الإ مام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) ملهمالكيمياء
بسم الله الرحمن الرحيم
توجه الإنسان في عصرنا الحاضر، إلى ميدان العمل مصمِّماً على اجتياز المراحل العسيرة للوصول إلى رحاب المعرفة التي تجرّده من الأوهام المضلِّلة والأفكار الرديئة، وتنقله إلى الواقعية المجردة والحقيقة الناصعة.
فما أحرى بنا أن ننضم إلى ركب هذا الإنسان المتطور السائر بخُطى سريعة نحو الحياة الأفضل للتغلب على استبداد الأقدار، واستعباد الأفكار، وإبعاد الخرافات، والرجوع إلى أصدق الروايات لنأخذ منها الدروس والعبر متجنبين الانزلاق في المهاوي السحيقة التي طالما أهلكت الحرث والنسل. فنحن في عالم تغلي مراجله بالحقد والكراهية، والانقسام والتعصب، وعلينا أن نقلع عن كل ما يُبعدنا عن المحبة والصدق والتعاون والسلام.
هذه الكلمات الموجزة استوحيتها من تعاليم الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) الذي يستحق إحياء ذكراه والانتقال إلى عصره المتقلب المتجهم لنشاهد الأحداث والوقائع، ونشهد ببراءة على العباسين كيف سرقوا الخلافة من أبناء عمومتهم، ثم قبضوا على ناصيتها بالقوة، وقتلوا كل من تصدّى للخلافة حتى ولو كان من أحفاد الرسول الكريم.
أمّا الإمام الصادق (عليه السلام) فساعده حسه وشعوره وعقله الراجح في تلك الفترة الحاسمة على اجتياز أقسى مرحلةٍ تاريخية.
يعتبر الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) صاحب مدرسة فكرية كبرى كان لها وجود عالمي وفضل كبير على الإسلام. فهذا الإمام طلب الحكمة وسعى لاكتناه الحياة ومثل أسرارها وغاص على عميق معانيها وفجّر الينابيع الثرّة بطاقة العقل وصفاء النفس، وأخذ بيد الإنسان وقادة إلى مناهل المعرفة بكلَّ ما فيها من عمق وشمول.
ولد الإمام جعفر بن محمد (الصادق) في المدينة بمنزل جده علي زين العابدين (عليه السلام) ومات ودفن في البقيع في ضريح عمّه الحسن بن علي (عليه السلام) من عمرٍ قدِّر بثمانية وستين عاماً.
والده هو محمد بن علي (باقر العلوم) (عليه السلام). وأمّه فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر. تربّى في كنف جده زين العابدين ما بين عشرة إلى أربعة عشر عاماً، وفي كنف والده محمد الباقر نحو من ثلاثين عاماً درس خلالها عليه، وتطبع بصفات الفضل ومحبة العلم، وتعلّم من جده أن يُطعم حتى لا يبقى لعياله طعاماً، وأن يكسو حتى لا تبقى لهم كسوة.
إن إحصاء فضله وسعة علمه وآفاق فكره وعبقريته ضرب من المستحيل، كما أنّ الإحاطة بتاريخ حياته من الصعوبة بمكان، ويكفي أن نعلم أنه تميّز بالحنكة السياسية والصبر على المكاره والمداراة، فلم يعرِّض نفسه للخطر، ورفض الخلافة عندما عرضت عليه، ونصح ابن عمه (النفس الزكية) وأخوته من أبناء الحسن بالابتعاد عن المعارضة المسلحة ضد العباسيين كما أعلن براءته من (أبي الخطَّاب) المتهم بالغلو والإلحاد إرضاءً للرأي العام.
لابدّ لنا ونحن في رحاب الإمام الصادق (عليه السلام) من الوقوف قليلاً لإلقاء نظرة عابرة على علم الكيمياء ودور تلميذه جابر بن حيَّان الذي أخذ عنه هذا العلم وسعى إلى تطويره وإخراجه من الجمود والسحر والشعوذة والتدجيل والخرافات إلى علم يقوم على البحث والاختبار، ويقود إلى خير الإنسانية وسعادتها.
يقول ابن النديم في الفهرست رداً على بعض المصادر المغرضة التي شكّكت في وجوده واعتبرته أسطورة وهمية:
الرجل له حقيقة وأمره أظهر وأشعر وتصنيفاته أعظم وأكثر، ولهذا الرجل عدداً من الكتب في مذهب الشيعة. ويؤكد سارطون، وهو لميارد، وكوربان أنَّ جابراً كان حقيقة وليس أسطورة. وتؤكد المصادر:
أنه عاش في النصف الأول من القرن الثامن للميلاد، وهناك إجماعٌ وتأكيدٌ على اتصاله (بالبرامكة) الذين كانوا يحافظون على (التقية) في علاقاتهم بالإمام الصادق (عليه السلام)، وقد يكون هذا الاتصال سبباً في نكبتهم الكبرى المعروفة.
أما نسبه فيتصل بقبيلة (الأزد) ومسقط رأسه في طوس من أعمال خراسان يؤيد ذلك الشهرستاني والأب لويس شيخو اليسوعي، كما أنّ هنالك إجماعاً على وفاته في طوس سنة 196هـ.
ولكن من المؤسف أن القدامى لم يفصحوا عن مكان قبره غير أن الصحف الإيرانية تناقلت سنة 1972م خبراً مفاده: أنه أثناء إجراء أعمال تسطيح طريق جديد خلف الجبل المحاذي للحدود العراقية عثر العمّال على بناء قديم دلّت الكتابات المنحوتة على صخرةٍ أنه مدفن جابر بن حيّان.
وإذا صحّ خبر وجود قبر جابر في تلك المنطقة (الرسنان) الواقعة شرقي الحدود العراقية فيمكن القول: أنه بعد هروبه من بغداد لجأ إلى أقرب جبال من بغداد واقعة في إيران وذلك بعد أن ترك الكوفة ومختبره الكيماوي ومنزله، وجميع ما يملك وتوجّه إلى الشرق مجتازاً دجلة والفرات.
ويقول ابن النديم أيضاً:
كان جابر بن حيَّان رياضياً وفيلسوفاً وكيميائياً وعالماً بالفلك وطبيباً له مؤلفات في المنطق والفلسفة وعلم الباطن وغالى بعضهم فنسب إليه اختراع الجبر. إن هذه الثقافة الموسوعية يصفها جابر قائلاً:
إنه تلقّاها من سيده الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ويردها جميعها إلى ملهمه الذي يطلق عليه اسم (معدن الحكمة). ويزيد على قوله: إنه لم يبقى أمامي إلاّ جمعها وترتيبها.
وكل هذا يعزِّز الأقوال الشيعية أن جابر كانت له رتبة كبيرة في دعوة الإمام الصادق (عليه السلام) وهي (الباب) وتأتي هذه المرتبة بعد الإمام مباشرة.
قلنا: أنَّ لجابر مؤلفات عديدة في مختلف العلوم، وقد تكون رسالته في التربية وبيان العلاقة بين المعلم والمتعلم أهم ما كتبه، وتعتبر من روائع الآثار التربوية ففيها فصَّل جابر واجبات وحقوق كل من المدرّس والتلميذ، ويلتقي فيها مع أحدث الأساليب للدول الحضارية المتقدمة صاحبة الأولية في الثقافة والعلوم والآداب.
ومن الواضح أنَّ جابراً لم يكن الوحيد الذي تتلمذ على الإمام الصادق (عليه السلام) فهناك العديد من العلماء والفقهاء وأصحاب المذاهب انتسبوا إلى مدرسته ودرسوا عليه الفقه والحديث وعلم الكلام والمنطق والفلسفة واللغة والآداب، وهؤلاء تركوا بعدهم المراجع العديدة بين أيدي الناس ينهلون منها ويأخذون عنها.
والفضل كل الفضل لهذا المعلم الحكيم الذي كرَّس حياته لخدمة الإسلام دون تمييزٍ بين فرقه وطوائفه ومذاهبه.
في خاتمة المطاف. لابدَّ لنا من عودة إلى كيمياء جابر وأقواله عن المعادن وطبيعتها وأجناسها وأصلها وكيفية صهرها وإذابتها وتحليلها وتحويلها، وقد أيّد ابن سينا ما ذكره جابر، ولكنه ذهب إلى العمق في تأويلها، وأفصح عن وجهها وجوهرها في كتابه (الشفاء) قائلاً:
إن المعادن كالنفوس فمنها الغث والثمين، والنافع والضار، والنفيس والخسيس. ويأتي (الإكسير) معها، وقد بالغوا بالحديث عنه ووصفوه: أنه يحوّل المعادن كلياً وينقلها من الخسيس إلى النفيس.
ويروي لنا جابر: أنّه استعمله في الطب وشفى به أمراضاً مستعصية مزمنة. وأعتقد: أنه رمز إلى العلم الذي يمنح إلى المخالفين والضالين فيحولهم إلى فقهاء وعارفين، وهنا يقول ابن سينا في كتابه (الشفاء):
إنه من المستحيل تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة بواسطة الإكسير، ولكن بالإمكان بواسطته إدخال التحسينات على بعض المعادن وإعطائها البريق واللمعان لكي تصبح في مستوى المعادن الأصيلة.
وابن سينا هنا يؤيد أقوال الشيعة ويتفق مع جابر في تشبيه الإكسير بالعلوم الإمامية الصادرة إلى المستجيب فإنها تصقل نفسه وتغيّر واقعه وتجعله كالجوهرة النقيّة الصافية المتطلعة أبداً إلى الحب والخير والجمال. ولعلَّ التأويل والرمز والمثل والممثول تدخل في موضوع الإكسير.
ويزيد ابن سينا على قوله: إن النفس التي أصابها الفساد لا يغيرها الإكسير كلياً ولا العلوم الإمامية، وقد يفيدها في الظاهر ويجعلها في حالة من القبول، ويتفق هذا مع قول أحد