ غَضَباً لِله مُنْتَصِــــراً مِنْهُمْ بِهِ وَدَعِ المُرْتابَ مَفْتونـا([38]).
استخدم نصر بن سيار في وصيته للحارث وتحذيراته له المسائل العقائدية كمذهب المرجئة الذي اعتمده الحارث مذهباً لنفسه،وكان نصر يسفّه الحارث ويكفّره لأنّه اتبع مذهب المرجئة،مما دفعه نفسه إلى أن يوصيه بترك الاعتقاد به،ويحثه على أن ينقض مباديء المرجئة وما تقوم عليه من القول بأن العمل لايدخل في الايمان،وما في قولهم من شركٍ،وإلحادٍ،وتعطيل للفروض ويبرهن له على فساد معتقده بأن الدنيا لاتستقرّعلى حال،وأنّ زينتها لاتدوم مهما تكثُرْ،وتُطل وتُتّصلْ،ويدعوه في النهاية الى ندب نفسه لمكافحة من لايقيمون الصلاة ([39]) .
وكان اكثر خلفاء بني أمية يملكون من الذكاء والفطنة والدّهاء في تولى مهمتهم السياسية وهم لذلك،لايتسرعون لتسلم مقاليد الحكم إلاّ بعد التدقيق والتّمحيص والتريث وعند ما أتت اليمانية يزيد بن الوليد على البيعة شاور عمرو بن يزيد الحكمي،فقال:لا يبايعك الناس على هذا،وشاور أخاك العباس بن الوليد(131هـ)فانّه سيد بن مروان،فإن بايعك لم يخالفك أحد،وإن أبى كان الناس له أطوع،وقد تمت البيعة له،ثم قال العباس يا بني مروان إنّي أظنّ الله قد أذن في هلاككم([40]) وتمثل بهذه الأبيات وضمن فيها وصية لأخيه يزيد،قائلاً :
إنَّ البَريَّةَ قَدْ مَـلَّتْ سِياسَتـكُمْ فَاسْتمْسَكُوا بعَمودِ الدَّينِ وَارتَدَعُواِ
لا تُلْحِمُنَّّذِئابَ الناسِ أَنفُسَكُمْ إنَّ الذّئابَ إذا ما أُلْـحِمَتْ رَتَـعُوا
لاتَبقَرُنَّ بأَيْدِيِكُـمْ بُـطوْنَـكُـمُ فَثَـمَّ لاحَسْرَةٌ تَغْنى وَلا جَـــزَعُ([41]).
ويبدو أنّ العباس ما كان راضياً عن تصرفات أسرته بني أمية وتعاملها،ويرى أنهم تجاوزوا ما يستحقونه من المناصب القيادية،إذ كانت سياساتهم تتبنى الوراثة في الحكم بعكس ما كان سارياً في عهد الخلفاء الراشدين،مما دفع العباس أن يوصى أخاه يزيد بالتّمسك بالقيم الاسلامية النبيلة،ثم أقامة السياسة الحكيمة في تعامله مع الناس قريبهم وبعيدهم صديقهم وعدوهم،وأن يعالج الأمورو يجد لها حلاً مناسباً قبل أن تفلت الأمور من يديه ويندم يوم لاينفعه النّدم .
ولما عزم المنصور(ت158هـ)على قتل أبي مسلم الخراساني هاب ذلك عمّه عيسى بن علي(ت164هـ)فكتب إليه([42])موصياً إياه بالتأني والتدبّر قائلاً :
إذا كُنْتَ ذا رأي فَكُنْ ذا تَدَبُّرٍ فَإنَّ فَسادَ الرأي أَن تتَـعَجَّلا
وقد ردَّ المنصور على رسالته موصياً إياه أن يكون جامعاً بين الرأي الحازم والعزيمة والإرادة فلا يتهاون مع الأعداء ولا يهمل عقابهم لئلا تشتد قوتهم وقدرتهم ، فيقول :
إذا كُنْتَ ذا رأي فَكُنْ ذا عَزيمةٍ فَإنَّ فَسادَ الرأي أَن تتَـرَدَّدا
وَلا تُمْهِلِ الأعْداءَ يَوْمَاً لِقُـدْرَةٍ وَبادِرْهُمْ أَنْ يَمْلِكوا مِثْلَها غَدا([43]) .
فيتضح هنا أن سياسة عيسى بن علي في قتل أبي مسلم الخراساني تخالف سياسة المنصور،فيرى أن قتله ليس سهلاً فمن الممكن أن تزداد النار إشتعالاً وإحراقاً ،وأن يؤدي إلى الإضطرابات الداخلية أكثر ويترك أثره في الصدورمن الحقد والإنتقام مما يؤدي إلى القيام بالثورات المناهضة ضد الحكم العباسي،لذا أوصاه بعدم التسرع في ذلك،بل لا بد من التريث في إصدار الحكم النهائي بشأنه .
فأجاب المنصور عمه عيسى وكان رأيه يخالف رأيه فيما يخص التنكيل بالأعداء بأن تركهم على حالهم سيؤدي إلى الندامة والحسرة لذا أوصاه بأن ينتهز الفرصة المؤاتية له ولا يهملها ولا يتردد عنها وينزل فيهم العقوبة الصارمة حفاظاً على نفسه وموقعه السياسي،وكذلك ليجعل منهم عبرة لمن تسوّل نفسه أن يفعل سوءاً أو يرتكب جريمة أو يتجرأ أن يخرج عن طاعته كما حدث ذلك لأبي مسلم الخراساني .
فيتضح من ذلك أن أكثر رجال السياسة كانوا ذوي تجربة عميقة من الحياة ولاسيما الذين تولوا مناصب عالية من الدولة،وكانوا يسعون دوماً إلى أن ينقلوا تجاربهم إلى الآخرين بغية إيجاد مجتمع صالح يتمتع بحياة سعيدة بعيدة عن الفوضى والإنشقاق ويكون على بصيرة من أمره،كما تؤكد ذلك وصية يحيى بن خالد(ت190هـ)حينما تعرض له رجل وهو على الجسر بكتاب وسأله أن يختمه؛فقال:يا غلام إختم كتابه مادام الطين رطباً([44])،ثم أوصى الرجل قائلاً :
إِذا هَبَّتْ رِياحُكَ فاغتَنِمـْها وَجِدْ فَلِكُلِّ خافِقَةٍ سُكـــونُ
وَلا تَغْفَلْ عَنِ الإحْسانِ فيها فَما تَدرِي السّكونُ متى يَكونُ ([45]) .
وبعدما حقق يحيى مطلب الرجل لم يتركه وإنما أوصاه قائلاً((إذا نِلْتَ من سُلطانك حظاً، وأوجَبْتَ عليه بخدمتك حقاً،فلا تَسْتَوْفِهِ،وَدَعْ لِنَفْسِكَ بقية يدخرها لك ويراها حقاً من حقوقك، ويكون كفيل أدائها إليك.فإن استَوفيتها برِيء وصرت إلى غاية ليس بعدها النقصان)) ([46]) .
وقد عهد الرشيد بالخلافة إلى الأمين ومن بعدالأمين المأمون،ولكن عدداً من بني هاشم .
وعلى رأسهم عبدالملك بن صالح(ت نحو193هـ-196–199هـ)([47])أرادوا أن يولي الرشيد القاسم بعد أخويه الأمين والمأمون([48]) فكتب عبدالملك إلى الرشيد يوصيه ويحثه على ذلك، قائلاً :
يا أيّها المَلِكُ الــذي لَو كانَ نَجْمَاً كانَ سَعْــدا
لِلقاسِمِ اعْقِدْ بَيْعَــةً واقْدَحْ لَهُ فِي المُلْكِ زَنْـدا
اللهُ فَرْدٌ واحِــــدٌ فاجْعَلْ وُلاةَ العَهْدِ فَــرْداً([49]) .
ومما لاشك فيه أن التوصية في ولاية العهد لأكثر من واحد قد يؤدي إلى التنافس والتناحر بين المتعاهدين لذلك المنصب،وقد يتجاوز إلى تنكيل أحدهما بالآخر،فلذا أوصى الرشيد أن لا يكرر أخطاء من سبقه،وعليه أن يوصي لفرد واحد دون أن يشاركه غيره،وحثه على ولاية العهد للقاسم،وأكدله رأيه الصائب بقوله إن الله فرد واحد فعليه أن يجعل ولاية العهد فرداً .
وقد دار حوار بين المأمون وعمه إبراهيم بن المهدي لما ألقي القبض عليه وأوتي به إلى المأمون لما ادعى الخلافة قبل ورود المأمون بغداد من خراسان.أدخل إبراهيم على المأمون فقال ياأمير المؤمنين((وَلِيُّ الثَّأرِ مُحَكَّمٌ في القصاص،ومن تناوله الإغترار بما مدله من أسباب الرخاء أمِنَ عادية الدهر وقد جعلك الله فوق ذي ذنب دونك،إن تأخذ فبحقك ،وإن تعف فبفضلك ))([50]) .
فبعد هذا الحوار أنشد إبراهيم (ت224هـ)أبياتاً ، ضمنها هذه الوصية ، قائلاً :
ذَنْبِي إلَيْكَ عَظيــمٌ وأنْتَ أعْظَمُ مِنْــهُ
فَخُذْ بِحَقِّـــكَ أوّلا فاصْفَحْ بِفَضْلِكَ عَنْهُ
إنْ لَمْ أكُنْ فِي فِعالِي مِنَ الكِرامِ فَكُنْــه([51]).
فتقبل المأمون ما أوصاه به عمه،ثم قال:((القُدرةُ تُذهِبُ الحَفيظة،والندم توبة،وعفو الله بينهما، وهو أكبر ما يُحاوَلُ؛لقد حَبَّبتَ إليَّ العَفوَ حتى خِفْتُ ألا أوجر عليه.لا تثريب عليك يَغفِرُ الله لك)) ([52]) .
أوصى أبومعاذ (232هـ)المتوكل حين استُخْلِفَ ، قائلاً :
إذا كُنْتُمْ للنّاسِ أهْلَ سياســــةٍ فَسَوِّسوا كرامَ النّاس بالرِّفْقِ والبَـذْلِ
وَسَوِّسوا لِئامَ النّاسِ بالذُلِّ يَصْلُحوا على الذُلِّ،إنَّ الذُّلَّ يَصْلُحُ للنَّــــذلِ!([53]) .
فوصية الشاعر للمتوكل تتبنى سياسة حكيمة في كيفية التعامل مع الناس فأوصاه بأن يتعامل مع كرام الناس تعاملاً جميلاً بالرفق وبذل ما يستحقونه من العطايا،كما اوصاه بالمقابل بتبني سياسة الإذلال لمن يستحق ذلك من لئام الناس لئلا يجازي المسيء بالإحسان فيخالف بذلك سنة الحياة .
فنستخلص من خلال الوقوف على الوصايا السياسية أن لها أهمية كبيرة في كيفية التعامل مع المجتمع وإيجاد الطرق المناسبة لإدارة شؤون الدّولة ولا سيما ما يخص أصحاب المناصب العالية للحصول على ثقة الناس ونجاح مهمتهم،والإبتعاد عن الأمور التي تؤدي بهم إلى الإنهيار السياسي،كما أنها تستوجب على كل من يتولى هذه المهمة أن يتحلى بالصبر والحلم،وأن لا يتسرع في إصدار القرار النهائي فيما له علاقة بتنفيذ سياسته إيجاباً أو سلباً ولا يبتُ به إلا بعد التمحيص والتدقيق والتريث .
([1]) لسان العرَب : 6/108 .
([2]) المصدر نفسه: 6/108 .
([3]) إتجاهات الشعر في العصر الأموي : 80 .
([4]) ينظر:ديوان ذي الأصبع العدواني:71،72،73،74،المعمرون والوصايا:120 وما بعدها،تأريخ الأدب
العربي قبل الإسلام :6،7،10 ، إتجاهات الشعر في العصر الأموي :80 ،81.
([5]) ينظر:ديوان مسكين الدارمي:33،تأريخ خليفة بن خياط:1/251،الإمامة والسياسة:1/143،الكامل في
التأريخ:3/503.
([6]) ينظر:مروج الذهب:3/377،378،وفيات الأعيان :3/198،جمهرة رسائل العرب في عصور العربية
الزاهرة/العصرالعباسي الأول:3/156،157،الوثائق السياسية والإدارية العائدة للعصر العباسي الأول:
2/193 .
([7]) تأريخ الشعر السياسي: 106.
([8]) ينظر : المصدر نفسه 89 ، 93 .
([9]) المعمرون والوصايا : 134 .
([10]) ديوان شعر الخوارج : 59 .
([11]) ينظر : تأريخ الأدب العربي /العصر الإسلامي : 180 ، 181 .(د.شوقي ضيف).
([12]) ينظر : ديوان شعر الخوارج :81 ، وشرح نهج البلاغة :5/102 ، 103.
([13]) ديوان شعر الخوارج : 81 .
([14]) يُنظر : شعراء الأمويون : 3/32 ، 33 .
([15]) المصدر نفسه : 3/41 ، 42 .
([16]) المصدر نفسه : 3/36 .
([17]) شعراء أمويون: 3/36 .
([18]) ينظر:المصدر نفسه:3/33.وله وصية أخرى لمروان بن الحكم في المعنى نفسه/المصدر نفسه:3/57 .
([19]) ينظر : المصدر نفسه : 3/33 ، 34 ، 59 .
([20]) شعر أبي زبيد الطائي : 125 .
([21]) ينظر : المصدر نفسه : 7 ، 108 .
([22]) ينظر : الشعر في خراسان من الفتح إلى نهاية العصر الأموي : 265 .
([23]) نقائض جرير والفرزدق : 1/359 ، 360 .
([24]) المعمرون والوصايا:161،كتاب الفتوح:7/202،203،مروج الذهب:3/165،شرح نهج البلاغة:17/7، لباب الآداب:31.مع ورود إختلاف طفيف في الألفاظ بين المصادر وفي تقديم وتأخير.
([25]) ينظر : البيان والتبيين: 3/225 ، تأريخ الخلفاء :220 .
([26]) كتاب الفتوح :7/203 .
([27]) ينظر : أنساب الأشراف :4/102 ، تأريخ اليعقوبي :3/29.
([28]) وصايا الخلفاء السياسية في العصر الأموي 80 . (رسالة).
([29]) شرح ديوان الأخطل : 173 .العُرِّ : الجَرْبُ .
([30]) ينظر :تأريخ الطبري :7/99.
([31]) شعر الكميت بن زيد الاسدي :1/159،160.
([32]) الأزد:هم من مضر وقد جعلهم أردثير بن بابك ملاحين بشحر عمان قبل الاسلام بستمائة ستة/معجم
البلدان 5/122، لسان العرب 17/294.
([33]) ينظر :الشعر في خراسان من الفتح إلى نهاية العصر الأموي 117 ،122.
([34]) تأريخ الطبري: 7/343.
([35]) ينظر :الشعر في خراسان من الفتح إلى نهاية العصر الأموي:123.
([36]) ديوان نصر بن سيار الكناني:28. الحجا :العقل والفطنة.الامغال :وجع في بطن الشاة،كلما حملت القته.
([37]) الشعر في خراسان من الفتح إلى نهاية العصر الأموي : 105 .
([38]) ديوان نصر بن سيار الكناني :47 ، 48 .
([39]) ينظر : الشعر في خراسان من الفتح إلى نهاية العصر الأموي :106 ، 107 .
([40]) ينظر :تأريخ الطبري : 7/237 ،240،239 .
([41]) المصدر نفسه : 7/239 . لا تُلْحِمُنَّ : لاتطبعوهم اللحم .
([42]) الوثائق السياسية والإدارية العائدة للعصر العباسي الأول : 2/124 .
([43]) زهر الآداب وثمر الألباب:1/257،خلاصة الذهب المسبوك: 65، تأريخ الخلفاء للسيوطي:312.
([44]) ينظر : نهاية الأرب في فنون الأدب : 6/138 .
([45]) المصدر نفسه : 6/138 .
([46]) نهاية الإرب في فنون الأدب : 6/138 .
([47]) عبدالملك بن صالح بن علي بن عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب أمير من بني العباس،ولاّه الهــادي
أمرة الموصل سنة 169هـ ،ولي الشام والجزيرة للأمين،وكان أفصح الناس أخطبهم،له مهابة وجلالة,
/الكامل في التأريخ: 6/257،وفيـــــات الأعيان:6/30،فوات الوفيات:2/398،تأريخ إبن خلدون:
3/209 .
([48]) الوثائق السياسية والإدارية العائدة للعصر العباسي الأول : 2/183 .
([49]) تأريخ الطبري : 8/276 ، فوات الوفيات : 2/299 .
([50]) الامالي لأبي علي القالي:1/199،الوثائق السياسية والإدارية العائدة للعصر العباسي الأول:2/314 .
([51]) الامالي لأبي علي القالي : 1/199 ، زهر الآداب وثمر الألباب : 2/608 .
([52]) الامالي لأبي علي القالي:1/199،الوثائق السياسية والإدارية العائدة للعصر العباسي الأول:2/314 .
([53]) محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء : 1/166 .