تجربة النحات ماتيو بوغليس..الجدران جزء من العرض.. والفراغات حقل للانزياح


خالد خضير الصالحي

يعتقد بابلو بيكاسو إن روح المشخّص تبقى كامنةً في عمق التجريد، في أعمال الرسم التجريدي بعد إزالة كل مظاهر ذلك المشخّص، كما ؛ وهو أمر مماثل لما أسميناه روح (المادة الأولى) التي نعتقد أنها تظل هي الأخرى كامنة في أعمال النحت بعد تحولها من مادة إلى مادة أخرى هي البرونز التي ربما استدعتها الرغبة البشرية في مقاومة فعل الزمن، وهو ما نوهنا عنه في حديثنا عن منحوتات محمد غني حكمت الذي يبقى عشقه للنحت بالخشب يطل برأسه حتى وان تبدلت المادة التي يعمل بها، فقد كمنت روح النحت بالخشب في كل تجارب محمد غني حكمت، وربما لم تشذ عن ذلك سوى منحوتة (المتنبي) للنحات ذاته، التي كانت روح الطين المتحجر كامنة خلف مادتها البرونزية، وهو ما جعلها منحوتة استثنائية برأينا، وهو ما نلاحظه في بعض أجزاء منحوتة (نصب الحرية) لجواد سليم، الذي عمد الى الإبقاء على الطين (خاما) حينما ترك أجزاءً من المنحوتة بشكل فصوص طينية خام لم يعمد الى تسويتها لتكون مهيأة لتتلبس مادة البرونز، بل تركها لتحافظ على روح الطين كامنة يمكن ان يتلمسها المتلقي المنتج للدلالات، فبقيت روح الطين تطل برأسها خفية من خلف مادة البرونز، وتلك الروح برأينا هي روح المنحوتة ومكمن طاقتها التعبيرية، باعتبارها (فراغات) العمل التي نقلته من المادة الخام الى الشعرية..
لقد أسس النحات ماتيو بوغليس الذي ولدَ في ميلان عام 1969 والذي غرس في داخله حبّا قويا للرسم والنحتِ، وواصلَ تطوير تجربته الفَنِّية بدون أيّ تعليم أكاديمي، فأسس تجربته على مؤثرين شديدي التواشج، في تجربته التي عرضها مؤخرا، هما: أولا روح الطين الكامنة من المرحلة الطينية في عملية انجاز المنحوتة البرونزية، وهي مراحل تترك بصماتها في المنحوتة شاء النحات ذلك أم لم يشأ، فقد ذكر لي مرة النحات المهندس سماري، وهو من المشتغلين في صب المنحوتات بالبرونز، إن مراحل صب المنحوتة بمواد وسيطة وصولا الى النتيجة النهائية وهي الصب بالبرونز، إن هي ليست إلا أرواحا كامنة في المنحوتة برغم تحوّلاتها المختلفة؛ وهو ما يتخذه النحات ماتيو بوغليس ستراتيجيا لبناء تجربته، حيث تبقى المنحوتة في النهاية، وبرغم برونزيتها، (كائنا طينيا) يمتلئ بقدسية الطين، وهو يتحرك بلزوجة، وبخفة، ورشاقة انزلاق الطين من بين الأصابع، فكان يقوم بالتواءاته التي تتيح له اختراق الجدران التي تنبثق منها المنحوتات، وفي الوقت ذاته تتكئ عليها، فكان أبطاله (الطينيون) الذين يرتدون دثار البرونز، يخترقون الجدران خلسة متجهين نحو صالة العرض فيواجهون المتلقي وهم لم يكملوا تسللهم بعد..
إن تكريس النحات ماتيو بوغليس لموضوعات الجسد الإنساني كحقل اشتغال لميدانه النحتي لم يمنعه من تطوير تقنياته النحتية والإمعان في دراسة الجسد الذكوري البشري وإظهار جوانب الجمال فيه، حيث لم يسمح هذا النحات لفكرة العمل ان تجرفه بعيدا عن مهمته الأساس وهي مهمة شكلية في مقامها الأول..
وان إطلالة المنحوتات على المتلقي عبر الجدران جعل تلك الجدران جزءا من العرض أولا، وجزءا من المنحوتات ثانيا فبدا المعرض وجدرانه وكأنه عمل نحتي بما ينطوي عليه من أجساد تطل برؤوسها وأجزاء من أجسادها على المتلقين لتجعل هؤلاء المتلقين حقل فرجة تمارسه المنحوتات وهي تتلصص على هؤلاء المتفرجين الذاهلين..
حين عاينت منحوتات ماتيو بوغليس تساءلت في قرارة نفسي هل نعتبر هذه التجربة نحتا تقليليا يكتفي بجزء من الجسد البشري سواء لأهداف دراسية أو أية أهداف أخرى، وما هي هذه الأهداف التي تجعل النحات يقتطع جزءا منفردا ليجعله (يمثل) كامل الجسد؟، ولكنني استبعدت هذه الفكرة ورجحت بدلها فكرة ان تكون الأجزاء المختفية خلف الجدران نمطا من المسكوت عنه، ونمطا من الفراغات النصية التي هي جوهر الانزياح الإبداعي وقد نسميه الشعري، وهو ما أرجح ان يكون هدف النحات Matteo Pugliese من عملية الإخفاء التي يبدو النحات وكأنه يمارسها بتلذذ واضح..