كان موقف الإمام الجواد (عليه السَّلام) من أصعب الواقف التي تقتضي المحافظة على الكيان الإسلامي، والصمود واليقظة وتوعية المسلمين من خطط الأعداء الذين اتخذوا جانب اللين والمراوغة والدهاء في القضاء على الوعي الإسلامي. لقد ولد الإمام (عليه السَّلام) في ليلة الجمعة العاشر من رجب 195هـ وفي ذلك ورد النص: (اللهم إني أسألك بالمولودين في رجب محمد بن علي الثاني، وابنه علي بن محمد المنتخب)، والإمام الجواد هو محمد بن علي المكنى بأبي جعفر الثاني، وأبو جعفر الأول هو الإمام الباقر (عليه السَّلام) وعلي بنمحمد هو الإمام الهادي (عليه السَّلام) المكنى بأبي الحسن الثالث فإنه ولد في شهر رجب أيضاً. فميلاد الإمامين عليهما السَّلام كان في شهر واحد ولما دس المأمون السم عام 202هـ للإمام الرضا (عليه السَّلام)، كان المأمون الداهية هو أول من لبس العزاء على الإمام ليوهم المجتمع الإسلامي ببراءته من دم الإمام (عليه السَّلام)، ومن ناحية أُخرى خشي المأمون أن يثور ابنه الجواد في المدينة، فخطط الداهية باستدعائه إلى بغداد وجعله تحت الرقابة العباسية، وزاد الرقابة بعرضه الزواج من ابنته، ورأى الإمام (عليه السَّلام) أن في ذلك مصلحة للإسلام والمسلمين حيث لم تجتمع شروط القيام، وفي نفس الوقت وفي مختلف المناسبات كان الإمام (عليه السَّلام) يفضح خططهم بالطرق المتيسرة آنذاك، كما لا يخفى على المتأمل في سيرته، وإن خفيت هذه الخطط على بعض المؤرخين أيضاً.
قال في أعلام الورى: (كان المأمون مشغوفاً به لما رأى من علو مرتبته وعظم قدمه في جميع الفضائل وزوجه بنته، وكان متوفراً على إعظامه وتوقيره وتبجيله - إلى أن قال - فلما بلغ ذلك العباسيين غضبوا عليه وخافوا أن ينهي الأمر معه إلى ما انتهى إليه مع الرضا، واجتمع إليه منهم أهل بيته الأدنون منه وحاولوا صرفه عن ذلك ولكن المأمون أصر على ذلك).
قال السيد الأمين نقلاً عن تاريخ بيهق أن (التقي - يعني الإمام الجواد (عليه السَّلام) عبر البحر من طريق طبس مسينان لأن طريق قومس لم يكن مسلوكاً في ذلك الوقت جاء من ناحية بيهق ونزل في قرية ششتمد وذهب من هناك إلى زيارة أبيه علي بن موسى الرضا (عليه السَّلام) سنة 202هـ) ثم قال السيد الأمين إن هذا يقتضي أنه حضر لزيارة أبيه في حياته سنة موته أو قبلها بسنة أو لزيارة قبره بعد موته للخلاف الواقع في عام وفاته أنه سنة 202 أو 203هـ.


إمامته
وصفه الشيخ المفيد بقوله: (وكان الإمام بعد الرضا (عليه السَّلام) بالنص عليه والإشارة من أبيه وتكامل الفضل فيه)، (الإرشاد/263)، فإن الإمامة والقيادة في الإسلام إنما تثبت لمن اجتمعت فيه مؤهلاتها من دون أي اعتبار للعادات والتقاليد الجاهلية، كالنسب والعرق والعمر وما شابه. وقد حاول المرجفون التشكيك في إمامة الإمام (عليه السَّلام) استناداً إلى بعض العادات والأعراف التي لا توجد في الإسلام بل صبغوها بصبغة دينية، ومن ذلك التشكيك من ناحية العمر (ولا بد) من الإشارة إلى ناحيتين عقلية وفقهية:
أولاً: فإن القيادة إنما يستحقها من اجتمعت فيه مؤهلاتها من العلم والقدرة على التطبيق ومسألة العمر لا قيمة لها إطلاقاً. لذلك نجد الرسول القائد (صلّى الله عليه وآله) يأمر على جيش الإسلام صبياً مثل أُسامة بن زيد، وبالرغم من محاولة بعض الصحابة التنقيص منه بسبب صغره في العمر، أكد النبي قائلاً: (أنفذوا جيش أُسامة لعن الله من تخلف عن جيش أُسامة) مؤكداً على هؤلاء المعارضين وهم أكبر في العمر من أُسامة أن يتبعوه. وحتى الدعوة الإسلامية في بدايتها لم تسلم من هذا الاتهام فقد عارضها المشركون على أنها (صبوة) أي دعوة صبيان ولقبوا المسلم بالمتصابي، وكان أول من أسلم من الرجال علي بن أبي طالب (عليه السَّلام) وكان صبياً في التاسعة من عمره، فالنبي (صلّى الله عليه وآله) بسيرته وسنته العملية هدم كل المفاهيم التي يعتمد عليها المشركون والتي تعتمد على المؤهلات الجاهلية.
والإمام الجواد (عليه السَّلام) قد تربى في مدرسة النبوة ورضع من ثدي الإيمان وورث العلم من أبيه وكتبه، فهو خريج مدرسة الإمام الرضا (عليه السَّلام)، وقد وجد أهم مؤهلات القيادة ألا وهو العلم، وهذا السبب الرئيسي في محاولة الطغاة لتغيير مسيرته وتحريفها، وقد قام الإمام (عليه السَّلام) بقدر ما تقتضيه مصلحة الإسلام والمسلمين ببيانها في المناسبات.
ثانياً: إن النصوص الشرعية في صلاحية القيادة لمن يستحقها تم دون اعتبار العمر ويكفينا ما قاله الله تعالى في يحيى: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً)[سورة مريم: الآية12].
فنجد بوضوح أن القرآن لا يعتبر مسألة العمر والشيخوخة والأعراف الجاهلية وإن الحكم لمن يستحقه ولو كان صبياً، وقال الله تعالى أيضاً عن عيسى الذي تكلم بالمهد قائلاً: (إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً)[سورة مريم: الآية30].
أليست النبوة أعظم من الإمامة وقد حصلت بالنسبة للنبوة وفي سن المهد أفلا تحصل للإمامة؟ وقد ذكر القرآن الكريم أنه (عليه السَّلام) تكلم في المهد، قال سبحانه: (ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين)[آل عمران: اآية46].
وقال: (إذ أيدتك بروع القدس تكلم الناس في المهد وكهلا)[سورة المائدة: الآية110].
وفي هذه الآيات نكتة بديعة غفل عنها المفسرون وهي أن المراد من الكلام ليس فقط المحادثة وإنما هو تحمل المسؤولية الرسالية وذلك لأن الله جعل الكلام في المهد مساوياً للكلام في الكهولة، والمقصود هنا أن الرسالة التي يتحملها واحدة في حالتي الصباوة والكهولة لا تفترق هذه الرسالة لأنها نابعة من مصدر إلهي واحد، (هذا) بالإضافة إلى النصوص الكثيرة المروية في إمامته (عليه السَّلام) وقد رواها الكافي (1/321) منها بإسناده عن الإمام الرضا (عليه السَّلام) بقوله: (هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيرته في مكاني)، (وأنا أهل بيت يتوارث أصاغرنا من أكابرنا القذة بالقذة)، وبإسناده عن الخيراتي قال: كنت واقفاً بين يدي أبي الحسن (عليه السَّلام) بخراسان فقال له قائل: يا سيدي، إذا كان كائن فإلى من؟ قال: إلى أبي جعفر ابني، فاستصغر القائل سن أبي جعفر (عليه السَّلام). فقال أبو الحسن (عليه السَّلام): إن الله تبارك وتعالى بعث عيسى بن مريم رسولاً ونبياً صاحب شريعة مبتدأة بأصغر من السن الذي فيه أبو جعفر (عليه السَّلام)، (الكافي 1/322).


تراث الإمام (عليه السَّلام)
كانت السلطة العباسية بتخطيط المأمون وبواسطة عملائها يحاولون مضايقة الإمام (عليه السَّلام) بكثرة الأسئلة له (عليه السَّلام) في مختلف المناسبات، كي يأخذوا نقطة ضعف منه (عليه السَّلام)، وقد رووا أن المأمون عقد الكثير من الاجتماعات والمناسبات لهذا الغرض ولم يكن خافياً على أحد كما لم يكن الإمام (عليه السَّلام) غافلاً عن الغرض من هذه الاجتماعات ولكنه (عليه السَّلام) كان يدفعها بالتي هي أحسن.
روى ابن حجر (أنه لما عزم المأمون على تزويجه بنته أم الفضل وصمم على ذلك منعه العباسيون خوفاً من أن يعهد إليه كما عهد إلى أبيه، ولما ذكر لهم إنه إنما لتميزه على كل أهل الفضل علماً ومعرفة مع صغر سنه فتنازعوا في ذلك، ثم تواعدوا أن يرسلوا إليه من يختبره، وأرسلوا إليه يحيى بن أكثم ووعدوه بشيء كثير وحضر معه خواص الدولة، فأمر المأمون بفرش لمحمد (عليه السَّلام) فجلس عليه فسأله يحيى عن مسائل أجاب عنها بأحسن جواب - إلى أن يقول - ثم زوجه بنته... الخ).
وروى الطبرسي في الاحتجاج (ص240) رواية مشابهة عن الريان بن شبيب وهو خال المعتصم العباسي والتأمل في الرواية يفيد أن المخطط الأول لهذه الاجتماعات كان المأمون نفسه بالرغم من محاولته نسبة الدعوة إلى أفراد في المجتمع غيره وقد ذكره الطبرسي في مختلف الروايات بهذه المحادثات، وسنكتفي بطرح بعضها.
قال يحيى بن أكثم: ما تقول يا بن رسول الله في الخبر الذي روي أنه: نزل جبريل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (يا محمد إن الله عز وجل يقرأك السَّلام ويقول لك: سل أبا بكر هل هو عني راضٍ فإني عنه راضٍ).
فقال الإمام الجواد (عليه السَّلام): (لست بمنكر فضل أبي بكر، ولكن يجب على صاحب هذه الخبر أن يأتي مثال الخبر الذي قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في حجة الدواع: (قد كثرت عليَّ الكذابة وستكثر بعدي فمن كذب عليَّ متعمداً فليتوبأ مقعده من النار فإذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب الله وسنتي فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به، وما خالف كتاب الله فلا تأخذوا به، وليس موافق هذا الخبر كتاب الله)، قال تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)[سورة ق: الآية 16]، أُخفي على الله عز وجل رضا أبي بكر من سخطه حتى يسأل من مكنون سره، وقد أكثر يحيى بن أكثم من هذه الأسئلة التي كان يقصد منها تفريق كلمة المسلمين، وكان الإمام (عليه السَّلام) يجيبه بما يقتضيه المنطق العلمي للمحافظة على الوحدة ويخطئه في الدعوى والهدف، وفي النهاية أراد الإمام الجواد (عليه السَّلام) أن يبين له وللجمهور أن المرتزقة من الحكام ليسوا إلا آلة بأيديهم وإنهم بعيدون عن أُصول العلم وفي نفس الوقت كشف للمأمون أهدافه في تفريق كلمة المسلمين لما طلب من الإمام (عليه السَّلام) أن يناقض ابن أكثم فسأله الإمام مسائل فقهية ليبين مدى ارتباطهم بالسلطة ولم يتعرض الإمام لأية مسألة عقائدية تمس وحدة المسلمين.
فقال المأمون: أحسنت يا أبا جعفر، أحسن الله إليك فإن رأيت أن تسأل يحيى في مسألة كما سألك.
فقال أبو جعفر ليحيى أسألك؟ (وأراد الإمام أن يبين أدب الإسلام وذلك بالاستئذان منه)، قال: (ابن أكثم): ذلك إليك جعلت فداك...
فقال الإمام (عليه السَّلام): أخبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أول النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع النهار حلت له، فلما زالت الشمس حرمت عليه فلما كان وقت العصر حلت له فلما كانت الشمس حرمت عليه، فلما دخل وقت العشاء الآخرة حلت له فلما كان وقت انتصاف الليل حرمت عليه، فلما طلع الفجر حلت له، ما حال هذه المرأة ولم حلت له وحرمت عليه؟.
فقال له يحيى بن أكثم: لا والله لا أهتدي إلى جواب هذا السؤال ولا أعرف الوجه فيه فإن رأيت أن تفيدنا.
فقال أبو جعفر (عليه السَّلام): هذه أمة لرجل من الناس نظر إليها في أول النهار فكانت نظرته لها حراماً عليه، فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلت له فلما كان عند الظهر أعتقها فحرمت عليه، فلما كان وقت العصر تزوجها فحلت له، فلما كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه، فلما كان وقت العشاء الآخرة كفر عن الظهارة فحلت له فلما كان نصف الليل طلقها واحدة فحرمت عليه، فلما كان عند الفجر راجعها فحلت له.
قال: فأقبل المأمون على من حضر من أهل بيته، وقال لهم: فيما قال - ويحكم أن أهل هذا البيت خصوا من الخلق بما ترون من الفضل.... إلى آخر كلامه.


من أقواله (عليه السَّلام)
- المؤمن يحتاج إلى ثلاث خصال: توفيق من الله، وواعظ من نفسه، وقبول ممن ينصحه.
- توسد الصبر، واعتنق الفقر، وارفض الشهوات، وخالف الهوس، واعلم بأنك لم تخل من عين الله فانظر أين تكون.
- لا تعادِ أحداً حتى تعرف الذين بينه وبين الله تعالى فإن كان محسناً فإنه لا يسلمه إليك وإن كان مسيئاً فإن علمك له يكفيه فلا تعاده.
- من عمل بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح.
- كفى بالمرء خيانة أن يكون أميناً للخونة.
- راكب الشهوات لا تستقال له عثرة.
- العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء.
- إن يوم العدل على الظالم أشد من يوم الجور على المظلوم.
- إن العلماء غرباء لكثرة الجهال بينهم.
- لن يستكمل العبد حقيقة الإيمان حتى يؤثر دينه على شهوته.
- موت الإنسان بالذنوب أكثر من موته بالأجل.

وفاة الإمام (عليه السَّلام):
كان المأمون يسير في سياسته مع العلويين وكان الإمام يفضح خططه، ففي كل مناسبة متاحة كان الإمام (عليه السَّلام) يصر على الرجوع إلى وطنه المدينة المنورة والمأمون يمتنع. وفي إحدى مناسبات الحج وافق المأمون أن يحج الإمام (عليه السَّلام) بشرط أن يصحب معه زوجته أم الفضل، وطبيعي أن المأمون أراد فرض الرقابة الداخلية على الإمام (عليه السَّلام)، وتوجه المأمون إلى طرطوس وتوفي بها في يوم الخميس 16 رجب 216هـ وبويع بعده أخوه المعتصم العباسي، فأحضر المعتصم العباسي الإمام (عليه السَّلام) إلى بغداد من جديد، ويقول المسعودي: (ولم يزل المعتصم وجعفر بن المأمون يدبران الحيلة لقتله) فإذا كان الإِمام قد رجع إلى وطنه عام 216 فقد ورد أنه (عليه السَّلام) رجع إلى بغداد في 8 من محرم 220هـ، وتوفي (عليه السَّلام) في ذي القعدة من نفس العام، ويعني ذلك أنه (عليه السَّلام) توفي بعد تسعة أشهر من رجوعه.