بين فقه اللغة وعلم اللغّة
فقه اللّغة :
شرّف الله اللغة العربية وأعلى مكانتها بين اللغات عندما اختارها لحمل آيات القرآن الكريم ، وشرّفنا الله إن جعلنا من الأمّة العربيّة نفاخر بها شعوب العالم ، وليس غريباً أن يهتمّ العربيُّ بلغته ويحافظ عليها ويحميها من طوارئ الزمان ، لذا انبرى مجموعة من العلماء القدماء لهذه المهمّة الصعبة ، فقاموا بإعداد الدراسات والأبحاث ،ووسعوا البحث والتمحيص في كلِّ فروع اللّغة ؛من نحو وصرف وبلاغة ونقد وأدب وعروض وفقه اللّغة والمعجمات ، فوضعوا آراءهم وأبحاثهم ونتائج دراساتهم في مصنّفات عظيمة حفظت هذا التراث عبر التاريخ من الضياع والترهّل ، وظلّت نبراساً يهتدي به الدارسون ، ومعيناً لا ينضب ينهل منه أهل العلم والمعرفة والأحفاد في توسع الأبحاث والدراسات المنهجيّة في كلّ العصور .
ولعلّ أهمّ فرع من فروع اللغة هو فقه اللغّة لما له من خصوصيّة في دراسة اللّغة والبحث في نشأتها وتطوّرها وهذا ما سنتحدّث عنه في صفحاتنا القادمة .
فقه اللّغة : هو العلم بالشئ والفهم له ،والفقه في الأصل الفهم ، فقد دعا الرّسول صلّى الله عليه سلّم لابن عبّاس فقال : اللهمّ علّمه الدين وفقّهه تأويله(1) ، أما اللّغة فهي مشتقّة من لغا إذا تكلّم ، وهي أصوات يعبّر بها كلّ قوم عن أغراضهم (2) . وهذا هو التعريف المعتمد عند الكثيرين من علماء اللّغة ، أما المحدثون فقالوا : هي أصوات منطوقة تعبّر عن الأغراض ، وتعيش بين قوم يتفاهمون بها ، وأن لكلّ قوم لغة . ولا تقتصر اللّغة على الأصوات ، فتدخل فيها الإشارات ؛كإشارات الصّم والبكم وتعبيرات الوجه والصراخ ودق الطبول وغيرها .
وفقه اللّغة في الاصطلاح هو: العلم الّذي يعنى بدراسة القضايا اللّغوية من حيث أصواتها ومفرداتها وتراكيبها ، وفي خصائصها الصوتيّة والصرفيّة والنحويّة والدّلاليّة وما يطرأ عليها من تغييرات وما ينشأ من لهجات ،فيبحث في المعجمات والمفردات من حيث المعنى والأصالة والاشتقاق والنحت والنحت والترادف وغيرها . كما يبحث في وظيفة اللّغة وأصلها ومصادرها . بمعنى أنه العلم الّذي يهتمّ بفهم اللغة ودراستها .
لم يظهر مصطلح فقه اللّغة عند علماء العربيّة القدماء كمصطلح ، وإن كانوا قد تحدّثوا عن موضوعاته في مصنّفاتهم ، ولعلّ أول ظهور لهذا المصطلح كان في القرن الرابع للهجرة على يد ابن فارس المتوفى عام 395 هـ في عنوان كتابه الصاحبي في فقه اللّغة وسنن العرب في كلامها ، حيث نظر للموضوع على انّه دراسة للقوانين العامّة التي تنتظم لها اللغة العربية في مستوياتها الصرفيّة والنحويّة والدلاليّة والصوتيّة ، بعد ذلك ظهر كتاب فقه اللّغة وأسرار العربيّة للثعالبي المتوفى عام 429 هـ ، وفيه يرى أن فقه اللّغة علم خاص
بفقه وفهم المفردات والفروق الدّقيقة في دلالاتها .
واعتبر علماء اللغة ما قامت به مدرسة الإسكندرية القديمة في القرن الثالث قبل الميلاد من العناية بالنصوص الشعريّة وشرحها وتفسير مفرداتها بحيث تصبح مفهومة للدارسين كأشعار هوميروس (3) يندرج تحت مصطلح فقه اللّغة . كما يدخل في فقه اللغة الميتافيزيقيا التي تبحث في أصل اللغة ونشأتها حسب الاجتهادات الشخصيّة ، كذلك الدراسات التي أقيمت على اللغة السنسكريتيّة وبعض الدراسات التي كانت وقفاً على اللّغتين اليونانيّة والّلاتينيّة في العصور الوسطى .
كما يشتمل فقه اللغة على تاريخ اللغة من حيث موطنها الأول والربط بينها وبين اللغات الإنسانية الأخرى ، ويقوم فقه اللغة بدراسة الأعمال الأدبيّة من الناحية اللغويّة لكاتب أو شاعر من خلال أعماله الأدبيّة من أجل إصدار حكم نقدي سليم .
علم اللغة :
في القرن التاسع عشر خرج بعض العلماء بتصوّرات جديدة حول طبيعة اللغة نفسها وحول مناهج البحث فيها ، هذه التصوّرات كانت بداية لظهور مصطلح علم اللّغة ، وقد ربط مؤرخو هذا العلم ظهوره الحقيقي بالعالم اللغوي الفرنسي فرديناند دي سوسير الذي استفاد من علماء سبقوه في هذا المجال ، ويقول أحد تلاميذ مدرسته : إن اللّغات التي تناولوها في بحثهم قد درسوها لذاتها بوصفها غرضاً من الأغراض العلميّة ، ولم يدرسوها كوسيلة من وسائل المعرفة (4) . ولذلك قال أصحاب مصطلح علم اللغة : إن علم اللغة يركِّز على اللغة نفسها مع إشارة عابرة إلى القيم الثقافيّة والتاريخيّة. وبذلك وصفوا هذا العلم بأنّه دراسة علميّة للّغة ، وهذا يعني تطبيق المنهج العلمي والقائم على ملاحظة الظواهر ثم وضع الفروض النظريّة .
وجد المحدثون من علماء العربيّة أنفسهم أمام مصطلحين فرّق الغربيّون بينهما ؛ الأوّل يعنى بدراسة النصوص اللغويّة القديمة واللغات البائدة ، ويهتم بالتراث والنتاج الأدبي واللغوي فترجمه العرب باسم علم اللّغة ، أما الثاني فيعنى بدراسة اللغة في ذاتها وصفاً تاريخيِّاً ومقارنة ، ودراسة اللهجات والأصوات وهو ما يعرف بفقه اللغة .
قسم المحدثون علم اللغة إلى قسمين (5) :
1 ــ علم اللغة الوصفي : وهو العلم الذي يصف اللغة ويفحص ظواهرها ومظاهرها ؛كدراسة
الأصوات أو التراكيب الخاصّة بلغة معيّنة في فترة زمنيّة معيّنة .
2 ــ علم اللغة التاريخي : وهو تتبّع تطوّر اللغة وتغيّرها عبر الزمان .
رغم هذا التقسيم إلا أن الفصل بينهما في مجال التطبيق صعب للتداخل الكبير بينهما ، فعلم اللغة يستعين بمجموعة من العلوم العامّة ، ولذلك انفتح على علم النفس وعلم الاجتماع وعلم التاريخ وعلم الجغرافيا وعلم الفيزياء وعلم الأجناس البشريّة ، لأن عملية التطوّر اللغوي ترتبط بالنشاط العقلي ، واللغة ظاهرة فكريّة عضويّة يمتاز بها الإنسان عن غيره من المخلوقات ، لذلك لا بدّ من وجود علاقة ترابطيّة بين اللغة وهذه العلوم .
ويؤكد عبد الراجحي ( 6 ) أن علماء اللغة يدرسون اللغة لذاتها ومن أجل ذاتها ، كما يدرسون اللغة دراسة وصفيّة ، وعلم اللغة يقسم اللغة إلى مستويات صرفيّة وصوتيّة ونحويّة ودلاليّة ، ويتّخذ المنهج العلمي للوصول إلى القوانين العامّة التي تنتظم اللغة .
إن ما ذكره المحدثون وقالوا أنه يندرج تحت علم اللغة ، ورد في كتاب الصّاحبي لابن فارس تحت مسمّى فقه اللغة ،كما ورد في كتاب المزهر للسيوطي تحت مسمّى علم اللغة ، فالمعنى التراثي لا يفرِّق بين المصطلحين، إلا أن مصطلح فقه اللغة هو الأسبق عند القدماء بينما ظهر مصطلح علم اللغة للتّوضيح والتّركيز على التحليل لتراكيب اللغة ، وكنتيجة حتميّة لهذا التداخل اختلف المحدثون في وضع حدِّ واضح جامع مانع لكل واحد منهما ، مما جعل دارس العربيّة في حيرة من أمره وهو يقف أمام فريقين من المحدثين ؛ الفريق الأوّل لا يفرِّق بين المصطلحين فيجعلهما علماً واحداً ، بينما يرى الفريق الثاني أن كل واحد منهما علماً مستقلاً . ويؤكّد الدكتور محمد مبارك أن علم اللغة وفقه اللغة كلاهما يفيد المقصود ، ويرى الدكتور صبحي الصالح أن الفصل بين المصطلحين عسير لأن مباحثهما متداخلة ، بينما يرى عبده الراجحي إنهما علمان مختلفان فيقول :" فقه اللغة يدرس اللغة باعتبارها وسيلة إلى غاية ، وهذه الغاية هي دراسة الثقافة بما تشتمل عليه من ديانات وعادات وتقاليد وآداب ، ... وكان علماء فقه اللغة يبذلون جهوداً مضاعفةً من أجل الوصول إلى إعادة تشكيل اللغات القديمة الأصيلة ، ومحاولاتهم الوصول إلى الأُصول الأُولى للغة الأم التي تتفرّع عنها اللغات الهنديّة والأوربيّة ، كما ركَّزوا عملهم على المقارنات اللغويّة بالإضافة لاهتمامهم بدراسة تاريخ الكلمة (7) .
لم يكتف الراجحي بالتفريق بين المصطلحين بل طالب علماء العربيّة الاتفاق على مصطلح علم اللغة لان مصطلح فقه اللغة لا يشير من قريب أومن بعيد إلى طريقة العرب القدماء ، فضلاً عمّا يحيط به من غموض وما يعتوره من خلاف .
خلاصة
يهتم فقه اللغة في المعجمات ومشكلات المفردات من حيث معانيها وأصالتها ، ويبحث في الترادف والنحت و الاشتقاق ، كما يهتم في وظائف اللغة وأصلها ، ويدرس الحضارات ويقارن بين اللغات .
وفقه العربيّة بالإضافة لما تقدّم يتناول اللغة العربيّة وفصيلة اللغات الساميّة والاكتشافات الأثريّة ويدرسها بعناية خاصّة لتحديد الموطن الأصلي للسامييّن ، كما يبحث في خصائص اللغات الساميّة وأهميّتها لدراسة اللغة العربيّة ، ويبحث في العلاقة بين اللغات الساميّة والتراث العربي ويدرس الأدب من خلال اللغة ، كما يهتمّ في بالمقارنات الصوتيّة والألفاظ الأساسيّة وبناء الكلمة وبناء الجملة . فعمل الفقهاء عمل تاريخي مقارن .
أما علماء اللغة ، يرتكز عملهم على دراسة اللغة في ذاتها من أجل ذاتها ، ويهتم في التحليل والتركيب اللغوي والتعريف بمستويات اللغة وأنظمتها الصوتيّة والصرفيّة والنحويّة والدلاليّة ، كما يبحث في الدراسات الأدبيّة واللّهجات وجهاز النّطق وصفات الأصوات ومخارجها ، ويبحث العلاقة بين اللغة والعلوم الإنسانية الأخرى ؛ كعلم الاجتماع وعلم النفس بأنواعه و علم التاريخ وعلم الجغرافيا . فعمل علماء اللغة يقوم على الوصفيّة التقريريّة . فعندما يقوم أحد الباحثين بدراسة لهجة تميم فإنه يحاول تتبّع ما ورد فيها من نبر وإدغام وإبدال وإمالة ، بذلك يكون قد اقتصر عمله على لهجة واحدة وفي مرحلة واحدة ،وعندما يتوصَّل إلى النتائج والمعلومات يستفيد منه عالم اللغة في الأبحاث الصوتيّة والتطوّر اللغوي أو الأبحاث الصرفيّة والربط بين الأشياء من حيث تطوّر الألفاظ وما تفيده من المعاني .
مما تقدّم نلاحظ العلاقة التقاطعيّة بين العلمين ، هذه العلاقة هي التي جعلت بعض العلماء يعتبر أن فقه اللغة هو علم اللغة ، وبعضهم قال أن علم اللغة جزءٌ من فقه اللغة وهذا هو رأينا