القصخون من كلمتين: (القصة) وتعني الحكاية و (خون) هو راوي القصة والمحترف لهذا الفن.. كانت له ولقرون ، الهيمنة والتأثير وخلق المتعة لدى المستمعين وطوال فترات الحكم العثماني واستمر الحال بسماع القصخون في فترة الاحتلال البريطاني 1914-1918 ثم مع الحكم الملكي 1921 وما سمي بالاستقلال، ويذكر الاجداد والآباء والعارفون ان عشرينيات القرن الماضي شهدت قمة وازدهار هذا الفن الشعبي واستمر حتى الاربعينيات، ثم أخذ يخبو وينحسر مع نهاية الاربعينيات، وكان سائدا في غالبية مدن العراق ومنها الموصل والذي ساعد وشجع في انتشاره وازدهاره هو غياب وسائل المتع واللهو المرئية والمسموعة فلا راديو ولا سينما ولا تلفزيون ولا حاكٍ (غرامافون) وحتى هذا الأخير وبعده الراديو كان في الثلاثينيات وحتى الاربعينيات من المقتنيات النادرة عند بعض الاسر الثرية القليلة، والانسان اذا حُرم من متعة النظر وتحمل ذلك، فهو لا يمكن ان يستغني عن متعة السماع، فما العمل؟ كانت الموصل – وكغالبية مدن العراق- صغيرة محدودة الابعاد بمحلاتها العتيقة وازقتها الضيقة غير المبلطة.. أزقة ودروب موحلة- لاسيما في الشتاء – والمدينة مظلمة ليلاً الاّ من فوانيس شاحبة الضوء علقتها (البلدية) في رؤوس بعض الطرقات والدروب، واذا كان الصيف متنفسا للحركة والخروج الى مقاهي المدينة- وفي مركزها خاصة- فإنّ الشتاء ببرده وزمهريره كان عائقا للشيوخ وكبار السن لاسيما في الليالي المعتمة المتجمدة، لذا فرضت الحاجة ان تكثر المقاهي الصغيرة في رؤوس الازقة ومنعطفات المحلات القديمة، فما هي الا امتار حتى يصل الرجال وكثير منهم عجزة ومتعبون للمقهى بلا عناء لقربه ولأنه يوفر لهم الراحة والامان وفرح اللقاء بالآخرين وسماع اخبار الناس والدنيا تتناقلها الافواه شفاهاً، فيلتقطون – وبكل قوة حب الاستطلاع- ما دار ويدور في مجتمعهم وخارجه، وما جرى ويجري في محلتهم ثم مدينتهم ومدن وعوالم اخرى.. يحتسون الشاي الساخن كثيرا وقليلا من القهوة ومعها (السعوط) مادين الايدي والاكف للاحتماء بوهج نار الفحم او الخشب الغليظ في تلك المواقد الحجرية او المعدنية التي تتوسط المقهى او تقبع في ركن منها.. المقهى دافئة والاحاديث اكثر دفئاً ولذة العمر في السجائر الرفيعة الملفوفة وقرقرة النراجيل ومنظر السماورات المصفوفة والقواري المزخرفة واقداح الشاي ونكهته الطيبة المحلاة بسكر القند (الكله) والدوشلمة فما بقي اذن ؟! الذي بقي هو المهم والأهم، فشوقهم وكما تنظر في السينما بلهفة انطفاء الضوء وبداية الفلم الذي ظل اشتياقك لرؤيته- فشوقهم اكبر وانتظارهم ولهفتهم للذة السماع لا تعادلها لذة.. ها هو قد تربع فوق مقعد عالٍ اشبه بمنبر ولكنه بلا مساند غير ذلك المسند الذي امامه وقد وضع فوقه (الكتاب) الاثير لديه ولدى الجمهوري..
القصخون لا تراه عاري الرأس بل بعمامة او غطاء ثقيل، يرتدي الزبون ويلتحف عباءة سوداء وقورة او جبة او فروة لا تجد .. الاّ نادراً قصخوناً شاباً، فأغلبهم ممن تجاوز الخمسين او الستين، منهم من يعتمد (كتابه) فقط دون (معينات) اخرى وهؤلاء كانوا مجرد قراء اما القصخون المبدع فكانت له (مستلزمات) تجسد حرفته وعمله، منها (السيف الخشبي) او الحقيقي، وهذا المبدع لم يكن يرتضي لنفسه صفة (قارئ) او (راوية) فقط، بل كان يضيف بتلاوين (حكايته) مشاهد تمثيلية بسيطة فقد كان متمرساً في تلوين (الاصوات) بين عالية هادرة غاضبة حينما تحتدم بين المقاتلين صرخات الحرب او واطئة هادئة حزينة حينما تعبر عن مشاعر الحب والغزل وبعذوبة وحنان ابيات شعر اللوعة والحنين كما يستوجب الدور للمثل، وكما تتطلب الحالة النفسية لأبطال (الحكايات)، فالقصخون كان فناناً واعياً ان (الوتيرة الواحدة) و (النغمات المتشابهة) في الشعر المُغنى و (الجمود في الالقاء) ستسبب الملل الضجر عند الجمهور.
كانت (العنترية) وكتبها منبعاً ثراً وعيناً مدرارة يستقي منها القصخون، وكان منهم من هو (متخصص) بها لا يتجاوزها- طوال عمره- لأيّ حكايات اخرى ، وكان آخرون لا يقيدون انفسهم (بالعنترية) فقط، بل يتجاوزونها لآفاق حكائية ارحب تنهل من (ألف ليلة وليلة) ومن قصص العشق (كالمياسة والمقداد) و (قيس بن الملوح العامري المجنون بحب ليلى العامرية ابنة عمه) وحكاية (مريم الزنارية) و (تودد الجارية) واقاصيص الجواري والقيان والمغنين والحمالين والجن والطيور والحيوانات المسحورة والقصور التي هي في اعماق البحار وبطلها (السندباد البحري) ، وهم لم يكتفوا بذلك البحري فخلقوا (السندباد البري) ثم قصص الشطار واللصوص وافاعيل المردة مع خاتم سليمان المسحور، ومنهم من كان خياله انشط فينقل لمستمعيه مطولات من (السيرة الهلالية وبطلها الشجاع (ابو زيد الهلالي)، ومنهم من منح من لياليه وسهراته حصة كبيرة لذلك القائد الخالد (صلاح الدين الايوبي) الذي استعاد بيت المقدس بصدقه وشجاعته وقيمه النبيلة وبصلابة مقاتليه وايمان المحيطين به بقيادته وحكمته في مواجهة اقسى الشدائد ...
واذا كانت القلة النادرة من هؤلاء (القصخونية) من أشرك فناً آخر في عمله وهو (قراءة المقام) فإنّ الغالبية لم تكن تفعل ذلك (فللمقام) خصوصية مقاهيه وجمهوره ومغنوه.. كان من هؤلاء (القصخونية) من بالغ بمسيرة وسيرة عنتر وقصة حبه الشهيرة مع عبلة مع ذكر لمخاوف اخيه الابله (شيبوب)، وما جرى له مع الاعداء ومع (محنته) في هيامه بعبلة، وكان القصخون يزيد من عندياته بالرغم من ان الرواة وتلفيقاتهم – عبر العصور- واشهرهم خلف الاحمر وحماد الراوية قد حملّت هذا الشاعر اكثر مما يحتمل، فهو – وكما يذكر المؤرخون الثقاة وكتب التاريخ المعتمدة والمراجع- لم يكن اكثر من شاعر، حتى انه كان (مُقلاً) في شعره وليس من المكثرين، ومن قصائده الشهيرة (المعلقة) ثم عدد من القصائد في الحب والفخر والشجاعة والشهامة، وقصته – ببساطة معروفة فلأنه كان (عبداً وأبن أمة) ولأنه غرابي (اسود اللون) فقد عانى الكثير من عنصرية عمه وعشيرته ونال الكثير من الاحباط في حبه لعبلة بعد ان رفضته العشيرة ورأت في هذا الحب والتشبث بعبلة خروجا على المألوف لذا فقد وقف عمه مانعاً صلباً لتحقيق أمل الزواج بمن يحب، وبالرغم من هذا (الرفض) الا ان (شهامة) عنتر كانت تدفعه دائما للدفاع عن (القبيلة) ضد أي غزو او اعتداء يقع عليها .
كان الجمهور اكثر ما يتفاعل مع حكايات عنتر وغزواته ومعاركه وايام احتدام هجماته على أحياء العرب او صده لهجمات المغيرين المعتدين، وقد عدّه بعض مؤرخي الادب من (اغرب العرب) لسواد لونه فأضافوا اسمه لمجموعة من الشعراء الصعاليك امثال السليك بن سلكة وطرفة بن اليعد والشنفري وتأبط شرا (واسمه ثابت بن جابر بن سفيان) وكانوا يطلقون عليهم اسم (الخلعاء او المخلوعين) فحينما كانت تزداد شرورهم وهجماتهم على احياء العرب والتصدي لقوافل اغنياء التجار مع سكرهم وتهتكهم واستباحتهم لدماء كثيرة، تقوم قبائلهم وعلى رؤوس الاشهاد بالاعلان عن (خلعهم) عن القبيلة، أي انها لم تعد مسؤولة عن حياتهم ولا تطالب بالثأر لهم عند مقتلهم، اما هؤلاء الشعراء فكانوا يرون في انفسهم حماة للضعفاء والفقراء والمضطهدين ضد ظلم الاسياد والمستبدين والظالمين، وانهم كانوا يوزعون ما يحصلون عليه من الاموال والغنائم بين العجزة والارامل والايتام ومهدوري الحقوق، وانهم كانوا يعطون كل ما يغنمون للمحتاجين ولا يحتفظون لانفسهم بشيء فلهم لهوهم وتشردهم ولياليهم المترعة بالخمر جماعات جماعات وفي تجوالهم في أودية الرمال والفيافي والقفار يعيشون ايامهم ولياليهم معزولين عن مجتمعهم مع وحوش الصحراء وحيوانات القفر بانتظار الاغارة على هذا الحي او ذاك..
القصخون كان عارفا بكل تفاصيل حياة (عنترة العبسي) مع (فكاهيات) اخيه شيبوب وابتلائه وحيرته ومخاوفه ونقل اخباره للقبيلة (ولزبيبة) العبدة الأمة ام الشاعر لعدم اعتراف الاب بأبوته له لأن أمه سوداء..
ومن طريف ما ترويه الاجيال عن (القصخون) ان انساناً بسيطاً ساذجاً كان عاملاً كادحاً مواجهاً (حرقة النورة) في (كور الجص)، وكان من أشد المحبين لعنتر ، المتعصبين (لبطولته وانتصاراته)، فبعد امسية قضاها وهو يستمع (لمدهشات) عنترة وصولاته وجولاته وكرّه وفرّه ثم احكام الاعداء لسيطرتهم عليه وأخذه سجيناً مكبلاً بالاغلال وادخاله السجن – وتوقف القصخون عند هذا الحد (فعنصر التشويق) والاثارة وما الذي سيحصل؟
كانت من الوسائل المهمة لنجاحه في حرفته، فهو كان يقدم حكاياته (بجرعات) وليس (بدفعة واحدة) تكشف وتنهي كل شيء- انتصف الليل واقفلت المقهى وغادر القصخون وكل الزبائن، ومعهم غادر ذلك العامل البائس الكادح البسيط الى داره يحمل فانوسه متعثراً بوحول الازقة، وصل داره وكان قلقاً مضطرباً مهموماً، ومع انه كان جائعاً فلم يشته ِ طعاماً، كيف يأكل ويطيب له عيشٌ، وعنترة في السجن والقيود؟!
اراد ان ينام، استعصى عليه النوم وظل ساهراً مؤرقاً، ازداد قلقه وحزنه وحينما ايقن انه لا يستطيع النوم وذلك (البطل) يهدر كالاسد في سجنه محاولاً تقطيع الاغلال المعدنية والافلات والهرب، عندها اندفع من فراشه، حاملاً فانوسه، ومع زخات المطر والدروب المزحلقة وصل لبيت (القصخون) طارقاً الباب بقوة، واجهه القصخون بغرابة زيارته، ألحّ عليه ان يُخرِج العبسي من السجن، ومهما حاول القصخون ان يقنعه بإنّ الامر صعب ويستغرق ساعات طويلة من القراءة بصفحات كثيرة وهو متعب يريد ان ينام، لم يقتنع ذلك الساذج بحجة القصخون وأغراه بدفع (مجيديات) مضاعفة، حينها رضخ الراوية للامر، وفي ضوء فانوس، كان الراوي يسرع في القراءة وكان الرجل عجلا في أمره، تواقاً للاسراع بأنقاذ بطله السجين، وبالرغم من سهر القصخون وإلحاح الرجل لأنقاذ فارسه، فإنّ عنترة لم يكسر ويفك قيوده ويتحرر من سجنه- في تلك الليلة الباردة، الاّ عند آذان الفجر واصوات الفجر وصياح الديك، وبعد ان عميت عينا الراوية بالرغم من نظارته من قراءة عشرات الصفحات من كتابه العتيق وكانت الكلمات والحروف تهتز متراقصة مع ضوء الفانوس الكليل..
اغلق القصخون كتابه وعاد الرجل سعيدا (يجرجر) فرحته ممتزجة بغبش الفجر متعثرة بحفر ماء وعثرات الازقة لينام بعدها هانئاً مطمئناً بعد ان انقذ وحرر فارسه الشجاع.
كان القصخون ينهل ما شاء من حكايات الاولين وما كان اكثرها، وكان اغلبها يمجد الخير ضد الشر وينتهي بهزيمة الاشرار، ثم انها كانت تصف وتوغل في دخائل النفوس وما فيها من محبة وتسامح مع الآخرين، لذا تنوعوا مع حكاياتهم فأضافوا لما فات قصة الملكة (شجرة الدرّ) ودهائها ومكائدها- وشجاعتها ومؤامراتها، ثم حكايات عن (الزيز سالم) و (الظاهر بيبرس) وبطولاته ومآثره وعن (أحمد بن طولون) وعن فترة حكم (المماليك البحرية) وتقلبات سياساتهم ومعاناة من كثرة حروبهم ودسائسهم وهم كانوا يذكرون مستمعيهم بفواجع الحروب ومآسيها وحرائقها وجوعها وضياع كل القيم النبيلة بسببها..
اذا اردنا ان نفسر سبب اقبال المستمعين وجلوسهم طائعين لسماع قصصه فسنكشف ان الجهل والتخلف والسذاجة وبساطة التفكير في العقول ومحدوديته، ثم العجز عن ممارسة ومعايشة الحياة بشكل واقعي وطبيعي، والفشل في مواجهة حقائق الحياة ومعقولية الاشياء بعيداً عن احكام العلم هي التي خلقت ذلك (القصخون) بديلا مخدراً لأحلام الناس وتمنياتهم والتي لم تجد لها تحقيقا على أرض الواقع.. اذن هو (التعويض) عن حالة الفشل التي كان يعانيها الناس في حياتهم اليومية وامورهم المعاشية في (التعويض) فضلاً عن ضيق النظر لأمور الحياة- كما هو مطلوب فعلا- واذا كانت (العنترية) لها القدح المعلى في رغبات المستمعين، فأن (ألف ليلة وليلة) ايضا كان لها جمهورها الاكثر هدوءًا وعقلانية وبُعداً عن الهياج، فهذه الروائية الشهيرة المبدعة (شهرزاد) اعتمدت (عنصر التشويق المثير) في حكاياتها- ليلة بعد ليلة- دون قطع لاشغال الملك (شهريار) وجعله ينسى محنته وفاجعته بخيانة زوجته له، ولأنّ الروائية بارعة في اطالة امر الليالي وتقديم الحكم والمواعظ وتجارب الحياة- بشكل غير مباشر – ومن خلال القص والحكي، لجعل ذلك الملك يتعظ ويتحرر من (عقدة الانتقام) من كل النساء بسبب خيانة امرأة واحدة هي زوجته وقتلهن واحدة بعد واحدة ليلة بعد ليلة ،فقد تحقق لها – بفضل الحكي الشفاهي اللذيذ- ما ارادت فأنقذت جنسها من الابادة بيد ذلك الملك الأبله المغفل والظالم.
القصخون لم يكن مؤرخاً بل ناقلاً للتاريخ والاساطير ببساطة وتلقائية، وهو لم يكن يهتم بالسياسة بقدر ما كان يرغب في استخلاص العبر من التاريخ ونوائب الدهر، وكان محايداً ينقل حالة المتصارعين كما هي، لذا نراه حينما (يتنزه) مع هارون الرشيد في عصره الذهبي ، سرعان ما ينتقل لنكبة البرامكة) فبعد ان قربهم الرشيد وصاروا من أكابر الوزراء والامراء والمستشارين في دولته (بل صاروا هم الدولة)، فتنعموا برغد العيش الباذخ والرفاهية والمجد وأبهة الحكم، وصاروا مضرباً للمثل في الكرم حتى صارت اعطياتهم وهداياهم للشعراء المداحين وللمقربين وذوي الحاجات توازي بل وتفوق احيانا اعطيات الرسيد جاءتهم (الضربة القاضية) على يد الرشيد بعد ان تجاوزا حدودهم المسموح بها، فتناثروا بين قتيل وسجين ومشرد تائه، وصاروا (أذلاء بعد عز)، وهذه النتيجة الاخيرة هي ما كان القصخون يركز عليها ليجعل منها (دروساً وعبراً لمستمعيه) بإنّ الدنيا لا أمان فيها وإنها (متقلبة) ما كرة خداعة غادرة، لذا وجب الحذر منها وعدم الاطمئنان اليها والحذر من (تصاريف الزمان) .
اما اشهر قراء (العنترية) في الموصل فهم: السيد سعيد السيد مجيد، وكان يقرأ (العنترية وفتوح الشام) في دار الحاج عزيز الاسومة في محلة الشيخ فتحي وكانت عادة جارية ان يستضيف وجهاء القوم والميسرون هؤلاء القصخونية لقاء مكافآت وهدايا مجزية، والحاج حامد السيد علي وكان يقرأ قرب جامع الشيخ محمد الملحم في محلة الشيخ فتحي، ومن مشاهير القراء محمد النجم في مقهى سوق الصفير وملا يوسف كان مراقب بلدية ويقرأ في مقهى في محلة النبي جرجيس وملا حامد وكان مكانه المفضل مقهى صفو في باب الجديد، ومن المشاهير ايضا ملا جرجيس وملا صالح وقراء مقهى علي في باب الجديد اضافة لقراء مقهى السويدي في محلة المكاوي وكما كان هناك مدمنون على السينما في خمسينيات الموصل ممن لا يكتفون بمشاهدة الفلم مرة واحدة بل مرات عديدة، فقد كان في اربعينيات الموصل مدمنون على سماع العنترية فهم من (السميعة) الجيدين المتنقلين بين المقاهي لسماع اكثر من (قصخون)، ومن اشهر هؤلاء مجو العلوان و محمد البيراوي. وكان البيراوي اضافة لإدمانه العنترية- هو نفسه قارئاً ولكن في اختصاص اقاصيص البدو وذكر مناقبهم ومحاسنهم وتحليهم بروح الفروسية والشجاعة والكرم.
حناناً ايها (القصخون) المبجل وقد ودعت ورحلت عن كل الدنيا، ولم يبق من صوتك القوي الصارخ و (سيفك الخشبي) وحكاياتك الدافئة اللذيذة غير (نتف) ظلت عالقة في ذاكرة اعداد قليلة من شيوخ متعبين عاجزين عن مواصلة الحياة بهمومهم وامراضهم ومواجعهم يروونها ، بحزن ، لأولادهم واحفادهم معبرين عن حياتهم التي عاشوها وتحملوها والتي تبدو غريبة غير مفهومة في اسماع هؤلاء الابناء الاحفاد.. وإيه مقاهي الثوب و الجسر العتيق و عبو قديح ومقاهي الميدان والقليعات وعبدو خوب) و الثلمي و المياسة و حمام المنقوشة و باب البيض و الأحمدية و باب لكش و الخزرج وشيخ ابو العلا ، وكل مقهى نُصب فيها كرسي عالٍ لقصخون، وكان آخرها مقاهي الدواسة التي كانت آخر حدود المدينة من جهتها الجنوبية والتي نبعت في مطلع الخمسينيات لترفع (كرسي) لقصخون وتستبدله (بغرامافون) ثم (راديو) وبعده مسجلات لا صوت فيها لقصخون ولا (سعوط) (نراجيل) و (سماورات). مبانٍ عصرية لمقاهي الدواسة واغان واخبار واحداث الدنيا الواقعية يوماً بيوم وساعة بعد ساعة .
إيه أيها القصخون فناناً أمتع جمهوره في أقسى سنوات الوحشية والعزلة والحروب والمجاعات ووباء الطاعون والكوليرا والفيضانات المدمرة المهلكة.. إيه لذلك الجمهور وأولئك الناس الذين ان كانوا قد افتقدوا حياة عصرية متقدمة، فانهم لم يفتقدوا ذلك الصدق وتلك البراءة والنقاء في التعامل مع الحياة ومع الآخرين.
من مجلة التراث الشعبي