فارس آل عيسى
بقلم: فلاح العيساوي
في أحدى البوادي العربية من أرض الشام كانت تسكن أحدى اعرق القبائل العربية وهي قبيلة آل عيسى الطائية في مضارب عامرة لا تطفئ لهم نار، ولا يذل لهم جار، وهم يرتعون في بحبوحة من العيش الرغيد، معتمدين على مواشيهم التي لا تحصى، وأرضهم المليئة بالعشب والدائمة الخضرة، وكان لهم رئيس مقدام، وفارس شجاع، معروف بالجود والكرم وعزة النفس والإباء، يدعى الشيخ منصور العيساوي الطائي، وكان له من النساء ثلاثة، ومن البنين ثلاثة عشر، تسعة منهم ذكور وأربعة إناث، وكان ( فارس ) أوسط أبنائه لكنه في الخصال أشبه أخوته بأبيه الشيخ منصور، وكان أبيه يكن له الحب والعطف، والرحمة والود...
وكان فارس وأخوته يحيون في كنف أبيهم، يحضون منه بالرعاية والاهتمام، فنشئوا نشأة الفرسان الشجعان، وتعلموا ركوب الجياد، ومصارعة الأقوياء، والضرب بالسيف والرمح، والرمي بالقوس والسهام، ورغم أن فارس كان يتوسطهم بالعمر لكنه كان يتقدمهم بالفعال وسرعة التعلم، وكان إخوته الكبار يغبطوه ولا يحسدوه، وكان عطفهم وحبهم أكبر من الغيرة واقوي منها فعاشوا متحابين ومتعاضدين ...
وكان الشيخ منصور تهدى له الجياد الحسان الذاريات، والمعروفات بالنسب الأصيل، من شيوخ العربان ورؤساء الأقوام، والملوك والأمراء، وكان بدوره يهدي إلى بنيه واحد بعد واحد، ما يهدى له من تلك الخيول، حتى وصل الدور إلى فارس، فحضي بمهرة لا توصف، سوداء اللون، في جبهتها بياض كأنه الثلج، مع غرة رائعة الجمال، وكانت وافرة الشعر طويلة الذيل، وكانت المهرة ما تزال صغيرة العمر، فأحبها فارس وأطلق عليها اسم ( براق )، وكبرت براق حتى صارت يافعة وجميلة، وكان فارس عندما يناديها يصفر لها فتعرفه وتأتي إليه بسرعة البرق، وكانت ذكية تفهم كلام فارس ولا تخالفه مطلقا...
وعندما بلغ الابن الأكبر للشيخ منصور سن الرشد، قام بتزويجه، وفعل ذلك مع بقية أبنائه، واحد بعد واحد، ووصل الدور إلى فارس، فأخبره أبوه برغبته في تزويجه، وقال له هذه مضارب آل عيسى تعج بالفتيات الملاح، ذوات النسب والحسب، أختر منهن من تشاء وأنا أزوجك إياها، فقال فارس لأبيه يا أبتي أحب إن تمهلني وقتا ليس ببعيد، وكان فارس يضمر في قلبه الحب والود، لبنت فاتنة جميلة المحيى، ممشوقة القوام، شاهدها مع مجموعة من فتيات عشيرته، قرب الغدير تملئ القربة بالماء، لكنه لم يعرف ما أسمها ومن أبيها، لهذا أراد فسحة من الوقت ليعرفها ويعرف نسبها...
وبعد أيام قليلة، خرج فارس وهو يمتطي صهوة براق، ومر قرب غدير الماء، وشاهد تلك الفتاة الفاتنة، التي أوقعت قلبه، وهي تملئ القربة بالماء، والى جانبها أحدى خادمات مضاربهم تتحدث إليها، وانتظر على بعد، يراقبهن حتى غادرن الغدير، ووقع نظر تلك الفتاة على فارس، فعاجلها الحياء وأسرعت تمشي نحو خيامهم، وكأن في القلب آهات وحسرات، وقفل فارس عائدا إلى خيامهم، وأسرع إلى تلك الخادمة وسألها عن تلك الفتاة، ما اسمها ؟، وما اسم أبوها ؟، وماذا كانت تتحدث معك على ضفة الغدير ؟، فقالت: أنها ( شمس الصباح ) بنت الشيخ محمود أبن عم أبيك الشيخ منصور، وكانت تسألني عنك وعن سبب تأخير زواجك !...
استلقى فارس على الطنفسة واضعا رأسه على النمرقة، في ليلة سماعه كلام الخادمة، وراح يجول بفكره متفحصا كلمات شمس الصباح ومغزى سؤالها عن حاله وعن سبب تأخر زواجه، ولم يجد بين ثنايا تلك الكلمات غير اهتمام وحب، وربما هيام، من شمس الصباح له، حتى عالجه النعاس فصرعه وغط بالنوم إلى الصباح...
واستفاق على صياح الديكه ونباح الكلاب باكرا، فأسرع وعدل هندامه ومظهره، وذهب إلى مضيف أبيه الشيخ منصور، فوجده جالسا وهو يحتسي القهوة، ورائحتها تفوح من الفنجان، فسلم وجلس إلى جنب أبيه، وصمت برهة، وأبيه ينظر إليه بإمعان وتفحص عرف من قسمات وجه ولده ما منعه الخجل من الإفضاء به، فبادره قائلا: بني فارس هل حسمت أمرك بشأن الزواج ؟، فأنا أريد الإسراع بزواجك، فقال فارس والخجل باد على محياه، نعم يا أبتي، فقال والده: وهل اخترت من بنات الأعمام أو من بنات العرب ؟، فارس: اخترت من بنات الأعمام وهي شمس الصباح بنت العم الشيخ محمود، فرح الشيخ منصور بحسن اختيار فارس وسارع في إتمام الزواج...
كان زواج فارس من شمس الصباح يضرب به الأمثال، بين العرب في البادية والحضر، فقد زف فارس هو محفوف بين إخوته وبني عمومته ومشايخ العشائر العربية وقد تم عقد زفافه في جامع دمشق الكبير على يد مفتي الديار الشامية، ولم ترى الشام في زمانه مثل زفافه، حتى أصبح أشهر عرس ...
وضرب الشيخ منصور مضارب وخيام خاصة بفارس وعرسه شمس الصباح، على عادته المتبعة في أبنائه الكبار، وبعد انتهاء مراسم الزفاف، أدخل فارس على زوجته شمس الصباح، ونظر إليها وكأن الشمس بنورها المشعة بين يديه وهو يغازلها بكلماته ونظراته المحبة، ووجد منها ما توقعه من حب، بل هيام إلى درجة العشق، فصار العاشق والمعشوق، تحت خيمة واحدة كما أراد القدر جمعهما معا...
لكن بعد سنة على زواجهما، مرضت شمس الصباح، وأحضر فارس وأبيه، امهر أطباء العرب من الشام والعراق، لعلاجها لكنهم أخفقوا جميعهم في شفائها، رغم أنهم استطاعوا تشخيص مرضها وتسميته ب( مرض الأكلة )، الذي ليس له دواء، ولا يشفى منه المريض إلا بأمر الله وإرادته وحده، وظل فارس كظلها يرعها بحبه وعطفه ويريها شجاعته وبسالته، لكنه عندما يضيق صدره ولا يحتمل كتمان شجنه وكفكفت دموعه، يهرب إلى البيداء ممتطيا ظهر براق، ويقف تحت السماء رافعا يديه طالبا الرحمة والغفران، بلوعة وحرقة قلب، ودموعه تسيل كالشلال الهادر، وبعد هذا الأنين والنحيب، يسرع بالعودة إلى حبيبته الغالية، ليكون إلى جانبها لا يفارقها، يتملى بوجهها الشاحب وعيونها الذابلة، واستمرت بالتراجع والتدهور حتى وافها الأجل ورأسها بين يدي فارس !..
بعد انتهاء مراسم الحزن والعزاء في قبلية آل عيسى، قرر فارس السفر والرحال، فبقائه في مضارب قبيلته يبقيه حزينا كئيبا، يتذكر فقدان حبيبته وأول عشقه وشريكة حياته الغالية،،،
حاول الشيخ منصور أن يثني فارس عن قراره والتراجع عنه بكل السبل باءت بالفشل، وحتى المقترحات التي قدمها لفارس لم تجدي نفعا، وكذلك حاول إخوته جميعهم بثنيه عن عزمه لكنه لم يتراجع وبقى مصرا، وما كان بيد الشيخ منصور غير الصبر وقبول رغبة فارس على مضض، وكان الوداع قاسيا عليهم جميعا...
انطلق فارس ومعه براق متجهين صوب العراق سائرين تحت السماء الصافية، يقفون بينه فينة وأخرى، للراحة، إما عند غدير ماء، أو عند عشب طعام لبراق، أو عند بعض مضارب العشائر العربية، إلى إن وصل بعد أيام، إلى بادية جنوب العراق، فجلس قرب واحة من الماء ليستريح هو وبراق، وشاهد عن بعد مضارب عامرة وكثيرة ترتفع منها دخان نار طبخهم وتنانير خبزهم، فقرر أن يعرف لمن هذه المضارب، فنهض وكلم براق واخبرها انه سوف يتركها عند هذه الواحة وعليها إن لا تغادرها وتكون حذرة من الغرباء، وعليها الاختباء في الأعشاب الكثيفة والعالية، وانه سوف يرجع عند كل فرصة مؤاتية ليتفقدها، فهمهمت براق وصهلت وهزة رأسها وكأنها فهمة وأعطته موافقتها !،،
فذهب فارس نحو تلك المضارب، ومر من قرب راعي للغنم فسلم عليه وقال له: إنا عابر سبيل غريب، وأريد إن اعرف لمن هذه المضارب ؟، ومن رئيسها ؟، فقال الراعي: هذه مضارب بني أسد، ورئيسها وشيخ مشايخ عشيرتنا هو الشيخ مظاهر الأسدي أبو قائد، فقال فارس: انعم وأكرم، فبني أسد من اكبر القبائل العربية وهم من حماة الجار، ورئيسهم وشيخهم نعم الرجل وصاحب سمعة طيبة بين العشائر العربية، وأين مضارب الشيخ مظاهر ؟، أشار الراعي إليها، فشكره فارس واتجه نحو الخيام، وكانت ( جلنار ) بنت الشيخ مظاهر تقف خلف ستار، تنظر إلى فارس دون إن يشعر بها، وعندما اقترب فارس من الخيام استقبله أبناء الشيخ مظاهر مرحبين ومهللين، وادخلوه إلى مضيفهم، وقدموا له الماء والقهوة، واعدوا له الطعام، وحضر الشيخ مظاهر ورحب بالضيف القادم إليهم...
وبعد مضي ثلاثة أيام الضيافة العربية، سأل الشيخ مظاهر، فارس عن أسمه ونسبه وعشيرته ؟، فقال فارس: يا شيخ المشايخ والعرب، ومكرم الوفد، ومقرئ الضيف، وحامي الجار، ومجير من طلب الجوار والأمان أسألك بمقدساتك وبمن تعبد إن لا تسألني عن نسبي وحسبي وأن تقبلني عامل لديك في مضيفك أعمل لك ولضيوفك القهوة !،،
كان الشيخ مظاهر صاحب نظرة ثاقبة وفراسة عالية، فقلبه الرحيم اطمأن لفارس، وأخلاقه الكريمة قبلت طلب فارس، فصار يعمل القهوة للشيخ ولضيوفهم الوافدين، وعندما تسمح له الفرصة، يأخذ بعض الحشائش، ويذهب إلى الواحة ليطمأن على براق...
أما جلنار فلم تقتنع أن فارس مجرد عابر سبيل غريب، وكانت تعتقد إن فارس شخصا يخفي عليهم حسبه ونسبه لعلة ما، فكانت شديدة المراقبة له، تتبعه حيثما ذهب دون إن ينتبه فارس عليها، حتى عرفت سره الأول وهو أخفى المهرة العربية الأصيلة السوداء، عند واحة الماء، فأزداد يقينها وقوي ضنها فيما اعتقدته بفارس، وهذا الاهتمام من جلنار بفارس تحول في مرور الأيام حب صادق، لكن حياء المرأة العربية يمنعها دوما من كشف إسرار مكنون قلبها...
كان لجلنار ابن عم يدعى ( عرب ) ثقيل العشرة، مختال بنفسه، فخور بحسبه ونسبه، يدعي الشجاعة والفروسية، وبهذه الأخلاق الذميمة، كان عمه الشيخ مظاهر يرفض إن يكون صهره على ابنته جلنار، وكذلك إخوتها، رغم طلبه المتكرر لخطبتها، إما جلنار فكانت تبغضه إلى حد الاشمئزاز، والموت على الاقتران به، ولو كان أخر رجل في الدنيا...
كما كان فارس يخفي سرا، كانت جلنار أيضا تخفي فروسيتها وشجاعتها عن جميع العشيرة سوى أبيها الشيخ مظاهر وإخوتها الذين تولوا تدريبها منذ صغرها، حسب رغبتها وطلبها، ولكونها أبنهم الوحيدة وعزيزة قلب أبيها ما كان له رد أي طلب لها، وكان لها جواد عربي أصيل ابيض اللون أسمته ( شهاب ) وكانت بين فينة وآخري تلبس لباس الرجال وتضع على وجهها ( الشماغ ) وتمتطي شهاب وتخرج إلى البيداء، وفي أحدى الأيام خرجت تتبع فارس على عادتها، وكان فارس ذاهبا إلى الواحة لرؤية براق، وشاهدته يتقنع وينطلق نحو البيداء، فسارعت في ارتدائها لباس الفرسان وامتطاء شهاب واللحاق بفارس، ووصلت إليه ووجدته يلاحق غزال لاصطياده، فتسابقت معه وصار يسبقها وتسابقه، حتى تمكنت جلنار من الغزال، ووقف فارس والدهشة تعلوا محياه، لقوة هذا الفارس، وحصانه الأصيل، وبقوة فراسته أحس فارس إن هذا الفارس الذي يرتدي الثياب البيضاء، هي امرأة وفارسة، فطلب منها إن ترفع قناعها وتعرفه بنفسها فرفضت، وقالت له ارفع قناعك أنت أولا وعرفني بنفسك ؟!،، فأبى فارس إن يكشف نفسه فتعرفه بني أسد وتعرف انه فارس آل عيسى، وقفل عائدا إلى مضارب بني أسد...
لكن فارس ضل يجول بفكره وخاطره، راغبا بمعرفة تلك الفارسة التي سبقته وصادت الغزال، وانشغال الفكر بشخص ما، سبب في بداية الانجذاب ثم الاهتمام والحب، وفارس لم يصبر ولم يتوانى في كشف سر تلك المرأة، وفي يوم دخل إلى إسطبل الخيول التابع لمضارب الشيخ مظاهر، شاهد الجواد الأصيل شهاب في الإسطبل، فعرف إن تلك الفارسة لا تعدو هذا المنزل، فقصد احد الرعاة في الإسطبل وسأله عن الجواد شهاب لمن يكون ؟،، فقال له: أنه لسيدتنا ابنة الشيخ مظاهر، فأزداد فارس رغبتا واهتماما بمعرفة المزيد عن مالكة شهاب، واستطاع أن يعرف اسمها وبعض حالاتها من خلال بعض الخادمات، وعرف أيضا رفض جلنار الزواج من ابن عمها عرب، وبهذا كله علق جلنار بفكر وقلب فارس الذي تحرك من جديد بعد توقف زاد على السنة..
كان فارس يترقب رؤية جلنار، كل حين، وفي يوم من خرج الشيخ مظاهر وبنيه ورجال العشيرة بسفر قاصدين أحدى العشائر العربية في جنوب العراق التي فقد زعيمها، من أجل واجب العزاء، ولم يبقى في مضارب بني أسد غير ابن أخي الشيخ مظاهر ( عرب )، وبعض الرعاة والخدم، وكان هنالك لصوص يتحينون الفرصة في غزو مضارب الشيخ مظاهر وسرقة خيولهم ومضاربهم، وفي الليل جاءوا اللصوص غازين مضارب بني أسد، فأحس بهم فارس وأسرع في ارتداء لباسه الأسود، وخرج من الخباء وصفر بصوت عال، فسمعته براق وجاءت كالبرق الخاطف، وقفز واعتلى صهوتها وشهر سيفه بوجوه الغزاة اللصوص، إما جلنار هي الأخرى أسرعت في ارتداء لباسها العربي الأبيض، وامتطت صهوة شهاب وأسرعت تصول وتجول بسيفها بوجه الغزاة المعتدين، إما ابن عمها عرب فعند سماعه أصوات الغزاة خبئ رأسه تحت النمرقة من شدة خوفه ورعبه، وخلال اقل من ساعة قتلت جلنار بعض اللصوص، وقتل فارس بعضهم وتمكن من قتل قائدهم، ففر الباقين خائفين مدحورين لا يلون خلفهم، قاصدين سبيل النجاة، مرعوبين من الفارس الأسود والفارس الأبيض...
وبعد انتصار فارس وجلنار على الغزاة، وقف فارس إمام جلنار وقال لها: من أنتي أيتها الفارسة الشجاعة ؟، فقالت: أن لم تعرفني أنت نفسك ومن تكون فسوف لن اكشف لك عن حسبي ونسبي ؟!، فكان لا بد لفارس إن يكشف عن نفسه لجلنار، فقال بعد إن أماط لثامه عن وجه: أنا فارس آل عيسى، أبن الشيخ منصور العيساوي، فقالت: ولم كنت تكتم علينا نسبك وحسبك وأصلك وفصلك ؟، قال: يا بنت العرب الأجاود، حكايتي طويلة وهذا ليس وقتها، عرفيني الآن بشخصكم الكريم ؟، قالت: إنا جلنار بنت الشيخ مظاهر الأسدي، فقال: أنعم وأكرم بالفارسة الشجاعة بنت الشيخ الجواد،،، وعند سماع جلنار بكلمات فارس المادحة لم تستطع إن تتمالك حيائها فأسرعت إلى مضاربهم، وعاد فارس دون إن يكشف حقيقته أحدى من عرب بني أسد، رغم أنهم شاهدوا بطولات الفارسين الأسود والأبيض...
إما عرب فقد قام عند الفجر بعد إن اطمأن إن الغزاة قد رحلوا، خرج وهو يمطني صهوة حصانه شاهرا سيفه مدعيا انه هو من هزم الغزاة، وهو الفارس المنصور، وذاع بين عشيرته كذبه وتلفيقه، وسكت الرعاة الذين شاهدوا الحقيقة والواقع، خوفا من سطوته، والشيخ مظاهر غائب هو وبنيه، وبعد يومين، رجع الشيخ مظاهر، وبنيه ورجال العشيرة، قص عليه خبر الغزوة، وشجاعة عرب وانتصاره على الغزاة، ففرح الشيخ مظاهر، وقال إن عرب يستحق إن يكون زوجا لابنتي جلنار فهو حامي العشيرة وبطلها المغوار وحامي الذمار والعيال، وسمعته جلنار، وصاحت يا أبتاه أن هذا الخسيس الكذاب لا يستحق منك هذا المدح والثناء، وأن الفارس المقدام والبطل الشجاع الحقيقي، هو عاملك غريب صانع القهوة، وأنا كنت معه، وكان الرعاة واقفين يسمعون كلام جلنار فقالوا صدقت سيدتنا، فنحن شاهدنا ذلك البطل الشجاع الفارس الأسود الذي يمتطي تلك المهرة السوداء الأصيلة، وشاهدنا الفارس الأبيض الذي كان يمتطي صهوة شهاب...
وعند سماع الشيخ مظاهر كلام جلنار والرعاة، توجه نحو فارس وقال: أولا إنا شاكر لك فعالك وبطولاتك وحمايتك لمضاربنا وممتلكاتنا، وثانيا جاء الوقف الذي يجب عليك إن تكشف لنا من أنت ومن اهلك وما هو حسبك ونسبك ؟، وجاءت الفرصة لفارس فكشف للشيخ مظاهر وإمام العشيرة عن اسمه ونسبه وحسبه، وعن سبب عدم إفشاء سره، لأنه أحب إن يعيش عيشة الفقراء عله ينسى ما الم به الزمان، ولعله يجد السلوى وتشفى جراحه وحزنه العميق، هذا وجلنار تسمع كلام فارس ودموعها تنصب على أسيليها، وكأنها اللؤلؤ الرطب، وقلبها يتفطر لمصاب فارس...
إما الشيخ مظاهر لما عرف سر فارس وعرف من يكون ومن هو أبيه، طلب من فارس أن يطلب ما يشاء وما يرغب جزاء على موقفه الشجاع والمشرف، فقال فارس: ايها الشيخ السمح البهلول، والكريم المجرب لكل نازلة، أنا لا اقبل عوض الواجب، وكل شريف ذو حسب ونسب لا بد أن ينهض بشخصه باذلا نفسه ومهجته من اجل حماية الجار والجوار، فقال الشيخ مظاهر: لا يرد الكريم إلا البخيل، ولا تبد لك من طلب لك ننفذه مهما كان !، فقال فارس: يا شيخ أصارحك وأقول، إنني راغب بالاقتران بحسبك ونسبك، فقال الشيخ: انعم وأكرم فأنت خير صهر وخير صاحب، لكن من عادتي سؤال البنت، وبعد سؤال الشيخ لأبنته جلنار ظهر الخجل على وجهها وأحمرت خدودها، وصمتت...
وكان صمتها هو الموافقة، وغادر فارس لإحضار أبيه وإخوته وعشيرته، وحضروا جميعا وتمت الخطبة وعقد القران، في مضارب بني أسد وزفة جلنار إلى مضارب آل عيسى، ومعها حصانها شهاب الذي وضع مع براق في إسطبل واحد، وأنجبت بعد حين براق من شهاب الخيول العربية الأصيلة، كما عاش فارس وجلنار حياة تملئها السكينة والحب والود وأنجبت جلنار لفارس، صبيان وبنات شجعان.