التفكير الجماعي لا يضاهي عبقرية الفرد
كريستوفر كالدويل من نيويورك - فاينانشال تايمز
إذا قمت بوضع مجموعة من الأشخاص على درجة عالية من الذكاء في غرفة وطلبت منهم أداء مهمة بسيطة، فما الذي ستكتشفه؟ ستكتشف شيئاً واحداً وهو انخفاض معدل ذكائهم، وقد حاولت دراسة أجرتها جامعة ''فيرجينيا تك'' وبعض المؤسسات الأخرى، ونشرت في دورية ''رويال سوسايتي'' في فصل الشتاء، التوصل إلى كيفية تفكير الأفراد في ظل الضغوط الاجتماعية، وتم تقسيم الأفراد الذين يبلغ متوسط معدل ذكائهم 126 إلى مجموعات لحل المشاكل ثم تم تقييم عملهم، وتبين أن أصحاب الأداء المنخفض قد حدثت لديهم استجابة عالية في الجزء المسؤول عن الشعور بالخوف في المخ، وكان معظم الرجال من أصحاب الأداء المرتفع، بينما كان معظم السيدات من أصحاب الأداء المنخفض، وخلص العلماء إلى أن تعبير الأفراد عن قدرتهم المعرفية يتضاءل في نطاق المجموعات الصغيرة، وهو التأثير الذي يتفاقم نتيجة تخيل الشخص أنه في مكانة أقل من زملائه، أو بعبارة أخرى، فهم يصبحون أكثر غباءً.
وهذا يؤكد أنه بإمكانك التواصل مع شخص آخر أقل ذكاء عن طريق ''إيقاف قدراتك العقلية''، ولكنك لا يمكنك التواصل مع شخص أكثر ذكاء من خلال إيجاد قدرات عقلية لا تمتلكها، وهذا هو أكبر العيوب التي اكتشفها العلماء في طريقة تفكير المجموعات، ولكن الحديث عن ذكاء المجموعات أصبح أكثر شيوعاً، فعلى مدار العقد أو العقدين الماضيين تتوالى القصص عن ''تأثير الأغلبية'' و''حكمة الجماعة'' وشدة ذكائها، فهل هذه رؤية ثاقبة جديدة أم أنه اتجاه علمي معرفي كُشف النقاب عنه أخيراً؟
والحقيقة أن كليهما صحيح، فهناك بالطبع شيء قابل للقياس ويمكن أن يطلق عليه الذكاء الجماعي، فقد قامت مجموعة من العلماء من جامعة كارنيجي ميلون ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إضافة إلى بعض الجامعات الأخرى بإجراء دراسة رائعة تم نشرها في مجلة ''العلوم'' منذ عامين حول آلية عمل هذا النوع من الذكاء، وبدأ القائمون على الدراسة بتوضيح مفهوم ''الذكاء العام'' الذي توصل إليه عالم النفس الإنجليزي تشارلز سبيرمان في عام 1904، حيث أكد سبيرمان أن كافة المهام العقلية ترتبط بشكل إيجابي مع بعضها البعض من الناحية العملية، فإذا كنت تتمتع بمستوى جيد في مجال الرياضيات، فمن المرجح أن تكون شاعراً متميزاً، ولأن هناك عنصرا فكريا مشتركا للكثير من الأشياء التي لا نعتبرها ''عملا ذهنيا'' فمن المرجح أن تصبح جندياً أو رياضياً متميزاً أيضاً إذا كنت شاعراً متميزاً.
ومن الجدير بالذكر أن الفكرة القائلة بضرورة عدم إعطاء المواهب العقلية قدراً كبيراً من الأهمية في المجتمع كانت مثبطة لشعور الناس بالعدل في عصر سبيرمان، كما ينظر إليها المؤيدون للمساواة في الحقوق هذه الأيام على أنها فكرة بغيضة، وقد استمر الناس في محاولة دحض مفهوم الذكاء العام لمدة قرن من الزمان ولكنهم فشلوا، ومن ثم أصبح هذا المفهوم غير الشائع (كما يقال) النتيجة الأكثر تكراراً في علم النفس، تماماً كما أكد العلماء، ثم جاءت الفكرة القائلة بأنهم إذا توصلوا إلى ما يعادل الذكاء العام على المستوى الجماعي، فإنهم بذلك يكونون قد توصلوا إلى مفهوم الذكاء الجماعي، ولذا طلبوا من مجموعات صغيرة الخضوع لمجموعة من الاختبارات العقلية ثم لعب (الداما) على جهاز الكمبيوتر. وبالفعل توصل العلماء إلى ما يعادل الذكاء العام على المستوى الجماعي، وعلاوة على ذلك، لم يكن ما توصل إليه العلماء مطابقاً للذكاء الفردي للأشخاص الذين يشكلون المجموعة، بل كانت العلاقة بين تفكير المجموعة وبين متوسط ذكائها أو ذكاء أذكى فرد فيها ضعيفة للغاية، وعلى النقيض، كانت العلاقة قوية بين تفكير المجموعة وبين الحساسية الاجتماعية التي شعر بها أفراد المجموعة والمساواة في الحديث كلٌ في دوره إضافة إلى نسبة تمثيل الإناث، ولذا يمكن القول إن استماع أفراد المجموعة إلى بعضهم بعضا يساعدهم كثيراً، كما أن هناك فائدة كبيرة أيضاً في التنويع بين الجنسين. وقد توقع أحد الكُتاب في مقالٍ نشره تعليقاً على نتائج هذه الدراسة أن ذلك ربما يرجع إلى استعداد المرأة للاعتراف بعدم درايتها بشيء معين. وليس بالضرورة أن تكون هاتان النتيجتان (أن هناك ما يعرف بالذكاء الجماعي، وأن العمل في مجموعات يقلل من ذكاء الأفراد) متناقضتين، فمن المرجح أن يفقد الإنسان قليلاً من قدرته على التفكير نتيجة تبعيته للمجموعة، بغض النظر عن الإنجازات التي قد تقوم بها هذه المجموعة، كما أن الجدوى من اشتراكه في المجموعة تعتمد على ما تقوم به هذه المجموعة من مهام، وإذا كانت الثقافة الغربية قد أيدت كل ما هو فردي كما هو الحال حتى العقدين الماضيين، فإن ذلك يعد دفاعاً عن الفرد ضد الجماعة، فإذا كان الأفراد قد قدموا عددا كبيرا من الأعمال الرائعة مثل ''الملك لير'' وغيرها، فإن الجماعات لم تقدم سوى عدد قليل من هذه الأعمال على فترات متقطعة في أحسن الأحوال، بل إنها قامت بمحارق للكتب في بعض الأحيان.
وتجدر الإشارة إلى أن العصر الذي نعيشه حالياً مختلف تماماً، فهو يتسم بالتكامل بين الأسواق والابتكارات في مجال الربط الشبكي والمبيعات، ومن المعروف أن موسوعة ويكيبيديا متعددة المصادر (المعيبة والسريعة والمجانية) قد ساهمت في الإطاحة بموسوعة بريتانيكا(الموثقة وكثيفة العمالة) من مجال العمل الورقي للموسوعات، فلا أحد لديه وقت لقراءة الملك لير، ناهيك عن كتابتها، فأي شخص يبدع في عمل فردي لا بد أن نشهد له بالعبقرية، ولكن عندما يتعلق الأمر بما تريده الجماعة، فإنها تعتقد حينئذ أنها هي التي تعلم كل شيء.
اعجبني ...فنقلته