ما أن يتولى القاضي العملية القضائية الشاقةحتى يكون هاجسه الأوحد في الحقيقة هو التعرف الى حكم النص من خلال تحليل الفاظهودلالاته وبيان مقاصده وتهيئة النص ليكون ملائماً في احتواء واقعة النزاع المعروضةفوق منصته القضائية الشريفة وبهذا الوصف يظهر لنا جلياً أن القاضي ليس إلا مشرعاًثانياً ينضم الى المشرع الأول الذي صاغ القانون ومضى ، وترك للقاضي المهمة الصعبةوالمرهقة في استنباط الحكم واعمال الفكر واستدراك الفائت.ويكون القاضي هوالذي يبعث الحياة في القانون ويجعله يعيش وينمو ويتطور ويصقله ويهذبه بجعله ينطبعبطابع العصر والحداثة ويستوعب التطور الهائل المتسارع في الحياة المعاصرة، ويطاوعهكحداد بارع عندما يحاكي الفن والجمال بالحديد الصماء ليكون صالحاً للتطبيق في كلزمانه ومكانه، بدلاً من المنادات بتعديل النصوص بحجة أن المعاني الظاهرة منها لاتساير العصر، أو لا تلبي الطموح، أو تلحق هذه النصوص الإجحاف بالحقوق، وبهذهالشمولية فإن القاضي ملزم بإعتباره ظل الله في الأرض في تحقيق العدل والإنصاف، وإيصالالحقوق ، ومجانبة الباطل ودحضه ومحاربة الظلم ورد العدوان، لأنه وإن كان يسهر علىالتطبيق السليم للقانون فهو يسهر بدرجة أكبر وهمة أعظم على تحقيق العدل بعدم وقوفهعند حرفية النص ومعناه الظاهر، ويبحث بعلمه ومواهبه الرحمانية عن روح التشريعلإستخلاص الحكم الملائم والملازم للواقعة أو الحادثة.ومن خلال هذاالإستعراض المقتضب السريع لجزء يسير من معاناة القاضي الفكرية والمهنية لغرضالوصول الى العدالة في حكمه قدر المستطاع ، ومن أجل ذلك من هذا المنبر الحر أطرقأبواب الفكر بهذين المقترحين:-الأول : لما كانالقاضي هو الذي يطور القاعدة القانونية بعمله وعلمه اليومي الدؤوب فمن واجب المشرعمنحه قدراً أوسع في مجال الإجتهاد وذلك بإتباع اسلوب الكُلّيّة والعموم في الصياغةالفنية للقانون وعدم النزول الى ذكر التفصيلات والجزئيات بحيث يتسع للقاضي مجالالتأويل والتفسير مما يجعل النص صالحاً للتطبيق في كل وقت وبالتالي لا يضطر المشرعمن اللجوء الى اسلوب تعديل القانون ، أو إصدار تعليمات لتسهيل تنفيذه.الثاني : نتبنىالرأي الذي يدعو الى النظر الى التشريع نظرة موضوعية بحته بحيث يجري تفسيرهوتأويله في ذاته ، على اعتبار انه ينطوي على الإرادة الذاتية الخاصة به مستقل عنإرادة واضعيه ومصادره التأريخية ، أي إستخلاص المعنى والحكم ذاتياً من خلال ربطالنصوص بعضها ببعض، أو النظر الى الغاية أو المعنى أو المصلحة التي يراد تحقيقها لأنغاية التشريع إشباع حاجات معنية.فمثلاً حين يواجهالقاضي نصاً غامضاً أو نقصاً فمن المفيد في سبيل بيان حكم القانون بروحية العدلالرجوع الى المبدأ القانوني العام لإزالة الغموض ورفع النقص ، أو أنه يرجع الى روحالتشريع ومقاصده."مواهب القاضي"
ثائر جمال الونداوي
قاضي و باحث
&&&&&&&&&&