صلح الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية
من المواضيع الحيوية المهمة هي مصالحة الإمام الحسن(ع) لمعاوية أو تنازله له بالخلافة مقابل مجموعة من الشروط والمكاسب، وقد شغلت هذه القضية بال المؤرخين والكتاب والخطباء وكل من يقرا التاريخ، وقد اختلفوا في تحليلهم لهذا الموقف بين مؤيد ورافض والشيء المهم ان هذه القضية ما زالت تحتاج إلى مزيد دراسة وتحليل، والكثير من الإيضاحات والإجابات ولهذا ساحاول في هذه العجالة ان اسلط الاضواء على بعض النقاط الهامة التي تصلح جواباً للكثير من الاسئلة والاشكالات.وفي البداية لابد من تقديم مقدمة.
إن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) معصومون من الزلل لا يجوز في حقهم الخطا والنسيان والسهو بحسب ما دل على ذلك من الأدلة العقلية والنقلية، وهذا يعني ان مواقفهم وادوارهم مرسومة من قبله تعالى لا يتجاوزونها ولا يقصرون عنها.
وجاء في بعض الروايات ان الله عَزَّ وَجَلَّ انزل على النبي (صلى الله عليه واله) صحيفة من السماء فيها اثنا عشر ختماً، لكل امام ختمه، ومكتوب تحت الختم ما يعمله.
ومن هنا فصلح الإمام الحسن(ع) لم يات من اجتهادٍ شخصي وإنما جاء ضمن المخطط الإلهي المرسوم له، ولكن عقول الناس تقصر عن ادراك حقيقته، ويشير إلى هذا المضمون كلام للامام الحسن(ع) حينما لامه البعض على بيعته لمعاوية، حيث قال:
ويحكم ما تدرون ما عملت، والله للذي عملت لشيعتي خير مما طلعت عليه الشمس أو غربت، ألا تعلمون اني امامكم ومفترض الطاعة عليكم، واحد سيدي شباب أهل الجنة بنص من رسول الله (صلى الله عليه واله) عليَّ؟.
قالوا: بلى، قال:
اما علمتم أن الخضر لما خرق السفينة وأقام الجدر وقتل الغلام كان ذلك سخطاً لموسى بن عمران (عليه السلام) إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك، وكان عند الله تعالى ذكره حكمةً وصواباً؟ أما علمتم أنه ما منا أحد إلا يقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلا القائم(عج)، والذي يصلي خلفه روح الله عيسى ابن مريم (عليه السلام؟.
والحاصل: ان موقف الإمام الحسن(ع) كان صادراً وفق المخطط الإلهي المرسوم، له، سواء علمنا بحكمته أو خفيت علينا، فلا يجوز الاعتراض أو التخطئة ولابد من التسليم والقبول بكل ما صدر منه (ع) وما صدر من باقي المعصومين.
هذا الجواب يوضح القضية إلى حد ما بالنسبة لمعتنقي مذهب أهل البيت(ع) ولكن يبقى التساؤل قائماً بالنسبة لغيرهم من المذاهب الإسلامية المختلفة الذين لا يعتقدون بعصمتهم ويجيزون عليهم الخطأ، فلابد حينئذ من الإجابة على هذا التساؤل وفق المعطيات التاريخية الماثلة بين ايدينا وبحسب النتائج التي افرزها الصلح ويمكن تلخيص الإجابة ضمن النقاط التالية:
والفت النظر إلى ان الاجابات التي سنذكرها يصلح كل منها ان يكون جواباً مستقلاً:
الأول:
ان الهدف الاساسي من مصالحة الإمام الحسن (عليه السلام) لمعاوية هو المحافظة على النخبة من أصحاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وشيعته.
وهذا الهدف قد صرح به الإمام الحسن(ع) في أكثر من مناسبة.
منها: ضمن وثيقة الصلح التي تم الاتفاق عليها من الطرفين، حيث جاء فيها:
... وعلى أن أصحاب علي وشيعته آمنون على انفسهم واموالهم ونسائهم واولادهم، وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه ...
ومنها: قوله (عليه السلام) في مكان آخر: اني خشيت أن يجتث المسلمون عن وجه الأرض فاردت ان يكون للدين ناع.
والكثير من الباحثين والكتاب والمؤرخين قد أشار إلى هذا الهدف، ولكن يبقى التساؤل قائما لماذا اراد الإمام (ع) المحافظة على هذه النخبة ولمِ لم يحافظ الإمام الحسين (عليه السلام) فيما بعد على هذه النخبة بل كان يقول: من سمع واعيتنا أهل البيت ولم ينصرنا اكبه الله على منخريه في النار فكان يدعوا المخلصين إلى نصرته، ونصرته تعني الشهادة والموت، فما سر هذا التفاوت؟
ان هناك تفاوتاً بين الموقفين لا يسعني الاحاطة به من جميع جوانبه ولكن أقول على عجالة ان النخبة التي كانت مع الإمام الحسن (عليه السلام) كان ينتظرها دور كبير في مجال التبليغ وتاصيل العقائد الحقه في المجتمع الإسلامي، وايصال فكرة الامامة إلى ضمير الأمة.
وهذه النقطة تحتاج إلى توضيح.
ان الكثير من العقائد الإسلامية المهمة لاسيما مفهوم الامامة لم تكن واضحة جداً في اذهان المسلمين، بل عامة المسلمين لا يفهمون من الإسلام إلا شكله ورسمه لاسيما بعد تولي الخلافة الثلاثة فان تولي هؤلاء اربك كثيراً المشهد العقائدي والسياسي واختلطت على المسلمين الامور وضاعت على اثره الكثير من الحقائق.
وهناك شواهد كثيرة دلت على ان الكثير من المسلمين في عهد أمير المؤمنين(ع) لم يكن يعتقدوا بعصمة الإمام (ع) وبنظرية الامامة بصورتها الكاملة، ولم يكن يحمل هذه العقيدة الكاملة سوى نخبة من تلامذة الإمام (ع) فقد تلقت هذه النخبة عقائدها من الإمام (ع) لتقدمها بدورها إلى الأمة الإسلامية تدريجيا وعلى فترات من الزمن.
وهنالك شواهد كثيرة على ان هذه النخبة كانت تحمل علوما كثيرة ومعارف ضخمة لا يتسع لها كل احد ولا يتحملها إلا الاوحدي من الناس.
واليك بعض الشواهد:
1ـ روي ان ميثم التمار ـ وهو من كبار أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ مر يوما بمجلس لبني اسد فاستقبله حبيب بن مظاهر، وهو أحد شهداء كربلاء، ووقفا يتحدثان طويلا، قال حبيب: لكأني بشيخ أصلع، ضخم البطن، يبيع البطيخ عند دار الرزق قد صلب في حب أهل بيت نبيه، تبقر بطنه على خشبه، يريد به ميثما.
فقال ميثم: وكأني برجل احمر له ضفيرتان، يخرج لنصرة ابن بنت نبيه فيقتل ويجال رأسه بالكوفة، يريد بذلك حبيباً، وافترقا.
فلما سمع أهل المجلس حديثهما قالوا: ما رأينا أحداً اكذب من هذين، وكان أهل المجلس ما يزالون في مجلسهم إذ اقبل عليهم رشيد الهجري، وهو من امناء اسرار أمير المؤمنين (عليه السلام)، فطلب صاحبيه الكبيرين ميثماً وحبيباً، فقيل له: انهما افترقا بعد أن تحدثا ساعة، وأعادوا عليه حديثهما فقال: رحم الله ميثماً، إنه نسي أن يقول: ويزاد في عطاء الذي يجيء بالرأس مئة درهم.
فقال بعضهم: هذا والله أكذبهم.
فما مضى وقت طويل حتى رأوا ميثماً مصلوباً عند باب عمر بن حريث، وقتل حبيب بن مظاهر مع الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، وطافوا براسه في شوارع الكوفة.
2ـ ما روي في علوم ميثم بن يحيى التمار.
فقد روي ان عبدالله بن عباس وهو من تلامذة أمير المؤمنين (عليه السلام) وممن تلقى عنه علم تفسير القرآن، كان يخاطبه ميثم التمار قائلاً: يا بن عباس، سلني ماشئت في تفسير القرآن فاني قرأت تنزيله على أمير المؤمنين (عليه السلام) وعلمني تأويله، فقال ابن عباس: يا جارية الدواة والقرطاس، فأقبل يكتب.
ويروى عن أبي خالد التمار قال: كنت مع ميثم بالفرات يوم الجمعة، فهبت ريح ونحن في سفينة من سفن الرمات، قال: فخرج فنظر إلى الريح فقال: سدوا راس سفينتكم، وإن هذا ريح عاصف، مات معاوية الساعة، قال: فلما كانت الجمعة المقبلة قدم بريد من الشام فلقيته فاستخرجته فقال: توفي أمير المؤمنين، وبايع الناس يزيد، قلت: أي يوم توفي؟ قال: يوم الجمعة.
إلى غيرها من الشواهد الكثيرة التي تدل على ان هذه النخبة التي حرص الإمام الحسن(ع) على حمايتها والمحافظة عليها تمتلك علوماً كثيرة وعقيدة متكاملة.
ومن يطالع التاريخ يجد ان لهذه النخبة دوراً كبيرة في توعية الأمة الإسلامية وتثقيفها وتعريفها باهل البيت (عليهم السلام)، وفي مختلف الاماكن والمحافل فالكثير منهم كان يتحدث عن فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) أمام معاوية وأمام بني أمية وقد كلف ذلك الكثير منهم الموت والقتل، وقامت هذه النخبة بالتصدي لظاهرة سب أمير المؤمنين (عليه السلام) أيام معاوية وقد استشهد على اثر تلك المعارضة الصحابي الجليل حجر بن عدي الكندي وكوكبة معه والصحابي الجليل عمرو بن الحمق الخزاعي.
ولولا هذه النخبة لاندرست الكثير من الحقائق ولضاعت الكثير من علوم أهل البيت (عليهم السلام)، خصوصاً مع ملاحظة ان سياسة معاوية كانت تقوم على اساس طمس علوم أهل البيت (عليهم السلام) وتشويه الحقائق وتزوير الروايات وما شاكل ذلك.
فقد نقل المؤرخون ان معاوية كتب إلى عماله على الامصار: أن برئت الذمة ممن روى حديثاً في مناقب علي واهل بيته واعلن أن كل من صعد منبراً خطيباً عليه ان يسب علياً وأن يبرأ منه، وأن يلعن أهل بيته.
الخلاصة: ان الهدف الاساسي من مصالحة الإمام الحسن (عليه السلام) لمعاوية هو المحافظة على تلامذة أمير المؤمنين (عليه السلام) الذين سيتولون المحافظة على مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) من خلال نشر علومهم وافكارهم وثقافاتهم التي هي بطبيعة الحال تمثل ثقافة الإسلام وعلومه.
الثاني:
إن الشام بعيدة كل البعد عن روح الإسلام ومفاهيمه الاصيلة بسبب السياسة التي اتبعها معاوية في الشام منذ توليه ولايتها حيث قام بعزلها عن مراكز الوعي الإسلامية مثل الكوفة والمدينة ونحوهما، ونشر بين اهلها ثقافته الخاصة القائمة على الكذب والتزوير وهناك شواهد كثيرة على هذه الحقيقة لا يسع المقام لذكرها، ويكفي شاهداً على ذلك ان أهل الشام كانت تخفى عليهم مكانة أهل البيت (عليهم السلام) في الإسلام وموقعهم عند رسول الله (صلى الله عليه واله) ولذلك فان بعد الصلح المذكور وبعد اختلاط الشام ببقية المدن الإسلامية اتضحت لهم الحقائق بشكل آخر وازيلت عن اعينهم غشاوة الجهل والتزوير.
فلهذا كان من فوائد صلح الإمام الحسن(ع) انفتاح الشام على بقية البلاد الإسلامية واتصالهم بالمراكز الدينية العلمية، فوصل إليهم الفكر الإسلامي الاصيل وعلى ذلك عدة شواهد:
ومن اراد الوقوف على ذلك فليراجع مواقف الإمام الحسن(ع) مع الشاميين الذين كانوا ياتون إلى المدينة المنورة، حيث يظهر جلياً مدى انحراف هؤلاء عن جادة الحق، ويظهر جلياً أيضاً مدى نبل البيت الهاشمي حيث احتضن الإمام الحسن(ع) ومن بعده الإمام الحسين(ع) هؤلاء المغرر بهم وأكرموهم وغيروا الصورة المشوهة التي كان يحملها أهل الشام عن علي وأولاده (عليهم السلام).
فقد روي ان شاميا رأى الإمام الحسن (عليه السلام) راكباً فجعل يلعنه، والحسن(ع) لا يرد، فلما فرغ أقبل الحسن(ع) فسلم عليه وضحك، فقال: أيها الشيخ أظنك غريباً، ولعلك شبهت، فلو استعتبتنا اعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا ارشدناك، ولو استحملتنا احملناك، وان كنت جائعاً اشبعناك، وان كنت عرياناً كسوناك، وان كنت محتاجاً أغنيناك، وان كنت طريداً آويناك، وان كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حركت رحلك الينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان اعود عليك، لان لنا موضعاً رحباً، وجاهاً عريضاً، ومالاً كثيراً.
فلما سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه، والله أعلم حيث يضع رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله الي.
وحول رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبتهم.
إذن من فوائد الصلح ان اتسعت دائرة التشيع حتى شملت بلاد الشام معقل الامويين وحصنهم الحصين فكثر فيها الموالون للخط العلوي والمحبون لاهل البيت(ع).
الثالث:
ان المسلمين في مختلف الامصار الإسلامية لم يكونوا يعرفوا الامويين بشكل جيد ولم يعرفوا معاوية تحديداً إلا بعد الصلح المذكور، وقد كان الناس في الكوفة عاصمة التشيع يتثاقلون من قتال معاوية لما استنهضهم الإمام الحسن(ع) لقتاله، ولكنهم بعد ان جربوا حكومته وظلمه وبطشه وانحرافه رجعوا إلى أنفسهم ولاموها، ورجعوا إلى الإمام الحسن(ع) مراراً وتكراراً يستحثونه على قتال معاوية والأمويين ولكنه (ع) كان يأمرهم بالتريث والانتظار.
إذن من أهداف الصلح ان يطلع المسلمون على حقيقة معاوية وبني أمية التي كان معاوية يخفيها خلف الدعايات والإعلام المضلل والمنحرف، ولكن بعد ان استولى على مقاليد الحكم والخلافة انكشف أمره واتضح زيفه، وظهرت حقيقته أمام الملا وعرف الناس ان لا هدف لمعاوية وأهل بيته إلا التسلط على رقاب المسلمين والتحكم بمقدراتهم.
لعل هذه ابرز الأسباب التي دعت الإمام الحسن(ع) لعقد الصلح مع معاوية ولعل هناك أسباب أخرى اعرضنا عنها خوف الإطالة، نرجئها إلى فرصة أخرى.