الاعتراض على الحكم الغيابي طريق من طرق الطعن في الإحكام بمقتضاه يتقدم من صدر حكم عليه في غيبته إلى المحكمة التي أصدرته طالبا" سحبه وإعادة نظر الدعوى من واقع دفاعه الذي لم يبده حال صدور الحكم الغيابي ضده
فالإحكام الغيابية تصدر من دون إن تستمع المحكمة إلى دفوع المحكوم عليه أو توضيحه لما دفع به وقد يكون معذورا" في عدم حضوره المرافعة في الوقت المعين , فاستغل خصمه الفرصة فاستصدر حكما" ضده , وقواعد العدالة تلبي إن يوصد الباب على المحكوم عليه لأداء بما عنده من دفع في موضوع الدعوى لذلك فتح له القانون باب الاعتراض على الحكم الغيابي .
فان شاء دخل منها للدفاع عن حقه وان شاء بقى صامتا" والعهدة عليه فالاعتراض على الحكم الغيابي هو تجسيد لحق الدفاع للخصم الذي حكم عليه غيابيا" لان القاعدة إن يقضي على شخص يغير سماع دفاعه أو تتاح له الفرصة للمناسبة في الأقل للإدلاء بما عنده إمام القاضي الذي يفصل في الدعوى ولا يجوز مطلق الإخلاء بهذا الحق فهو من الحقوق المقدسة وهو أهم إسرار قدسية اختصاص القضاء ووجوب منحه الولاية العامة في احد الفصل بجميع المنازعات والاهم هو جمع الطرفين في مرافعة .
وهذا الطريق من طرق الطعن في الإحكام مرتبط بإجازة القوانين لإصدار الإحكام على الخصم في غيبته إلا إن الأصل الصحيح المتفق عليه مع طبيعة العمل القضائي هو إن تصدر الإحكام بعد سماع المحكمة لأقوال ودفوع طرفي النزاع , وقد منعه بعض الفقهاء المسلمين كالحنفية وفي رواية احد الحكم على الغائب ودليلهم في ذلك قوله تعالى (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون) .
فدل هذا الذم على وجوب الحضور للحكم , ولو نفذ هذا الحكم مع الغيبة لم يجب الحضور ولم يستحق الذم على عدم جواز القضاء على الغائب واستدلوا أيضا" بما روى عن الإمام علي (عليه السلام) انه قال :- ولآني رسول الله (ص) اليمن وقال لي ((يا علي إن الناس سيتقاضون إليك , فإذا أتاك الخصمان فلا تقيضن لأحد الخصمين حتى تسمع من الأخر كما سمعت من الأول فانه أحرى إن يتبين لك القضاء وتعلم لمن الحق , قال عليه السلام :- فما شككت في قضاء بعد)) وكذلك استدلوا بما روي عن عمر (رض) انه أتاه رجل فقئت عينه فقال عمر :- تحضر خصمك :- قال له يا أمير المؤمنين إما بك من الغضب إلا ما أرى فقال عمر :- فلعلك قد فقات عيني خصمك معا" , فحضر خصمه قد فقلت عيناه معا" فقال عمر :- إذا سمعت حجة الأخر بان القضاء وقالوا بان حضور الخصم لتحقق الإنكار , شرط لصحة الحكم , فإذا لم يحضر لم يصح الحكم .
في حين ذهب أغلبية فقهاء المسلمين إلى جواز الحكم على الغائب كالشافعية والمالكية والحنابلة والظاهرية والأمامية .. فقالوا بجواز سماع الدعوى والحكم عليه إذا أكملت باقي الشروط واستدلوا بقوله تعالى ((يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق))
. فقد أمره بالحكم بالحق ولم يقيده بحاضر أو غائب فهو على عمومه واستدلوا بما روى عن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان الذي روته عن عائشة أنها أتت النبي (ص) وقالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح ولا يعطني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني ألا ما أخذت من ماله بغير علمه فهل علي في ذلك من جناح قال رسول الله (ص) :- خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك .
وقد ذهب الفقهاء إلى جواز القضاء على الغائب مخصوص بحقوق الآدميين فان حقوق الله تعالى التي تدرا بالشبهات فلا يجوز القضاء بها على غائب كحد الزنا وحد الخمر لاتساع حكمهما بالمهلة , فإذا كان مما يجمع فيه بين حق الله تعالى وحق الآدمي قضي على الغائب بالغرم ولم يقضي عليه بالقطع إلا بعد حضوره .
وفي كل الأحوال لا بد للقاضي إن يحلف المدعي اليمين فلا يحكم له إلا بعد سماع البينة إلا بعد أحلافه بالله , وإنما احلفه قبل الحكم لان المحكوم عليه لو كان حاضرا" لجاز إن يدعي ذلك فيستحق اليمين , فلم يكن له إمضاء الحكم مع هذا الاحتمال إلا بعد الاحتياط فيه وذهب بعض الفقهاء إلى وجوب إن يطالب القاضي المحكوم له بكفيل بجواز إن يتجدد ما يوجب بطلان الحكم فيؤخذ به الكفيل .
في حين ذهب آخرون إلى إن المطالبة بالكفيل لا تجب لأمرين احدهما أنها كفالة بغير مستحق أخرهما إن القضاء على الغائب كالقضاء على الميت والصبي وليس يلزم اخذ الكفالة في القضاء عليها كذلك لا تلزمه في القضاء الغائب والمقصود بالغائب لديهم هو الخصم البعيد عن محل القضاء بمسافة تعادل مسافة قصر الصلاة فما فوقها أو هو الخصم المقيم في غير ذلك بلد القاضي إما الخصم المتغيب في البلد فانه كالحاضر يقضي عليه بلا خلاف فإذا استدعاه القاضي فامتنع أمر بإحضاره تنفيذا" لقوله تعالى ((إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إن يقولوا سمعنا واطعنا
وأولئك هم المفلحون)) .
وعلى أية حال فان للإحكام الغيابية من الخطورة التي لا يمكن تلافيها .. بيد إن التباعد أكثر الناس من الحضور لسماع كلمة الفصل في المحاكم لو علموا أنهم لا يحكم عليهم وهم غائبون حدى بالقانون إلى جواز الحكم على الغائبين بلا إن يبدو للمحكمة عذرا" مقبولا" وهم قد أبلغو بالحضور فيها .. وكان إن فتح لهم باب الاعتراض على الحكم الغيابي , فان رضوا بالحكم فلا ضرر منه إذن وان تظلموا منه فلهم حق الاعتراض عليه , فكان الحكم الغيابي وسيلة إلى إخبار الخصم للحضور إمام المحكمة لسماع الدعوى عليه وسماع دفعه إياها ومن عنده من الكلام فيها فإذا تم تبليغ الخصم أمكن إجراء المرافعة بحقه غيابيا" حفاظا" على حقوق الناس من الضياع ولأنه تبلغ ولم يحضر فهو المضيع لحقه والمتسبب في عدم استماع حجة القاضي أو دفعه لحجة خصمه .
منقول