إنقاذ البشرية لا يخرج عن نطاق مسؤولية الناس والسنن الإلهية
إذن فمن الخطأ أن نتصور بأنّ المراد من كون الإمام المهدي (عج) منقذاً للبشرية هو أنه يظهر ويسوق الإنسان خارجاً عن الوظائف الملقاة على عاتقه، والمجتمع البشري خارجاً عن تركيبته الطبيعية، والتاريخ خارجاً عن السنن الإلهية، إلى الجنة وإلى الحالة المطلوبة. هذا النوع من التفكير، تغافل للكرامة الإنسانية واستخفاف بالدين والسنن الإلهية التي لا تتبدّل. وبالتالي سيكون مآله إلى انتظار عديم المسؤولية وعديم التأثير والجدوى.
معنی تكامل العقول بواسطة الإمام
نعم، ورد في الرواية «إِذَا قَامَ قَائِمُنَا (ع) وَضَعَ یَدَهُ عَلَی رُؤُوسِ الْعِبَادِ فَجَمَعَ بِها عُقُولَهُم»[1]، سوى أن فهم هذا الحديث يحتاج إلى رؤية عميقة؛ لا أن نُفسّر الرواية سطحياً ونتصوّر بأن فعل الإمام سيُحدِث تغييراً في طبيعة خلقة البشر خلافاً لجميع السنن الإلهية.
نظرة الإمام المعنوية، لا تختص بفترة الظهور
ولابد هنا من الالتفات إلى نقطة مهمة وهي أن الظروف لو توافرت في هذا الزمن واسـتأهل جمع من المؤمنين لتوجُّه الإمام لشملتهم عنايته[2] ولتكاملت عقولهم بألطافه الخاصة أكثر من سائر الناس.
وعلى أيّ حال فإنّ التصوّر بأن الظهور سيكون خارجاً عن السنن الإلهية، مسألة تصدى الأئمة (ع) بشدة لردّها ومواجهتها:
«عَنْ بَشِيرٍ النَّبَّالِ قَالَ: لَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ انْتَهَيْتُ إِلَى مَنْزِلِ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ (ع)، فَإِذَا أَنَا بِبَغْلَتِهِ مُسْرَجَةً بِالْبَابِ فَجَلَسْتُ حِيَالَ الدَّارِ. فَخَرَجَ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ. فَنَزَلَ عَنِ الْبَغْلَةِ وَأَقْبَلَ نَحْوِي. فَقَالَ: مِمَّنِ الرَّجُلُ؟ فَقُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. قَالَ: مِنْ أَيِّهَا؟ قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ؟ فَقَالَ: مَنْ صَحِبَكَ فِي هَذَا الطَّرِيقِ؟ قُلْتُ: قَوْمٌ مِنَ الْمُحْدِثَةِ. فَقَالَ: وَمَا الْمُحْدِثَةُ؟ قُلْتُ: الْمُرْجِئَةُ[3]. فَقَالَ: وَيْحَ هَذِهِ الْمُرْجِئَةِ، إِلَى مَنْ يَلْجَئُونَ غَداً إِذَا قَامَ قَائِمُنَا؟ قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَوْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ كُنَّا وَأَنْتُمْ فِي الْعَدْلِ سَوَاءٌ. فَقَالَ: مَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَنْ أَسَرَّ نِفَاقاً فَلَا يُبَعِّدُ اللَّهُ غَيْرَهُ وَمَنْ أَظْهَرَ شَيْئاً أَهْرَقَ اللَّهُ دَمَهُ. ثُمَّ قَالَ: يَذْبَحُهُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا يَذْبَحُ الْقَصَّابُ شَاتَهُ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ. قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ الْمَهْدِيَّ لَوْ قَامَ لَاسْتَقَامَتْ لَهُ الْأُمُورُ عَفْواً[4] وَلَا يُهَرِيقُ مِحْجَمَةَ دَمٍ. فَقَالَ: كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوِ اسْتَقَامَتْ لِأَحَدٍ عَفْواً لَاسْتَقَامَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ (ص) حِينَ أُدْمِيَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَشُجَّ فِي وَجْهِهِ. كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى نَمْسَحَ نَحْنُ وَأَنْتُمُ الْعَرَقَ وَالْعَلَقَ[5] ثُمَّ مَسَحَ جَبْهَتَهُ»[6]
وقد تصدى الإمام الخميني (ره) في وصيته الإلهية السياسية لردّ هذا النظرة العامية بصراحة، منوّهاً بدور عمل المؤمنين وجهودهم لئلا يتخلّ أحد عن وظائف الانتظار بذريعة هذه الرؤية العامية:
«وأنتم أيها السادة إن كنتم تتوقعون تحوّل كل الأمور وفقاً للإسلام وأحكام الله تعالى بين عشية وضحاها فذلك تفكير خاطئ، إذ لم تحدث مثل تلك المعجزة على مرّ تاريخ البشرية، ولن تحدث في المستقبل. وفي ذلك اليوم الذي يظهر فيه المصلح العام إن شاء الله تعالى، لا تظنون أن معجزة ستحدث، وأن العالم سيصلح في يوم واحد. بل بالجهد والتضحيات سيقمع الظالمون ويدفعون إلى الانزواء.»[7]
يتبع إن شاء الله ...
[1]الإمام الباقر(ع)، کمال الدین وتمام النعمة، ج2، ص675.
[2]راجع توقیع الإمام (عج) إلى الشیخ المفید المذكور في هامش الصفحة 49.
[3]المرجئة من الفرق المنحرفة في الإسلام. يقول آية الله الشيخ مكارم الشيرازي في هذا الشأن: «المرجئة» من مادّة «إرجاء» بمعنى تأخير الشيء، وهذا اصطلاح يستعمل للجبريين، لأنّهم لم يلاحظوا الأوامر الإلهيّة وارتكبوا المعاصي لظنّهم أنّهم مجبورون، أو لاعتقادهم أنّ مصير مرتكبي الذنوب الكبيرة غير معلوم لتصوّرهم أنّ البتّ فيها مؤجّل إلى يوم القيامة. (التفسير الأمثل، ج17، ص353).
[4]أَدْرَكَ الأَمْرَ عَفْواً صَفْواً أَي في سُهُولة وسَراح. (لسان العرب، ج15، ص75).
[5]العلق: الدم الجامد (مفردات الراغب، ج1، ص579).
[6]الغیبة للنعماني، ص283 و284، وكذلك الکافي، ج8، ص80، ح37، عن راوٍ آخر، مع اختلاف يسير في العبارة.
[7]صحیفة الإمام، ج21، ص447.