جلست مع بعض الأصحاب، في ليلة حالكة الجلباب، ماؤها جامد، وهواؤها بارد، وطلها متناثر، والماشي بها في ذيله عاثر. نجري ذكر أهل البراعة، ونعد مناقب فرسان أهل اليراعة، ونورد أخبار أرباب اللسن، ونروي عنهم كل حديث حسن:
قوم بهم شرف الزمان، كلامهم ... شرك النفوس وعقلة الأحداق
أشخاص صرفت، ولكن ذكرهم ... أبداً على مرّ الليالي باقي
فبينا نحن نجول في ميدان المحاضرة، ونحقق النظر في وجوهها الناضرة، والليل قد روق، وشراب المنادمة مروق، لمحت في المجلس شمعة، وقفت في الخدمة وأجرت الدمعة، جسمها نحيل، ومحيّاها جميل، قامتها قويمة، ودرّة تاجها يتيمة. تحرقها أنفاسها، ويوبقها نبراسها. كاسية عارية، تخجل بضوئها الجارية:
مفتولة مجدولة ... تحكي لنا قد الأسل
كأنها عمر الفتى ... والنار فيها كالأجل
أو نبل نصله ذهب، أو حية لسانها لهب، أو وردة على قضيب، أو محب أسهره بعد الحبيب، أو لينوفرة، أو سبيكة معصفرة، أو غرة في وجه أدهم السدف، أو كوكب أرخى ذؤابته ثم وقف:
أو ضرة خلقت للشمس حاسدة ... فكلما حجبت قامت تحاكيها
يخوض في لجة الدمع طرفها القريح، وتلعب بلهب قلبها الجريح يد الريح، فتطلعه نجماً، وترسله سهماً، وتحركه لساناً، وتنشره طيلساناً، وتضربه ديناراً، وتصيره جلناراً، وتصوره سوسناً،وتصوغه إكليلاً تبره ذو سناً، وتعطفه كالهلال السافر، وتنصبه أذن جواد نافر، وترفعه كالسنان، وتقيمه أنملة في بنان، وتبسطه كالمنديل، وتميله سلسلة قنديل، وتخطه ألفاً مستقيماً، وترسمه نوناً أو جيماً. واستمرت مولعة بشخصها، ساعيةً في نقضها و نقصها، حتى فني عمرها، وانفصل أمرها، وانحل عقدها، وعز على الجماعة فقدها:
وقد فارق الناس الأحبة قبلنا ... وأعيا دواء الموت كل طبيب
وكان في المجلس كانون، يلقي فيه العود بغير قانون، يضم ناراً ذات لهب، له شرر شذره من ذهب، همتها علية، ومرآتها جلية. تعلو على الرماح في المواكب، وتزاحم الكواكب بالمناكب. فاكهتها في الشتاء محبوبة، وأعلامها للاصطلاء منصوبة، وهي بقضيب الأبنوس لا بجزل الغضا مشبوبة:
كلما رفرف النسيم عليها ... رقصت في غلالةٍ حمراء
كأنها سبجُ على مرجان، أو زنجية بكفها كرة عقيان، أو شمس محجوبة بالغمام، أو ورد تبسم من خلال الكمام:
أو أشقرُ مطهم ... يموج تحت العثير
أو غادة قد ضمخت ... وجنتها بالعنبر
يهتم بها أقوام، هم واسطة عقد الأنام، كريمةُ أحسابهم، مفتوحة للوفود أبوابهم، يمتطون ذروة كل محبوك القرا ويبسطون موائد الفوائد والقرى:
إذا ضل عنهم ضيفهم رفعوا له ... من النار في الظلماء ألويةً حمرا
فلم تزل تضطرم، وتستعر وتحتدم، إلى أن خمد لظى جمرها، وغاض ماء شررها وشرها، واضطجعت في مهادها، تحكي تحت غطاء رمادها:
دماً جرى من فواختٍ ذبحت ... عليه من ريشهن منشور
فراقني ما شاهدت من حالهما، وأمعنت النظر في منقلبهما ومآلهما، وقمت من شكر المنعم بأداء الفرض، وقلت بلسان التعظيم: " الله نور السموات والأرض " ثم إن الصحب مالوا إلى الكرى، وطال عليهم - مع كونهم جلوساً - شقة السرى، فوثبنا لاقتفاء أثر ما تقر عين الهاجع، وسألنا الحي القيوم أن يجعلنا من الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع.