عن أمير المؤمنين عليه السلام
"أَفَهَذِهِ تُؤْثِرُونَ أَمْ إِلَيْهَا تَطْمَئِنُّونَ أَمْ عَلَيْهَا تَحْرِصُونَ فَبئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ لَمْ يَتَّهِمْهَا وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا عَلَى وَجَلٍ 1 مِنْهَا فَاعْلَمُوا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بِأَنَّكُمْ تَارِكُوهَا وَظَاعِنُونَ عَنْهَا وَاتَّعِظُوا فِيهَا بِالَّذِينَ قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؛ حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ فَلَا يُدْعَوْنَ رُكْبَاناً 2, وَأُنْزِلُوا الْأَجْدَاثَ 3 فَلَا يُدْعَوْنَ ضِيفَاناً, وَجُعِلَ لَهُمْ مِنَ الصَّفِيحِ 4 أَجْنَان 5 وَمِنَ التُّرَابِ أَكْفَانٌ وَمِنَ الرُّفَاتِ 6 جِيرَانٌ فَهُمْ جِيرَةٌ لَا يُجِيبُونَ دَاعِياً وَلَا يَمْنَعُونَ ضَيْماً وَلَا يُبَالُونَ مَنْدَبَةً. إِنْ جِيدُوا 7 لَمْ يَفْرَحُوا وَإِنْ قُحِطُوا 8 لَمْ يَقْنَطُوا جَمِيعٌ وَهُمْ آحَادٌ وَجِيرَةٌ وَهُمْ أَبْعَادٌ مُتَدَانُونَ لَا يَتَزَاوَرُونَ وَقَرِيبُونَ لَا يَتَقَارَبُونَ حُلَمَاءُ قَدْ ذَهَبَتْ أَضْغَانُهُمْ 9 وَجُهَلَاءُ قَدْ مَاتَتْ أَحْقَادُهُمْ لَا يُخْشَى فَجْعُهُمْ وَلَا يُرْجَى دَفْعُهُمْ اسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ الْأَرْضِ بَطْناً وَبِالسَّعَةِ ضِيقاً وَبِالْأَهْلِ غُرْبَةً وَبِالنُّورِ ظُلْمَةً فَجَاءُوهَا كَمَا فَارَقُوهَا حُفَاةً عُرَاةً قَدْ ظَعَنُوا عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ إِلَى الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ وَالدَّارِ الْبَاقِيَةِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ"1. 2
شرح المفردات
1- الخوف.
2- أي أنهم محمولون على أكتاف الرجال مع أنهم لا يطلق عليهم أنهم ركبان، لأنّهم أموات..
3- القبور.
4- الحجارة.
5- جمع جنين هو هنا القبر.
6- العظام البالية لسائر الناس.
7- جادت عليهم السماء بالمطر.
8- إذا أصابهم الجدب لم ييأسوا.
9- الأحقاد.
لا اختلاف ولا تمييز!
القبر هو أوّل منزل من منازل الآخرة، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ القبر أوّل منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه فما بعده ليس أقلّ منه"3.
تختلف معيشة الناس في هذه الدنيا، فأصحاب الأموال يعيشون في القصور، والفقراء يعيشون في الأكواخ. وأصحاب الأموال يملكون أفخر الأساس وأفخر الثياب، والفقراء لا يملكون كلّ ما يحتاجون إليه، بل يعيشون الحرمان، وهكذا تتفاوت أحوال الناس في بيوتهم في هذه الدنيا.
فإذا حلَّ الموت بهذا الإنسان، فإنّ مصيره واحد، ومنزله واحد، سواء أكان يعيش في قصر أم في كوخ، فهو إلى حفرة، متّحدة في الحجم، وفي الشكل وفي الأثاث.
فالكلُّ محمول إلى ذلك المكان على الأكتاف، ولكن دون اختيار منه لذلك، بل أمره لأهله وقرابته والناس من حوله.
والكلُّ يُوضَع في حفرة واحدة، ذات حجم واحد، حيطانها حجار من نوع واحد، أرضها تراب، ثيابه أكفان، وهذه الأكفان هي التراب، لأنّ القماش سيبلى.
جيران الأجساد الجدد، عظام بالية، لأشخاص دفنوا منذ زمن، قد يكون أخاً أو أباً أو عمّاً أو غيرهم.
كلّ ما يحدث في هذه الدنيا لا يؤثّر عليهم، أَنَزَلَ المطر أم أصيب الناس بالقحط.
ورد في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وصف القبر: "لم يأت على القبر يوم إلّا تكلم فيه فيقول: أنا بيت الغربة، وأنا بيت الوحدة، وأنا بيت التراب، وأنا بيت الدود، فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر: مرحباً وأهلاً... وإذا دفن العبد الفاجر أو الكافر فقال له القبر: لا مرحباً ولا أهلاً"4.
دار الغربة، دار الوحشة
نطلق على من يعيش بعيداً عن أهله ووطنه، أنّه غريب، ولكن هل تُقاس هذه الغربة بغربة الإنسان في قبره، نقرأ في دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام: "وتحنَّن عليَّ محمولاً قد تناول الأقرباء أطراف جنازتي، وجُد عليَّ منقولاً قد نزلت بك وحيداً في حفرتي، وارحم في ذلك البيت الجديد غربتي، حتّى لا أستأنس بغيرك"5.
ولمدى صعوبة وحشة القبر هذه وردت الروايات بأن لا ينقل الميت إلى قبره دفعةً واحدة، بل ينقل على دفعات، فإذا حُمل الميت إلى قبره فلا يفاجأ به القبر، لأنّ للقبر أهوالاً عظيمة. ويتعوّذ حامله بالله من هول المطلع. ويضعه قرب شفير القبر. ويصبر عليه هنيئةً ثمّ يقدّمه قليلاً، ويصبر عليه هنيئة، ليأخذ أهبّته، ثمّ يقدّمه إلى شفير القبر6.
طريق الخلاص: العمل الصالح
إنَّ كلّ عقبة من عقبات الآخرة، ترتبط بشخصيّة الإنسان وسلوكه في هذه الدنيا، وطريق الخلاص من هذه العقبات مرتبط بما يقوم به الإنسان في هذه الدنيا.
ومن الأسباب الموجبة للخلاص من وحشة القبر ومن ضغطة القبر العمل الصالح.
فالعمل هو الرفيق الذي يبقى مع الإنسان في قبره إلى يوم القيامة، لا يفارقه ولا يتخلّى عنه، فإن كان صالحاً كان صديقاً يشعر الإنسان بالسعادة لصحبته، وإن كان طالحاً فاسداً، كان صاحباً سيّئاً ينغّص على الإنسان سفره.
ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقيس بن عاصم وهو يعظه: "إنّه لا بدّ لك يا قيس من قرين يُدفن معك وهو حيّ، وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، ثمّ لا يحشر إلّا معك، ولا تبعث إلّا معه، ولا تسأل إلّا عنه، ولا تجعله إلّا صالحاً، فإنّه إن صلح آنست به، وإن فسد لا تستوحش إلّا منه، وهو فعلك"7.
فالإنسان في هذه الدنيا يعمل ويكدّ ويشقى ويبذل كلّ طاقته في ثلاث: المال، الأهل والعمل، ولكنّ الذي يرافقه إلى قبره هو الأخير فقط، وأمّا المال والأهل، فتتخلّى عنه.
فقد ورد في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّما مثل أحدكم ومثل ماله وأهله وولده وعمله؛ كمثل رجل له ثلاثة إخوة، فلمّا حضرته الوفاة دعا إخوته فقال: إنّه قد نزل بي من الأمر ما ترى فما لي عندك وما لي لديك؟ فقال: "لك عندي أن أمرضك ولا أزيلك وأن أقوم بشأنك، فإذا متّ غسّلتك وكفّنتك وحملتك مع الحاملين، أحملك طوراً وأميط عنك طوراً، فإذا رجعت أثنيت عليك بخير عند من يسألني عنك" هذا أخوه الذي هو أهله فما ترونه؟ قالوا: لا نسمع طائلاً يا رسول الله!
ثمّ يقول لأخيه الآخر: أترى ما قد نزل بي فما لي لديك وما لي عندك؟ فيقول "ليس لك عندي غناء إلّا وأنت في الأحياء، فإذا متّ ذهب بك في مذهب وذهب بي في مذهب" هذا أخوه الذي هو ماله كيف ترونه؟ قالوا: لا نسمع طائلاً يا رسول الله! ثمّ يقول لأخيه الآخر: أترى ما قد نزل بي وما ردّ عليّ أهلي ومالي فما لي عندك وما لي لديك؟ فيقول: "أنا صاحبك في لحدك وأنيسك في وحشتك، وأقعد يوم الوزن في ميزانك فأثقل ميزانك" هذا أخوه الذي هو عمله كيف ترونه؟ قالوا: خير أخ وخير صاحب"8.
سوء الخلق، مفسد للعمل
ورد أنّ سعد بن معاذ وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توفّي، فمشى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنازته دون حذاء أو رداء، ونزل في قبره، وسجّاه في لحده، واهتمّ به، فلمّا رأت أمّ سعد ذلك قالت: يا سعد، هنيئاً لك الجنّة. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا أمّ سعد مه، لا تجزمي على ربّك، فإنّ سعداًَ قد أصابته ضمّة. ولمّا سئل رسول الله عن ذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: نعم، إنّه كان في خلقه مع أهله سوء"9.
إنّ هذا الرجل على الرغم من إيمانه وصلاحه، والإكرام الذي ناله من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنّ ذلك كلّه لم يخفّف عنه وحشة القبر وضغطته، وذلك لأنّه كان مبتلى بسوء الخلق مع أهله.
وسوء الخلق موجب لفساد العمل، ففي الرواية عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّ سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخلّ العسل"10.
حسن الخلق، كفّارة الذنوب وفي المقابل، فإنّ ثمرة حسن الخلق تظهر في التكفير عن الذنوب، وبهذا يتخلّص الإنسان من رفيق سيّء كان سيثقل عليه صحبته ورفقته في قبره، وقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "الخلق الحسن يميث الخطيئة كما تميث الشمس الجليد"11.
وحسن الخلق هو الوجه الذي يُقدم الإنسان به على الله عزّ وجلّ وهو في غاية الفرح والسرور، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما يقدم المؤمن على الله عزّ وجلّ بعمل بعد الفرائض أحبّ إلى الله تعالى من أن يسع الناس بخلقه"12.
--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
1- نهج البلاغة، الخطبة رقم 111- في ذمّ الدنيا.
2- بحار الأنوار - العلّامة المجلسيّ - ج 6 ص 242.
3- - بحار الأنوار - العلّامة المجلسيّ - ج 6 ص 242.
4- الكافي - الشيخ الكليني - ج 3 ص 242.
5- مصباح المتهجد - الشيخ الطوسيّ - ص 593.
6- منازل الآخرة والمطالب الفاخرة - الشيخ عبّاس القميّّ - ص 128.
7- بحار الأنوار - العلّامة المجلسيّ - ج 7 ص 229.
8- كنز العمال - المتقي الهندي - ج 15 ص 752.
9- الأمالي - الشيخ الصدوق - ص 468.
10- الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 ص 321.
11- بحار الأنوار - العلّامة المجلسيّ - ج 14 ص 464.
12- بحار الأنوار - العلّامة المجلسيّ - ج 68 ص 375.