الأطار القانوني لحماية البيئة في العراق - بحث منشور في مجلة التشريع والقضاء
الدكتور نوار دهام الزبيدي مفتش عام وزارة الموارد المائية
تلقى البيئة اهتماماً متزايداً، حتـى قيـل بحق ان هــذا العصر يسمـى بـ (عصر البيئة)، حيث ادى التقدم العلمي الهائل في مجال العلوم والتكنولوجيا الذي شهدته قطاعات الزراعة والصناعة والنقل واستغلال الموارد الـى حـدوث زيادة في كمية الملوثات وتراكيزها وما يصحب ذلك من آثار ضارة وخطيرة تهدد صحة الانسان والمجتمع نتيجة التلوث الحاصل في مكونات البيئة .
ولم تعد فلسفة القانون أسيرة الحقوق والمصالح الفردية من حيث حمايتها وانما تجاوزت ذلك لتحقق أبعاداً أخرى للدفاع عن المجتمع بأسره وحماية قيمه الأدبية وأسس بقائه، ومن حيث اصبح للقانون الحق في ان يبسط حمايته ويمد نفوذه نحو الكثير من هذه المسائل.
ولا شك ان البيئة هي احدى المسائل التي اصبحت حمايتها قانوناً تمثل صدى وأستجابة وانعكاس لمرحلة هامة من مراحل تطور الفكر القانوني، لذا وجدنا انفسنا معنيين بتسليط الضوء على الجوانب القانونية لحماية وتحسين البيئة في العراق، انطلاقاً من حقيقة أساسية مؤداها ان المكافحة القانونية لتلوث البيئة لا تقل أهمية عن المكافحة العلمية له. وسنسعى جاهدين في هذا البحث الموجز الى عرض مضمون الحماية القانونية للبيئة ضد أخطار التلوث وضمن الخطة الاجمالية التالية: المبحث الأول: وسنخصصه للأطار القانوني لحماية عناصر البيئة بوجه عام. فيما نخصص المبحث الثاني لدور القانون الجنائي في حماية البيئة.
المقدمة
لا شك ان الكون الذي يحيا به الانسان والنبات والحيوان والمياه والشجر والحجر مبنيٌ على أساس الموازنة الدقيقة، وقد ضلت البيئة التي يعيش فيها الانسان بعيدةٌ عن التأثر بالملوثات لفترة طويلة الا من النشاطات البسيطة التي يقوم بها، لكن بزوغ فجر الثورة الصناعية وزيادة عدد السكان وتنامي الاستثمارات للموارد الطبيعية والتقدم العلمي الهائل على كافة الصعد قد القت بضلالها الوخيمة على البيئة وعناصرها، بحيث اصبح هذا التوازن رهين بتصرفات الانسان، فأن احسن لها استمر وان اساء تصدع واصبحت الحياة في خطر.
وفي وسع المتتبع لسير الحضارة سيجد ان صورة الجانب البيئي واضحة في الكثير من المقومات الأدبية، فقد عبر فنانو حضارة وادي الرافدين عن استلهامهم لنظم البيئة الطبيعية فزينوا الاواني والدور والمعابد برسوم الاشجار والطيور والاسماك على نحو ماتشهد به الرقم الطينية التي خلفتها لنا هذه الحضارات. ويلاحظ ان الاسلام بواقعيته قد ارسى اسس حماية البيئة فالمتتبع لأشارات القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وآثار الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وافعال الأئمة الاطهار صلوات الله وسلامه عليهم في كل ماله صلة بالبيئة يجد انها تتصل بوجود الانسان المادي او الروحي، وقد لايسع المقام الى تفصيلها جميعاً، وعليه سنجتزءُ بقدر مانستطيع منها اتماماً للفائدة. فقد تضمن القرآن الكريم الاشارة الى استحضار صور النشاط الانساني للأمم السالفة للأسترشاد والتوجيه في سعي الانسان نحو منهج الله في ميدان حفظ التوازن البيئي فقد قال تعالى في سورة الروم الآية (9-10): (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة اللذين من قبلهم كانوا اشد منهم قوة واثاروا الأرض وعمروها اكثر مما عمروها).
ويزداد الامر وضوحاً عند تحذير الله سبحانه وتعالى للإنسان من ان يسعى في الأرض فساداً فقد قال جل شأنه في سورة البقرة الآية (205-206): (واذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد). وقد قال تعالى في سورة إبراهيم الآية (32-34): (الله الذي خلق السماوات والأرض وانزل من السماء ماء فأخرج من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الانهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار من كل ماسألتموه وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها).. وقوله تعالى في سورة الحجر الآية (22): (وارسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماءً فأسقيناكموه وما انتم له بخازنين).. وقوله تعالى في سورة الكهف الآية (7): (انا جعلنا ماعلى الأرض زينة لها لنبلوهم ايهم احسن عملا). وقد تظافرت السنة النبوية الشريفة على التأكيد على وجوب الحفاظ على البيئة ومكوناتها مثل قوله صلى الله عليه واله وسلم: (التمسوا الرزق في خبايا الأرض)، وكان هذا المعنى حاضراً في فهم الامام علي عليه السلام لمكانة الأرض واثرها في امداد أسباب الحياة حيث عبر عن ذلك في رسالته التي بعثها الى عامله في مصر حيث يقول: (وليكن نظرك في عمارة الأرض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج فمن طلب الخراج بغير عمارة اخرب البلاد واهلك العباد). يظهر مما تقدم ان اثر العقيدة الاسلامية في المحافظة على البيئة والموارد الطبيعية انما هي جوهرها حماية للنعم التي يغدقها الله تعالى على عباده وهـو مفهوم شامل لمعنى هذا الكون الفسيح، والحال ان خلق هذه النعم اريد به الانتفاع من قبل العباد ولن تنقلب هذه النعم في اصل وجودها الى نقم الا بسوء تعامله معها وتصرفه فيها في غير الغرض الذي خلقت له فهي وحدة متكاملة ومتوازنة يتأثر بعضها بالبعض الاخر سلباً وايجاباً بصريح قوله تعالى في سورة الحجر الآية (19-21): (وانبتنا فيها من كل شيء موزون وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين وان من شيء الا عندنا خزائنه وما ننزل الا بقدر معلوم).
ومن ثم يمكن القول ان الافساد او التلويث لعناصر البيئة هو امر منهي عنه شرعاً وهو في الاصل عدوان على البيئة لأن فيه معنى التعطيل وحرمان الناس مما قدر لهم أن ينتفعوا به مما يلزم حتماً اعتبار عدوانية الانسان على عناصر البيئة (جريمة كبرى) مصداقاً لقوله تعالى في سورة المائدة الآية (2): (ولا تعاونوا على الأثم والعدوان)، وقد تنبه فقهاء المسلمين على اختلاف مذاهبهم الى الحلول الناجحة اتقاءً لاضرار الثلوث البيئي ويكفي لذلك التدليل على اهمية حقوق والتزامات الجوار التي كان لها اعمق الاثر في التطبيقات الفقهية لمقتضى القاعدة الشرعية لا ضرر ولا ضرار التي طبقت على وجه الخصوص على الاضرار الناجمة عن التلوث البيئي في محيط الجوار كتلويث المياه والروائح الكريهة والصوت المرتفع والاهتزازات واضرار الدخان والأتربة المتطايرة. ورغم ضألة مشكلة التلوث يوم ذاك قياساً على ماهو عليه حال البيئة اليوم الا ان الشريعة الاسلامية الغراء قد افرزت توجيهات تربوية وقيم صحيحة في التعامل مع مكونات البيئة بما يمكن عده اليوم بمثابة تشريعات واجبة التطبيق فكان المشرع والمنفذ والقاضي والمحتسب معنيين جميعاً بحماية عناصر البيئة ومواردها بأعتبارأن ذلك حقاً عاماً للجميع وشراكة غير قابلة للقسمة او الاستئثار، مصداقاً لقوله تعالى في سورة آل عمران الآية (104): (ولتكن منكم امةً يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر).
المبحث الأول
الاطار القانوني العام لحماية عناصر البيئة:
بالنظر لتزايد الاخطار البيئية وتفاقم مشكلات التلوث فقد استأثرت هذه بأهتمام المشرعين من خلال اصدار القوانين والتعليمات والانظمة البيئية الصارمة وتنويع الإجراءات والسبل التي تتخذ حيال ذلك. ويرجع اصدار القوانين والنظم المتعلقة بحماية البيئة الى ما قبل القرن التاسع عشر حيث اصدر العديد من الحكام في دول ومقاطعات كثيرة قوانين وانظمة تحرم القاء او صب او تفريغ القاذورات او القمامة او مخلفات المصانع الى القنوات والترع والانهار والبحيرات حفاظاً على الصحة العامة، بناءً عليه سنتولى تبيان نماذج عامة من التشريعات البيئية في العراق على اختلاف مجالاتها:
المطلب الأول
التشريعات المتعلقة بالقطاع الزراعي والبيئة الطبيعية ومنها:
1-قانون امراض الحيوانات العفنة رقم 68 لسنة 1936.
2-قانون التشجير رقم 43 لسنة 1943.
3-قانون النفط رقم 27 لسنة 1943.
4-قانون المعادن رقم 31 لسنة 1943.
5-قانون ابادة ذبابة فاكهة البحر المتوسط والوقاية منها رقم 31 لسنة 1947.
6-قانون تنظيم ذبح الحيوانات رقم 22 لسنة 1948.
7-قانون المقالع رقم 19 لسنة 1950.
8-قانون الغابات رقم 75 لسنة 1955 الملغي.
9-قانون المواد القابلة للانفجار المعدني رقم 20 لسنة 1957.
10-قانون مكافحة الجراد رقم 142 لسنة 1960.
11-قانون السلامة المهنية للوقاية من استخدام المواد الكيمياوية والسامة رقم 11 لسنة 1964.
12-قانون الحجر الزراعي رقم 17 لسنة 1966.
13-قانون مكافحة الحيوانات الضارة رقم 35 لسنة 1968.
14-قانون تنظيم تداول المواد الزراعية رقم 34 لسنة 1970.
15-قانون صيانة الثروة النفطية والمواد الهيدروكوربونية رقم 229 لسنة 1970.
16-قانون العمل رقم 151 لسنة 1970.
17-قانون التصميم الاساسي لمدينة بغداد رقم 156 لسنة 1972.
18-قانون الرقابة الصناعية رقم 92 لسنة 1973.
19-قانون تنظيم صيد واستغلال الاحياء المائية رقم 48 لسنة 1976.
20-قانون الجهاز المركزي للتقييس والسيطرة النوعية رقم 54 لسنة 1979.
21-قانون حماية الحيوانات والطيور البرية رقم 21 لسنة 1979.
22-قانون المؤسسة العامة للتصميم والانشاء الصناعي رقم 78 لسنة 1982.
23-قانون المراعي الطبيعية رقم 2 لسنة 1983.
24-قانون تنظيم الاستثمار المعدني رقم 91 لسنة 1988.
25-قانون تنظيم الاستثمار الصناعي للقطاعين الخاص والمختلط رقم 25 لسنة 1991.
إضافة الى عدد غير قليل من الانظمة والتعليمات والبيانات والقرارات ذات الصلة بهذا الجانب والتي لايتسع المجال لذكرها.
المطلب الثاني
التشريعات المتعلقة بالقطاع الصحي:
1-قانون الاشراف على الحرف ذات الروائح الكريهة رقم 42 لسنة 1931.
2-قانون تصريف المياه الوسخة رقم 29 لسنة 1934.
3-قانون تنظيف الشوارع ونقل الازبال وازالة المكاره رقم 4 لسنة 1935.
4-قانون منع تلويث الانهار رقم 4 لسنة 1935.
5-قانون المحلات المضرة بالصحة العامة رقم 11 لسنة 1936.
6-قانون تنظيم ومراقبة الاصطبلات رقم 62 لسنة 1937.
7-قانون الصحة العامة رقم 45 لسنة 1958.
8-قانون تحديد المياه الاقليمية العراقية رقم 71 لسنة 1958.
9-قانون لجنة الطاقة الذرية رقم 1 لسنة 1959.
10-قانون الشواطئ والجزر رقم 33 لسنة 1961.
11-قانون الري رقم 6 لسنة 1962.
12-قانون مصلحة المجاري رقم 89 لسنة 1963.
13-قانون مكافحة الامراض السارية رقم 121 لسنة 1964.
14-قانون صيانة الانهار والمياه العمومية من التلوث رقم 25 لسنة 1967.
15-قانون تنظيف الطرق رقم 44 لسنة 1968.
16-قانون التأمين الصحي في الارياف رقم 18 لسنة 1971.
17-قانون المواصفة القياسية العراقية لمياه الشرب رقم 417 لسنة 1974.
18-قانون الطيران المدني رقم 148 لسنة 1974.
19-قانون مشاريع الماء والمجاري رقم 68 لسنة 1977.
20-قانون الحماية من الاشعاعات المؤينة رقم 99 لسنة 1980.
21-قانون انشاء المركز الوطني للبحوث ومعالجة الامراض السرطانية رقم 858 لسنة 1982.
22-قانون صيانة شبكات الري والبزل رقم 112 لسنة 1983.
23-قانون حفر الابار المائية رقم 3 لسنة 1988.
24-قانون تصريف مياه الفضلات من الوحدات السكنية والمحلات العامة الى الانهار رقم 2 لسنة 1991.
25-قانون منع السيارات الحوضية المحملة بالمشتقات النفطية من طرح مخلفاتها الى المصادر المائية رقم 4 لسنة 1991.
26-قانون منع تصريف مياه المجاري المنزلية او العامة الى الانهار رقم 5 لسنة 1991.
إضافة الى مجموعة غير قليلة من الانظمة والبيانات والتعليمات والاوامر والقرارات الادارية ذات الصلة بهذا القطاع والتي يضيق المجال بذكرها.
المطلب الثالث
التشريعات المتعلقة بالقطاع الخدمي والعمراني:
1-قانون الاثار القديمة رقم 59 لسنة 1936.
2-قانون تبليط الشوارع رقم 85 لسنة 1963.
3-قانون ادارة البلديات رقم 165 لسنة 1964.
4-قانون منع تشييد الصرائف رقم 44 لسنة 1965.
5-قانون منع الضوضاء رقم 21 لسنة 1966.
6-قانون مركز التخطيط الحضري والاقليمي رقم 116 لسنة 1971.
7-قانون الطرق العامة رقم 1 لسنة 1983.
8-قانون تنظيم مناطق تجميع الانقاض رقم 67 لسنة 1986.
9-قانون حماية وتحسين البيئة رقم 76 لسنة 1986.
10-قانون امانة بغداد رقم 16 لسنة 1995.
11-قانون حماية وتحسين البيئة رقم 3 لسنة 1997.
12-قانون وزارة البيئة رقم 37 لسنة 2008.
13-قانون وزارة الموارد المائية رقم 50 لسنة 2008.
إضافة الى مجموعة غير قليلة من الانظمة والبيانات والتعليمات والاوامر والقرارات الإدارية ذات الصلة بهذا القطاع والتي يضيق المجال بذكرها.
المطلب الرابع
قوانين تصديق الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بحماية البيئة:
1-قانون تصديق نظام الوكالة الدولية للطاقة الذرية رقم 2 لسنة 1959.
2-قانون تصديق اتفاقية تحريم تجارب الاسلحة النووية رقم 91 لسنة 1964.
3-قانون تصديق اتفاقية منع استخدام الرصاص الابيض في الطلاء رقم 76 لسنة 1965.
4-قانون منع انتشار الاسلحة النووية رقم 138 لسنة 1969.
5-قانون تصديق اتفاقية الحماية من مخاطر التسمم رقم 78 لسنة 1972.
6-قانون تصديق اتفاقية حضر تطوير وانتاج وخزن الاسلحة البايلوجية والاسلحة التوكسينية رقم 111 لسنة 1975.
7-قانون تصديق اتفاقية الكويت للتعاون في حماية البيئة البحرية من التلوث رقم 203 لسنة 1978.
8-قانون تصديق اتفاقية الامم المتحدة لقانون البحار رقم 50 لسنة 1985.
9-قانون تصديق اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الاتجار الغير المشروع في المخدرات رقم 23 لسنة 1996.
10-قانون تصديق اتفاقية رامسار للاراضي الرطبة والبروتوكولين المعدلين لها.
11-قانون رقم (42) لسنة 2007 انضمام جمهورية العراق الى اتفاقية فينا وبروتوكول مونتريال لحماية طبقة الاوزون لسنة 2007 المبرمة في فينا في 22/آذار/1985.
12-قانون تصديق اتفاقية منظمة الصحة العالمية الأطارية في شأن مكافحة التبغ رقم 17 لسنة 2007.
13-قانون انضمام جمهورية العراق الى اتفاقية الأم المتحدة لمكافحة التصحر لسنة 2008 المعتمدة في باريس بتاريخ 17/6/1994 والتي دخلت حيز النفاذ بتاريخ 26/12/1996.
14-قانون تصديق اللوائح الصحية المنقحة لسنة 2008 التي اقرتها جمعية الصحة العالمية في دورتها الثامنة والخمسين في لمنظمة الصحة العالمية.
15-قانون انضمام جمهورية العراق الى الاتفاقية المتعلقة بالتنوع البايولوجي لسنة 2008 الموقع عليها في ريودي جانيرو/البرازيل حزيران 1992.
16-قانون انضمام جمهورية العراق الى اتفاقية الأمم المتحدة لتغير المناخ وبروتوكول كيوتو الملحق بها لسنة 2008 والمبرمة في نيويورك 9/ايار/1992.
المبحث الثاني
دور القانون الجنائي في حماية عناصر البيئة:
يسعى القانون الجنائي بشكل خاص الى حماية القيم والمصالح المختلفة في المجتمع وذلك بفرض الجزاء الجنائي على من يخالف او يعتدي على تلك القيم ومن هنا يثور التساؤل عن مدى امكانية تدخل المشرع الجنائي لحماية البيئة من الاعتداءات الماسة بها بوصفها قيمة اجتماعية جديرة بالحماية؟ وواقع الامر يشير الى ان تدخل القانون الجنائي لحماية البيئة ليست مسألة جديدة على الفكر القانوني اذ ان قانون العقوبات يضم بين جوانبه بعض الاحكام التي يمكن تفسيرها على انها حماية للبيئة بطريق غير مباشر من ذلك مثلاً تجريم الاعتداءات المتعلقة بالصحة العامة والاضرار بالحيوانات والاعتداء على الاشجار والخضرة النابتة. ونظراً لأختلاف المنهج الذي يعتنقه المشرع من دولة الى اخرى فقد انعكست هذه المنهجية على اتجاهات الفقه القانوني حول الدور الذي يمكن ان يضطلع به القانون الجنائي في حماية البيئة ويمكن القول ان هناك نوعين من المناهج في ما يمكن ان يلعبه القانون من دور وقائي او علاجي في حماية عناصر البيئة ضد اخطار التلوث.
المطلب الأول
المنهج التقليدي:
ويتمثل هذا المنهج بأضفاء الصفة الجرمية على الافعال التي تمثل اعتداءاً على البيئة بشكل مباشر او غير مباشر ضمن مدونة قانون العقوبات وقد تعزز هذا المنهج بصورة صريحة خلال المؤتمر السابع لوزراء العدل في اوربا المنعقد في المانيا عام 1972 حيث تمت مناقشة هذا المنهج وانتهت الهيئة الفرعية المنبثقة عن المؤتمر بأصدار توصية برقم 77 مقتضاها التأكيد على اعتماد جزاءات مناسبة ضمن مدونة قانون العقوبات للحد من جرائم تلويث البيئة. وقد تبنت هذا الاتجاه العديد من الدول الاجنبية والعربية ومنها على سبيل المثال قانون العقوبات الالماني وقانون العقوبات اليوغسلافي وقانون العقوبات البرازيلي وقانون العقوبات الايطالي، كما اخذت بعض الدول العربية بتبني هذا المنهج مثل جمهورية اليمن والمغرب وليبيا.
اما في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 فقد اوجد حماية لبعض عناصر ومكونات البيئة الانسانية مثال ذلك المواد 479 و482 و488 و491 و497 و499 وهي في مجملها تشكل حماية غير مباشرة لعناصر البيئة المتمثلة بالاعتداء على الاشجار او اتلافها او الحاق الاضرار بالحيوانات او ايذاء المارة عن طريق وضع مواد او احداث لغط او ضوضاء او اصوات مزعجة للغير قصداً او اهمالاً او اقلاق الراحة العامة.
المطلب الثاني
المنهج المعاصر
ان التغيرات التي شهدتها البيئة لا سيما في العقود الثلاثة الاخيرة وتحديداً عند ظهور الاعلان العالمي لحماية البيئة البشرية على اثر المؤتمر الدولي المنعقد في ستوكهولم عام 1972 فقد تعالت اصوات المهتمين بحماية البيئة الى ضرورة تحديد سياسة جنائية ترسم معالم الحماية القانونية ضمن فرع جديد من فروع القانون ذلك هو (قانون العقوبات البيئي) حيث يقصد به مجموعة الاحكام القانونية التي تحدد صور السلوك المنطوي على مساس لعنصر او اكثر من عناصر البيئة بما يعني الرجوع الى هذا القانون لتحديد مفهوم الجريمة البيئية واركانها القانونية ومسؤولية مرتكبيها بالأضافة الى بيان الإجراءات الجزائية التي تتخذ حيال هذا النوع من الجرائم وتحديد نوع المسؤولية ودرجتها للأشخاص الطبيعية والمعنوية.
وقد اخذت العديد من الدول بتبني هذا المنهج لاسيما بعد ان تأكدت خصوصيته في مؤتمر الامم المتحدة المنعقد في البرازيل المسمى بـ (قمة الأرض)للفترة من 3-14/حزيران/1992 حيث جاء في المبدأ الثاني مـن مقررات المؤتمر (ان الدول تملك وفقاً لميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي حقاً سيادياً في استغلال مواردها بيئياً وانمائياً وهي مسؤولة عن ضمان عدم التسبب في اضرار البيئة لها او لمناطق واقعة خارج حدود ولايتها الوطنية وعليها ان تضع التشريعات الكفيلة بمنع حدوث ذلك).
ومن الدول التي اخذت بهذا المنهج في سن قانون العقوبات البيئي الصين وبلجيكا والدنمارك والنرويج وهولندا وسويسرا ولوكسمبورج وألمانيا. وعلى أساس ذلك فأننا نوجه عناية المشرع العراقي الى بسط مضلة الحماية الجنائية الفعاله لعناصر البيئة بكيفية تتواكب مع التحولات العلمية والتطورات الحديثة في مجال اكتشاف التلوث البيئي لاسيما بعد ان اصبحت الاعتداءات البيئية محل استهجان الضمير الاجتماعي.
ووفقاً لهذا المنظور سيتأكد الاستقلال الذاتي لدور القانون الجنائي في حماية البيئة حيث ان قانون العقوبات البيئي الذي بدأ يتشكل كفرع مستقل من فروع القانون سيؤكد صفته المستقلة متوازياً مع التطور العلمي الحاصل في هذا المجال وهو يعد بحق مجالاً جديداً وفتحاً لآفاق ربط العلم بالقانون من اجل مواجهة الاخطار الحقيقية والأضرار المحتملة الناجمة عن التلوث.
الخاتمة:
ان الافعال التي تأخذ معنى السلوك الذي يشكل اعتداءً على البيئة باتت اليوم لاتقع تحت حصر، حيث اقتضى هذا التنوع تعدد الجزاءات التي تفرض على من يخالف القوانين البيئية بشكل عام ولكي نحد من اتساع دائرة الاضرار والانتهاكات لعناصر ومكونات البيئة فقد انتهى الفقه القانوني الى الحلول المتمثلة بفرض الجزاءات الجنائية واقرار المسؤولية عن التصرفات المنطوية على تهديد خطير للبيئة وعلى الرغم من تعدد القوانين ذات الصلة بحماية البيئة في العراق الا انها تميزت بعدم الشمولية وعدم الاتساق والتشتت وضعف الجزاءات المقررة التي تتنوع بحسب جسامة الجريمة البيئية ادارياً ومدنياً وجزائياً، ونعتقد ان حماية البيئة مما يتهددها من اخطار لاتعني ان ينعزل الانسان ويعيش حياة بدائية ولكنها تعني حقاً التفاعل العقلاني والرشيد مع مكونات البيئية من دون اسراف او اهدار لهذه المكونات ومن هذا المنطلق فأننا سنكافح الصيد العشوائي والرعي الجائر وقطع الاشجار وتلويث المياه والهواء وبالجملة علينا ان نحظر كل فعل من شأنه ارهاق الانظمة البيئية المتوازنة والتي طالما تعلقت بمستقبل الانسان على هذا الكوكب، واخيراً فأن مشكلات الحماية القانونية للبيئة في العراق آخذة في التفاقم وهي بلا شك تأخذ ابعاداً مختلفة اجتماعية واقتصادية وقانونية ويتعين على المهتمين بشؤون البيئة ونخص منهم بالذكر وزارة البيئة ووزارة الصحة ووزارة الداخلية وامانة بغداد ومجالس المحافظات كافة بضرورة معالجة قضية البيئة من منظور عمليتي التخطيط والتنمية وتعميق الــوعي البيئي، وقد آن الآوان لأن تتكاتف جميع هذه المؤسسات الرسمية مع منظمات المجتمع المدني والاحزاب السياسية في سبيل توفير بيئة اكثر صحية واكثر نقاوة للمواطن العراقي الذي عانى كثيراً من تلويث البيئة من الناحيتين الداخلية والدولية ـ فالهواء النظيف والماء غير الملوث والتربة الخصبة جزء من الاحتياجات الضرورية للوجود البشري المحترم وان تلويث أي منهما او إتلافه او الاساءة اليه ليس إفقارا للطبيعة وحسب بل هو ايضاً قتل لحاسة الجمال وخصب الخيال وفسحة الاحلام. ومثل هذا القرار يصدره المجتمع كمثل اجماعهِ على ضرورة التعليم والامن والدفاع، وما أخال تعبيراً اكثر دقة واعظم معنى من قول المصطفى صلى الله عليه واله وسلم الذي نستعيره للدلالة على ان المجتمع بحكم كونه يعيش بيئة واحدة محدودة الاطار مقدرة العناصر والمكونات كمثل (سفينة أصاب بعضهم أعلاها وبعضهم اسفلها فكان الذين في اسفلها اذا استقوا من الماء مرو على من فوقهم فقالوا: لو انا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا فأن يتركوهم وما ارادوا هلكوا جميعاً وان اخذوا على ايديهم نجوا ونجوا جميعاً) صدق رسول الله.