مقدمة تفضيل النطق على الصمت
يبدو ان الجاحظ تلقى كتابا أو قرأ رسالة في مدح الصمت وايثاره على النطق. وقد وصف صاحب الرسالة مزايا الصمت،وذم الكلام وبين مساوئه وما يجره على صاحبه من البلوى والفحش والخطأ والتورط والندم.وقد استشهد باقوال كسرى انو شروان ملك الفرس، والاشعار، ورجال الأدب، والذين ذموا الكلام ومدحوا السكوت.
ولم تعجب الرسالة ابا عثمان بل وجدها تنطوي على الخطأ والاعجاب بالنفس والتسرع في الاحكام،مما حمله على الرد عليها في كتاب تفضيل النطق على المصت.
لقد وجد الكلام افضل من الصمت لاسباب عديدة. منها ان الكلام ضروري للابانة عن النفسوالتعبير عن الحاجات الكثيرة التي تكثر لدى الانسان. ومنها ان الكلام هو المزية التي ينماز بها الانسان عن الحيوان والجماد.
واذا كان الصمت يحمد في حالة واحدة وهي توقي الأثم وتوخي النجاة، فانه يلزم صاحبه صفة الجهل والغباء.ويعمد الجاحظ الى القرآن ليستدل من آياته التي ورد فيها النطق على فضيلة الكلام. فالكلام الذي تفوه به ابراهيملدى تحطيمه الاوثان هو الذي نجاه. والكلام الذي تفوه به يوسفلدى عزيز مصر هو الذي لفت الى ذكائه وفطنته فقربه منه واكرمه.
ثم ان الكلام هو الذي برهن على شرائع الانبياء وشرحها وقربها من افهام الناس،وهو الصيغة التي يعبر بها المؤمن بشهادة الايمان. وعلى الكلام البليغ قامت معجزة القرآن. وكان النبي محمد افصح العرب وابلغهم بيانا.
رغم اتصاف العرب بالبيان ولا سيما قريش قبيلة الرسول.
ثم ان الكلام آلة الشكر على النعمة. وقد اوجب الله الشكر وقال لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ
. والشكر لا يكون الا بالكلام.
واعظم دليل على فضيلة الكلام- وهنا يستعمل الجاحظ اللفظ بمعنى علم الكلام-هو الحاجة اليه لاثبات وجود الله وتصديق رسالة النبي، ومعرفة حقائق الاديان، والتمييز بين الحجة والشبهة، ودعم مبادىء المعتزلة في التعديل والتوحيد والاختيار.
وقد الف الجاحظ رسالة في فضل صناعة الكلام نشرناها في رسائل الجاحظ الكلامية.
وقد يتبادر الى الذهن ان الجاحظ يناقض نفسه ويقول الشيء وضده.
فهو في هذه الرسالة يذم الصمت ويمدح الكلام، بينما يدعو في «رسالة كتمان السر وحفظ اللسان»الى تقييد اللسان ويحث على السكوت. والواقع ان الجاحظ لا يقع في التناقض وانما يسوق في رسالة كتمان السر وحفظ اللسان اقوالا لبعض الحكماء تدعو الى اخضاع الكلام للعقل لكي لا يأتي لغوا او يفشي سرا فيلحق الضرر بصاحبه.
وقد تحدث على الموضوع ذاته في قسم من رسالة التربيع والتدوير التي تتضمنها رسائل الجاحظ الأدبية هذه ولا نعتقد انه يناقض نفسه.