سارت بهدوء نحو تلك
الطاولة من ذلك المطعم ، تلك الطاولة التي يجلس عليها موعدها ، أمعن بها بصمت
وبأنفاس باردة ... حتى جلست أمامه ، بالرغم من أنه مضى على علاقتهما ثلاث سنوات
فهو لا يزال يجهلها ويجهل صورتها فقد كانا قد تعارفا عبرغرف المحادثة (الشات) ،
حيث تحادثا عن الكتب والشعر والموسيقا والحب وحيث انسحر كل منهما بالآخر
كانت كاتبة وكان هو شاعرها ، لطالما جال السحر بين كلماتهما حتى أنه كتب لها ذات يوم
"أشعر من الغرابة ...أن أتوق لشخص لاأعرفه، أن أشتهي جسداً لم أره
أن اصغي لقلب ٍ ...لم يسمعني نبضاته يوماً"
لطالما قال لها:"أحسّك هنا ، بجانبي يدي بيدك ... وقلبي يخفق لكِ"
ولكنها صدمته ذات يوم
، قالت له:"أنا مسيحية ، وأنت أحمد !" كانت تقول له بأنه لا يمكن أن
تربطهما أي علاقة بسبب أختلافنا الديني ، وقالت بأن والدها يدبر لها زيجة مع ابن
عمها ، كان شعوره مختلط بين الغضب والألم ، صرخ : أتخليتي عني ؟
أجابت : لا ، بل القدر تخلى عن كلينا !!
والآن يمعن النظربعينين ترتعشان ، لم يعد متأكداً من أن ليليان اسمها ولا هذا الدين دينها ولا هذه
اللهجة لهجتها ولا تلك المدينة مدينتها ، وحتى شكلها ... وجهها ... لم يعد متأكداً
من أنه يرى وجهها الحقيقي أو أنها فقط ترتدي أحد وجوهها الكثيرة ،
همس :أهلاً ليليان... إن كان هذا اسمك الحقيقي
ضحكت وهي تجلس وتضع حقيبتها على الطاولة ،
ضحكت كمحاولة منها لتحويل جملته الجدية إلى مجرد مزحة
قالت : أجد الغرابة في أن أشكر القدر وألعنه بالوقت ذاته ، أشكره للقاءنا هذا وألعنه على تفريقنا ورميي
بأحضان رجل آخر ألعنه بشدة!
أومأ برأسه وقال :إذاً كنت تعرفين أن مصيرك سيذهب لرجل آخر ولابد من تركي،لماذا صنعتِ إذاً سنارة من
كلماتك لإصطياد قلبي؟! قالت وهي تحاول بيدها إيجاد طريقاً ليده الطاولة :
لم أتوقع أن أحبك ، كنت أشعر بالملل وأردت فقط التسلية لم أتوقع أن أحبك بهذه
الطريقة... كالقصيدة التي كتبها لي يوماً :"أشعر من الغرابة أن ..."
سحب يده من على الطاولة وهو يحاول تصديقها وقال وهو يمسك بهاتفه الخليوي :
لقد وصلتني رسالة نصية اليوم ، وكانت من رقم مجهول
تقول: " إنها لا تحبك ،إنها فقط تحب مزاجك ،أنت شاعرها فقط وهذا كل مافي الأمر"
ردت بغضب: إنها لا تقصدنا ، إنها تقصد أية أناس ما عدانا
همس : لقد تقابلنا بعالم افتراضي ، اسمك كان افتراضياً،دينك ، لهجتك ، مدينتك ...
حبك لي كان أيضاً افتراضي
قالت بصوتٍ مرتجف : لا!
ترقرقت دمعة بعينيها
وسالت دمعة ببطء على وجنتيها وهي تهمس : حبك هو كل ما هو حقيقي بالنسبة لي ! ...
صادقة كهذه الدمعة الشفافة التي تسيل أمام ناظريك ...
أمعن بها وهو يتذكركم حاول نسيانها ولكنه لم يفلح، يقول مطرب عراقي:
أردت نسيانك فشربت سكرت فتذكرتك!
سألها : لماذا كذبتي؟
أجابته: لأنني كاتبة
والكذب عملي ! ... نحن الكتاب لسنا صادقين حتى مع أنفسنا ... ربما نحن نكذب ونكذب
حتى نجد الحقيقة ...
صمت للحظات وهو يفكر ...
هو لم يعشقها بسبب اسمها ولا دينها ولا لهجتها ولا مدينتها ، بل من أجل الشغف
والحب الذي كان يلتف حول كلماتها ، ارتبك وهو يحاول كبت حنينه إليها ... هو يعلم
جيداً أنها ما عادت له ولا يمكنها كأمرأة متزوجة أن تكون له يوماً إلا إذا
انتظروفاة زوجها كما انتظر بطل رواية ( الحب في زمن الكوليرا ) !
إذاً من الأجدر له نسيانها ويحاول بنسيانها إيجاد علاج يُشفى به من مرض حبها
قال لها : علي نسيانك...
ردت : لو كانت نظرية أحلام مستغانمي صحيحة بشأن نسيان الرجال فأنت ستنسى أسرع من سمكة ، سيكون وجهي
بالنسبة إليك كأية وجهٍ تمر به بالشارع، ستنساه بسرعة ما إن تعبره " انسى كما ينسى الرجال!"
قال بتشنج : ولكن أحلام مستغانمي لا تعرفني ولا تعرف مقدار الحب الذي أكنّه لكي فهمس بعد أن هدأ :
فليكن هذا وداعاً لا لقاءاً
همست : أهذا سهلٌ عليك؟
كانت أعماقها تردد كلمات غادة السمّان : آهٍ ، كم أكره أن أحبك !"
وذلك الوجع الذي يسكنها ويعشش بها
أجاب والألم يعتريه: العذاب الذي سيتركه وداعك أهون من العذاب الذي أشعر به وأنا أصغي لصوتك
نهض بسرعة وكأنه يستعد للفرار وللهرب قائلاً: وداعاً ليليان وهو يسير للخارج
استوقفه صوتها الذي مزق قلبه الحزين : "أحبك يا أحمد ... يوماً ما ستعود
عندما يسألك عني جرحٌ قديم"
للأديبة براءة حسين
قراءة شيقة أتمناها لكم
وعذراً للقصة المُطولة لكنها راقت لِ ذائقتي وأتمنى أن تروق لذائقة الجميع