من داخل قصر الجعفرية وطفة سرقسطة (اسبانيا) - من هنادي علي ـ في وسط مدينة "سرقسطة" الواقعة شمال شرق اسبانيا وفي واحدة من اجمل مناطقها يتربع "قصر الجعفرية" شاهدا حضاريا على عبق الحضارة الاندلسية وجمالية الفن المعماري الاسلامي وعظمة الحضارة العربية الاسلامية التي سادت هناك لنحو ثمانية قرون.ويقع "قصر الجعفرية" في "سرقسطة" عاصمة اقليم "اراجون" التي يعود تاريخها الى اكثر من الفي عام والتي احتضنت خلالها اربع حضارات هي (الايبيرية) و(الرومانية) و(الاسلامية) و(المسيحية) وفتحها المسلمون على يد القائد موسى بن نصير سنة 714 ميلادي اي بعد ثلاث سنوات من عبور مضيق جبل طارق.
وكانت هذه المنطقة شهدت ازدهارا كبيرا ايام الحكم الاسلامي وحركة عمرانية وحضارية كبيرة حيث حفرت القنوات وازدهرت الزراعة واقيمت مدارس العلم وبنيت المساجد وشيدت القلاع والقصور فيها ولعل اهم ما ميزها هو ازدهار الحركة الفكرية والادبية في ربوعها فنبغ فيها مفكرون وعلماء مسلمون ابرزهم فصحون السرقسطي والمازني السرقسطي وابو بكر محمد بن باجة السرقسطي المعروف بابن الصائغ.
ويعد قصر الجعفرية من ابرز معالمها الاثرية وأحد اكبر مفاخرها شيده الملك ابوجعفر احمد المقتدر في القرن الحادي عشر ما بين (1046 ي 1082م) واحاطه بحدائق غناء وبساتين خضراء شكلت مع نهر "ايبرو" الذي يخترقها لوحات فنية تبهر العيون وتأخذ الالباب.
ويتميز فن القصر المعماري بأنه فسيفساء هندسية اسلامية تضافرت فيها جماليات الفن الاسلامي الدمشقي والبغدادي والمغاربي فتآلفت هذه الفنون مع عبقرية الهندسة في قرطبة وغرناطة لتشكل في تناغمها ملحمة هندسية تسحر العيون بعبقريتها وسحرها.
وليس ادل على ذلك من جماليات التناغم الفني العجيب بين البناء والضوء حيث صممت نوافذ القصر الكبيرة بعناية فنية مذهلة يتناغم فيها ضوء الشمس مع الوان المبنى وزخرفاته المدهشة فتآلفت الوان الاحمر والازرق والزهري والابيض في تكوينات عجيبة كما حصن بقلاع عالية مهيبة وخنادق عميقة عريضة.
اما محراب القصر فتميز بأجمل النقوش والرسوم الفنية الساحرة للهندسة المعمارية حيث يقف المرء مشدوها بجماله المطلق الذي يومض في كل زاوية وينهض في كل موضع ويربض في كل مكان فيأخذ مشاهديه بعناصر الاثارة والادهاش والذهول امام صرح يفوق بجماله شطحات الخيال.
ويحتوي القصر على صالة سميت بـ"صالة الذهب" لما تتسم به من سحر وجمال تتوسطها بئر عميقة تصل اليها المياه عبر قناة من نهر يتدفق بنوافيره وقنواته الممتدة عبر الحدائق الغناء المحيطة به فيما زينت الجدران بنقوش جمالية والسقوف بفسيفساء اسلامية.
كما نقشت على بعض القباب والجدران في قاعات القصر العليا ايات قرآنية كريمة ارتسمت بأجمل الخطوط العربية ابرزها عبارة "الملك لله... الملك لله" وعلى نمط عبارة "لا غالب الا الله" المنقوشة في مختلف قاعات قصر الحمراء ودهاليزه الجميلة.
وقد اطلق على القصر اسم "قصر الجعفرية" نسبة الى بانيه السلطان ابو جعفر المقتدر الذي شيده ليكون منارة للعلم والفكر والثقافة وليضاهي به "بيت الحكمة" في بغداد وليؤمه العلماء والفقهاء والفلاسفة والاطباء والادباء والشعراء في عصره على اختلاف مشاربهم وتنوع نحلهم ودياناتهم.
وقد خيمت اجواء التسامح الاسلامي والتفاعل الثقافي بين المفكرين والعلماء والفقهاء في ذلك الوقت فكان القصر اشبه بجامعة عريقة تتلاقى فيها العقول تجديدا وابتكارا وعطاء.
وادركت اسبانيا الاهمية الحضارية والثقافية لـ"قصر الجعفرية" بوصفه شاهدا على الحضارة العربية الاسلامية فتم اعلانه في العام 1931 نصبا وطنيا تاريخيا وحضاريا.
كما حظي برعاية الدولة واهتمامها فبدأت بترميمه وصيانته عام 1974 على يد مهندسين متخصصين بالآثار الاندلسية حيث عملوا بجد وعبقرية لاعادة تزيينه بصورته التراثية الاندلسية ليكون في وقتنا الحالي صرحا حضاريا يستهوي ملايين السياح الذين يقفون مدهوشين امام جمالياته وسحر فنه المعماري.