احكام المعاملات في الفقه الاسلامي
جاءت رسالة الدين الاسلامي لصلاح البشرية من خلال نظرته الخاصة في مجالات اربعة: العقيدة, الاخلاق, العبادات, والمعاملات. تعاليم الاسلام في المجالات الثلاثة الاولى لاتتغير بتغير الازمان. اما تعاليمه في مجال المعاملات, فهي تعاليم اجتماعية تتوخى صلاح المجتمع فالدين الاسلامي اضافة لكونه رسالة سماوية فانه احدث ثورة حضارية امتزجت بكل نواحي الحياة , ففجر الدين الجديد طاقات الناس ووضعهم على طريق الحضارة. لذلك فقد ارتبط بما يكون عليه الناس, وبما تكون عليه ظروف حياتهم التي يعايشونها. وهذه الظروف هي بالضرورة متغيرة من زمن الى زمن يليه, وهي ظروف متغيرة من مجتمع الى مجتمع غيره. لهذا وجدنا ان الامام (الشافعي) كانت له آراءه في معاملات عرضت عليه حين سكن العراق, فلما رحل الى مصر كانت له آراء غيرها في ذات المعاملات التي طرح فيها آراءه حين كان في العراق. ولم يكن هذا الاختلاف الا لأختلاف اوضاع العراق عن اوضاع مصر في العصر ذاته والزمان ذاته. وهذا هو موقف الفقيه المجتهد الذي يتحمل مسؤوليته بأمانة وبصيرة وشجاعة في كل زمان وفي كل مكان.
وقد اخطأ بعض الفقهاء حين مزجوا بين العبادات والمعاملات واعتبروهما شيئا واحدا, دون ان يلاحظوا عدم وجود علاقة بينهما, لا في الموضوع, ولا في الغاية. فالعبادات هي الواجبات الدينية المفروضة على الناس اتجاه الله تعالى وهذه الواجبات ثابتة لا تتعرض للتغيير او التبديل مهما تغيرت الظروف والاماكن والازمنة. اما المعاملات فهي مجموعة القواعد والاحكام التي تفرض على الناس لتمشية علاقاتهم الاجتماعية , وهذه العلاقات – كما لايخفى عليكم – هي علاقات متغيرة , تتغير تبعا لتغير المجتمعات وتطور الحاجات الانسانية . وهذا التغير والتطور لايقف عند حد ما دام المجتمع يخلق يوميا حاجات جديدة كلما مر بعمليات النمو والتطور والازدهار .
لذلك فأن الخلط بين العبادات والمعاملات واعتبارالاخيرة من احكام الدين , ادى الى انقسام الناس بشأنها الى مذاهب مختلفة , متباينة , وجاء المشرعون ليستمدوا من تلك المذاهب احكاما لقوانين الاحوال الشخصية مستندين لأجتهادات الفقهاء الذين خلطوا بين احكام العبادات واحكام المعاملات , ولهذا جاءت تلك القوانين قاصرة عن تلبية حاجات التطور . فوقع الكثيرون في وهم مفاده ان كل اجتهاد في تعديل تلك القوانين وفقا لروح العصر , ومتطلبات التطور وتغير الحاجات الانسانية , يعد خروجا عن دين الاسلام .
من هذا المدخل اود ان اصل بالقارىء الكريم لموضوع احكام الزواج .
المرأة قبل بزوغ فجر الاسلام , كانت ( كالرقيق ) تخضع لولاية اسرتها طيلة حياتها , فهي تحت ولاية ابيها , فان مات فوليها احد عصباتها من الذكور , فأذا تزوجت فوليها زوجها . وكان لوليها قبل ان تتزوج ان يحرمها من الزواج ان شاء , أو أن يزوجها لمن شاء , ويقبض ( ثمنها ) وهو ( ما اطلق عليه مهرها ) , ليتصرف به كما يشاء لأن ذلك ( المهر ) ما هو الا ( ثمنها ) . وقد يكون المهرلايدفع نقدا بل يكون لقاء الزواج بمعاوضة أمرأة بامرأة وهو زواج ( الشغار ) او ما يسمى محليا ( زواج الكصة بكصة ) . وحين هل نور الاسلام اعتبر المرأة :
انسانا , كما ان الرجل انسان , لذلك لابد من رضاها عند الزواج .
لم يعتبر الاسلام المهر ثمنا للمرأة , بل هدية تهدى لها .
حرم الاسلام زواج الشغار , اي مقايضة امرأة بأمرأة اخرى .
لم يعتبر الاسلام المهر الزاميا واساسا للزواج , بدليل ان النبي
( ص ) قال لرجل اراد الزواج (( التمس ..... ولو خاتما من
حديد )) . وزوج ( ص ) رجلا من امرأة دون صداق . وزوج آخر ليس معه مهر ولكنه يحفظ بعض سور القرآن الكريم فقال له :
(( اذهب فقد زوجتك اياها بما معك من سور القرآن . )) . ولهذا لم يعد الزواج عقدا اذ فقد ركنين اساسيين من اركان العقد , اذ ان العقد يجب ان يكون له ( محل ) والزواج لامحل له لأن المرأة احد طرفيه , وليست هي المعقود عليه , ثم ان المهر ما هو الا( هدية ) . ولهذا نجد ان المرحوم الدكتور عبد الرزاق السنهوري كتب :
((لايجوز ان يطلق على الزواج عقدا لأنه لا يتضمن التزاما ماليا كما هو الحال في نطاق العقود الخاصة , وقد احسن من سمى هذا الاتفاق , كتابا . )) .
اذا فأن الشريعة الاسلامية لم تشرع المهر , بل هو من اصول الجاهلية قبل بزوغ فجر الاسلام , اذ كان من اعرافها , حين كان الرجل يشتري المرأة من اهلها ويدفع لهم ثمنها . فترسخت هذه الاعراف في اذهان الناس , واستند لها الفقهاء فكانت من اجتهاداتهم , وقالوا بلزوم المهر في الزواج وهو كما بينا غير لازم , اذ هو من آثارالزواج لا من اركانه والدليل ان لابطلان لأرادة من اتفق على الزواج دون مهر. واذا كان الناس يتمسكون بعادة المهر , بل ويبالغون فيه , فأن ذلك يعود بالدرجة الاولى لأن الفقهاء لم يكن في آرائهم ما يدرأ الضرر عن المرأة الذي يمكن ان تتعرض له حين يكون الرجل متعسفا في طلاقها .
ولهذا اخطأ مشرع قانون الاحوال الشخصية العراقي رقم ( 188 ) لسنة 1959 حين اعتبرأن الزواج عقد , كما اخطأ مرة اخرى حين اقحم ( النسل ) في تعريف الزواج , اذ ان ( النسل ) مما لايصح الاتفاق عليه , فقد لاتكون غاية الزواج ( النسل ) كزواج رجل من امرأة دخلت سن اليأس , او كان احد الزوجين عقيما ,فأن لم ينجبا فأن ذلك لايؤدي لبطلان الزواج . كما اخطأ مرة ثالثة حين فرق بين المهر والهدايا ولم يعتبر المهر هدية .
اخيرا ايها القارىء الكريم ان اعتبار المعاملات من الدين ما هو الا وهم لا اساس له في احكام الشريعة الاسلامية . فتلك المعاملات ليست ثابتة كما هو الحال في العبادات . ومن مزج بينهما واعتبر المعاملات من الامور الشرعية التي لايدرك العقل الانساني حكمتها واعتبرها ثابتة لاتتغير , فقد جانب الصواب .
الا ان هذا لايعني بأي حال من الاحوال ان ننزع عن المعاملات وجوب احساس الانسان بالجو العام للعبادات حين يتعامل مع الاخرين . اذ يجب ان يظل الانسان مرتبطا في معاملاته بروح الدين . لانه ان افلت من عقاب القانون , فأنه لن يفلت من حساب الاخلاق او الضمير , او من حساب ربه . اذ ان للعبادة معناها الخاص المتمثل بالصلاة والصوم والزكاة والحج , كما لها معناها العام المتمثل بالعقيدة والاخلاق , فروح العبادة ينبغي ان تترسخ في ضمير المؤمن في كل اعماله (( اتق الله كأنك تراه, فأن لم تكن تراه فأنه يراك ..... ))