الصوت اللغوي في القرآن (الجزء الثاني)
في موضوع سابق طرحت الصوت اللغوي في القرآن (الجزء الأول)
اليوم سنستعرض الجزء الثاني من الموضوع
نبدأ على بركة الرحمن
العناصر التي تسهم في إخراج الأصوات
لقد أهتم علماء الأصوات المحدثون بوصف الجهاز الصوتي ، وبيان وظيفته في تفصيل دقيق استعانوا على تحقيقه بعلم الصوت الفسملجي ، فأعطوا ثمرات جيدة ومفيدة ، ولكنها لا تختلف إلا قليلاً عن معطيات قدماء العرب ، ولقد اقتصر العالم اللغوي دي سوسور ( 1857 ـ 1913م ) أبرز لغوي أوروبي في العصر الحديث ، اقتصر في وصفه لجهاز الصوت على تجويف الأنف ، وتجويف الفم ، والحنجرة بما في ذلك فتحة لسان المزمار الواقعة بين الوترين الصوتيين ، وكانت المفردات التي أخضعها للدراسة عبارة عن الشفتين ، واللسان ، والأسنان العليا ، والحنك ، واللهاة.
يقول دي سوسور : « إن فتحة لسان المزمار تتألف من عضلتين موازيتين ، أو حبلين صوتيين ، تفتح كلما ابتعدت العضلتان ، بعضهما عن بعض ، وتغلق عندما تقتربان ، وعندما تتسع الفتحة تسمح بدخول الهواء بحرية كاملة فلا يحدث أي تذبذب في الوترين الصوتيين . في حين يحدث مثل هذا التذبذب ( الصوت ) عندما تكون الفتحة ضيّقة . وليس لهذه العملية في إخراج الأصوات بديل عادة .
إن التجويف الأنفي عضو غير متحرك ، ولا يمكن إيقاف تدفق الهواء فيه إلا برفع اللهاة . فهو عبارة عن باب مفتوح أحياناً .
أما تجويف الفم ، فالاحتمالات التي يوفرها أكثر : إذ يمكن استخدام الشفتين لزيادة طول القناة ( تجويف الفم ) كما يمكن دفع الفكين إلى الخارج أو تقليصهما نحو الداخل . وللشفتين واللسان حركات كثيرة مختلفة يمكن استخدامها ، ويتناسب دور هذه الأعضاء في إخراج الأصوات تناسباً طردياً مع مرونة حركتها ، فالحنجرة والتجويف الأنفي ثابتان ، لهما وظيفة ثابتة . . . ويستطيع المرء أن يخرج صوتاً حنجرياً بشد الوترين الصوتيين ، ولكن الحنجرة لا تستطيع أن تخرج أصواتاً متنوعة . . . أما القناة الأنفية فليس لها من وظيفة في النطق سوى إحداث رنين للذبذبات الصوتية . . . وعلى العكس من ذلك يسهم تجويف الفم في إخراج الأصوات وإحداث الرنين .
وموجز القول : إن العناصر التي تسهم في إخراج الأصوات هي :
لهواء إلى الخارج ، والنطق في الفم ، وتذبذب في منطقة الحنجرة ، والرنين الأنفي .
إذن : إندفاع الهواء من الرئتين + النطق في الفم + التّصويت في الحنجرة + الرنين في الأنف = إحداث الأصوات .
بهذا أعطى دي سوسور تفصيلاً مكثفاً لإحداث الأصوات وتوليدها من أجهزتها ، ولكن هذا التفصيل لم يكن ليتأتى له لولا تطور الدراسات الصوتية فسلجياً وفيزيائياً وتشريحياً ، أما الخليل فقد اهتدى لذلك فطرياً على وجه العموم ، واكتشف ولأول مرة كل التفصيلات الصحيحة لجهاز النطق وإحداث الصوت بذهنيته الوقادة دون الاستعانة بأي علم يتسع لمثل إبداعاته الصوتية في بيئته البدوية .
ولم يكن فهم الخليل لأبعاد إحداث الأصوات بمنأى عن الفهم عند دي سوسور ، بل لقد زاد عليه ـ كما عرفت سابقاً ـ في كثير من الخصوصيات الانطلاقية لهذه الأجزاء ـ التي قد تعتبر أولية في مدرسته الصوتية ـ تنم عن إدراك متكامل للموضوع ، وتمرس عميق في قضايا صوتية معقدة .
الصوت في منهجية سيبويه
ولو تركنا الخليل ذاته إلى من تأثر بمدرسته لوجدنا جهوداً صوتية متناثرة ، تستند في أغلبها إلى مبتكرات الخليل ، توافقه حيناً ، وتخالفه حيناً آخر . فأعضاء النطق مثلاً عند الخليل وعند سيبويه ( ت : 180هـ ) واحدة ، والحروف في مدارجها ، ويعني بها الأصوات تبعاً للخليل ، تبدأ بأقصى الحلق ، وتنتهي بالشفتين ، فهي عند سيبويه كما هي عند الخليل.
ولكن ترتيب الحروف في كتاب سيبويه تخالف ترتيب الخليل ، فحينما وضع الخليل الأبجدية الصوتية للمعجم العربي مبتكراً لها ، خالفه سيبويه في ترتيب تلك الأصوات ، إذ بدأ بالهمزة والألف والهاء ، وقدّم الغين على الخاء ، وأخر القاف عن الكاف وهكذا . . .
يتضح هذا من ترتيبه للحروف على هذا النحو :
همزة . ا . هـ .
ع . ح . غ . خ .
ك . ق .
ض . ج . ش .
ي . ل . ر .
ن . ط . د .
ت . ص .
ز . س . ظ .
ذ . ث . ف .
ب . م . و .
وهذا وإن كان خلافاً جوهرياً في ترتيب مخارج الأصوات ، إلا أنه لا يعني أكثر من العملية الاجتهادية في الموضوع دون الخروج عن الأصل عند الخليل . « كذلك نلاحظ اختلافاً واحداً في ترتيب المجموعات الصوتية بالنظر إلى تقدمها وتأخرها ، فقد جاءت حروف الصغير في كتاب العين بعد الضاد ، وهو حرف حافة اللسان ، والذي عند سيبويه بعد الضاد : حروف الذلاقة . ونتيجة لتقديم حروف الصفير ، فقد وضع مكانها حروف الذلاقة ، ومعنى ذلك أنه في العين حدث تبادل بين حروف الصفير وحروف الزلاقة ».
إن الاختلاف من هذا القبيل لا يعدو وجهة النظر الصوتية المختلفة ، ولكنه لا يمانع أن تكون آراء سيبويه في الكتاب امتداداً طبيعياً لمدرسة الخليل ، نعم لا ينكر أن لسيبويه ابتكارته المقررة ، فنحن لا نبخس حقه ، ولا نجحد أهميته في منهجة البحث الصوتي ، فقد كان له فضل بذلك لا ينكر ، فتصنيفه لصفات الأصوات في الجهر والهمس والشدة والرخاوة والتوسط ، وكشفه لملامح الإطباق واللين ، وتمييزه لمظاهر الاستطالة والمد والتفشي ، كل أولئك مما يتوّج صوتيته بالأصالة .
قضايا الإدغام
ولسيبويه قدم سبق مشهود له في قضايا الإدغام ، وهي معالم صوتية في الصميم ، فقد قدم لها بدراسة علم الأصوات ، كما قدم الخليل معجمه بعلم الأصوات ، فالخليل قد ربط بين اللغة والصوت ، وسيبويه قد ربط بين قضايا الصوت نفسها ، لأن الإدغام قضية صوتية « ونحن نقرر هنا مطمئنين أن سيبويه قد وضع قواعد هذا البحث وأحكامه لا لفترة معينة من الزمن ،
بل يكاد يكون ذلك نهائياً ، وكان تصرفه فيها تصرفاً رائعاً ، صادراً عن عبقرية سبقت الزمن ، فلم يكن ممن جاء بعده من العلماء والباحثين إلا أن اتبعوا نهجه ، واكتفوا بما قال ، ولم يزيدوا بعد سيبويه على ما قال حرفاً ، بل أخدوا يرددون عباراته مع كتبهم ، ويصرحون بأنهم إنما يتبعون مذهبه ، سواء في ذلك علماء النحو وعلماء القراءة » .
وقد يكون في هذا الحكم مبالغة ، ولكنه مقارب للحقيقة في كثير من أبعاده ، إذ كان سبّاقاً إلى الموضوع بحق .
ومما يجلب الانتباة حقاً عند سيبويه في صفات الحروف ومخارجها ، هو تمييزه الدقيق بين صفة الجهر وصفة الهمس فيما أشرنا له في الفصل السابق فمصدر الصوت المجهور يشترك فيه الصدر والفم ، ومصدر الصوت المهموس من الفم وحده ، وبمعنى آخر أن للرئتين عملاً ما في صفة الجهر ، بينما ينفرد الفم بصفة الهمس .
فتعريف المجهور عنده : « حرف أشبع الاعتماد في موضعه ، ومنع النفس أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد عليه ، ويجري الصوت . بينما المهموس : حرف أضعف الاعتماد في موضعه حتى جرى النفس معه » .
وهو يعبر بالموضع هنا عن المخرج فيما يبدو ، ويجري الصوت عن الشيء الإضافي في حالة الجهر عن حالة الهمس التي يجري النفس معها لا الصوت . « وقد ظلت محاولة سيبويه تفسير المجهور والمهموس من الأصوات قانوناً سار عليه جميع من جاء بعده من النحاة والقراء . إلى أن جاءت بحوث المحدثين فصدقت كثيراً مما قاله في هذا الباب » (4) .
ومن المفيد الرجوع إلى ما فسره في هذا المجال أستاذنا المرحوم الدكتور ابراهيم أنيس فقد أشبعها بحثاً وتنويراً .
ولا يمكن في منظورنا أن تفصل سيبويه عن مدرسة الخليل في اللغة والأصوات ، فهو الممثل الحقيقي لها فيما نقل لنا من علم الخليل في الكتاب ، وتبقى مدرسة الخليل الصوتية مناراً يستضاء به في كثير من الأبعاد لمن جاء بعده . فابن دريد ( ت : 321هـ ) مثلاً ، يذكر في مقدمة الجمهرة إفاضات الخليل بعامة ، ويضيف إليها بعض الإشارات في ائتلاف الحروف والأصوات ، ولكن هذا بالطبع لا يخرجه عن إطار هذه المدرسة في كل الأحوال ، فلديه على سبيل المثال جملة كبيرة من التسميات المتوافقة مع الخليل كالأصوات الرخوة ، والأصوات المطبقة ، والأصوات الشديدة . كما أن له بعض الاجتهادات الصوتية في أكثر الحروف وروداً في الاستعمال ، فأكثرها الواو والياء والهاء ، واقلها الظاء ثم الذال ثم الثاء ثم الشين ثم القاف ثم الخاء ثم النون ثم اللام ثم الراء ثم الباء ثم الميم .
ولا تعلم صحة هذا الاجتهاد إلا بالإحصاء . وليس كثيراً على ابن دريد الإحصاء والاستقصاء .
وبعد مدرسة الخليل نجد ابن جني ( ت : 392 هـ ) مؤصل هذا الفن ومبرمجه ، وأول مضيف له إضافات مهمة ذات قيمة منهجية في الدراسات الصوتية ، بما تواضعنا على تسميته بـ ( الفكر الصوتي عند ابن جني ) أو أن جهود ابن جني في الأصوات ارتفعت إلى مستوى الفكر المخطط والممنهج ، فأفردناه ببحث خاص ، إذ انتهل من هذا الفكر رواد هذا الفن .
الفكر الصوتي
الفكر الصوتي عند ابن جنى
نهض ابن جني ( ت : 392هـ ) بأعباء الصوت اللغوي بما يصح أن نطلق عليه اسم الفكر الصوتي ، إذ تجاوز مرحلة البناء والتأسيس إلى مرحلة التأصيل والنظرية ، فقد تمحض لقضية الأصوات في كتابه ( سر صناعة الإعراب ) مما جعله في عداد المبدعين ، وخطط لموضوعات الصوت مما اعتبر فيه من المؤصلين ، ونحن الآن بأزاء بيان المبادىء العامة لفكره الصوتي دون الدخول في جزئيات الموضوع .
ويجدر بنا في بداية ذلك أن ننتبه لملحظين مهمين ونحن نستعرض هذا الفكر في سر صناعة الاعراب :
أ ـ إن ابن جني كان أول من استعمل مصطلحاً لغوياً للدلالة على هذا العلم ما زلنا نستعمله حتى الآن وهو « علم الأصوات » .
ب ـ إن ابن جني يعدّ الرائد في هذه المدرسة ، وكان على حق في قوله في كتابه : « وما علمت أن أحدا من أصحابنا خاض في هذا الفن هذا الخوض ، ولا أشبعه هذا الإشباع . . .
وبدءاً من المقدمة يعطيك ابن جني منهجه الصوتي ، لتقرأ فيه فكره ، وتتلمس فلسفته ، وتتثبت من وجهته ، فيذكر أحوال الأصوات في حروف المعجم العربي ( من مخارجها و مدارجها ، وانقسام أصنافها ، وأحكام مجهورها ومهموسها ، وشديدها ورخوها ، وصحيها ومعتلها ، ومطبقها
و منفتحها ، وساكنها ومتحركها ، ومضغوطها ومهتوتها ، ومنحرفها و مشرّبها ، ومستويها ومكررها ، ومستعليها ومنخفضها ، إلى غير ذلك من أجناسها »
وابن جني في هذا الاسترسال السلس يعطينا مهمة الفكر الصوتي في تحقيق المصطلحات بعامة عن طريق تشخيص المسميات التي أسماها ، وإن سبق إلى بعضها عند الخليل وسيبويه وهو لا يكتفي بهذا القدر حتى يبحث الفروق ، ويعين المميزات ويذكر الخصائص لكل حرف من هذه الأصناف ، ويفرق بينها وبين الحركات ، مع لوازم البحث ومقتضياته ، إلماماً بجميع الجوانب ، وتنقيباً عن كل النوادر المتعلقة بهذه الأبواب فيقول:
« وأذكر فوق مابين الحرف والحركة ، وأين محل الحركة من الحرف : هل هي قبله أو معه أو بعده ؟ وأذكر أيضاً الحروف التي هي فروع مستحسنة ، والحروف التي هي فروع مستقبحة ، والحركات التي هي فروع متولدة عن الحركات ، كتفرع الحروف من الحروف . وأذكر أيضاً ما كان من الحروف في حال سكونه له مخرج ما ، فإذا حرك أقلقته الحركة ، وأزالته عن محله في حال سكونه ، وأذكر أيضاً أحوال هذه الحروف في أشكالها ، والغرض في وضع واضعها ، وكيف ألفاظها ما دامت أصواتاً مقطعة ، ثم كيف ألفاظها إذا صارت أسماء معرفة ، ما الذي يتوالى فيه إعلالان بعد نقله ، مما يبقى بعد ذلك من الصحة على قديم حاله ، وما يمكن تركبه ومجاورته من هذه الحروف وما لا يمكن ذلك فيه ، وما يحسن وما يقبح فيه مما ذكرنا ، ثم أفرد ـ فيما بعد ـ لكل حرف منها باباً أغترف فيه ذكر أحواله وتصرفه في الكلام من أصليته وزيادته ، وصحته وعلته ، وقلبه إلى غيره ، وقلب غيره إليه »
عمق الفكر الصوتي
إن هذا المنهج يكشف عن عمق الفكر الصوتي عند ابن جني إذ يعرض فيه عصارة تجاربه الصوتية دقيقة منظّمة ، ويتفرغ لبحث أصعب المشكلات الصوتية بترتيب حصيف يتنقل فيه من الأدنى إلى الأعلى ، ومن البسيط إلى المركب حتى إذا تكاملت الصورة لديه ، بدأ بالبحث المركز ،
فلا ترى حشوة ولا نبوة ، ولا تشاهد تكرارا أو اجتراراً ، فأنت بين يدي مناخ جديد مبوب بأفضل ما يراد من التصنيف والتأليف ، فلا تكاد تستظهر علما مما أفاض حتى يلاحقك علم مثله كالسيل اندفاعاً ، ولعل أبرز ما تعقبه في سر صناعة الاعراب لصوقا بجوهر الصوت الخالص البحوث الآتية :
1 ـ فرق ما بين الصوت والحرف .
2 ـ ذوق أصوات الحروف .
3 ـ تشبيه الحلق بآلات الموسيقى ( المزمار ، العود ) .
4 ـ اشتقاق الصوت والحرف .
5 ـ الحركات أبعاض حروف المد .
6 ـ العلل وعلاقتها بالأصوات .
7 ـ مصطلحات الأصوات العشرة التي ذكرها آنفاً مع ما يقابلها .
8 ـ حروف الذلاقة والأصمات .
9 ـ حسن تأليف الكلمة من الحروف فيما يتعلق بالفصاحة في اللفظ المفرد ، وتأصيل ذلك على أساس المخارج المتباعدة .
10 ـ خصائص كل صوت من حروف المعجم ، وحيثياته ، وجزئياته كافة ، بمباحث متخصصة لم يسبق إليها في أغلبها ، فهي طراز خاص في المنهج والعرض والتبويت .
ولو أضفنا إلى مباحث ( سر صناعة الإعراب ) جملة من مباحثه في جهوده الأخرى لا سيما في كتاب ( الخصائص ) لتوصلنا من ضم بعضها لبعض إلى مجموعة مفضلة من مباحث الصوت اللغوي يمكن رصدها وتصنيفها على النحو الآتي :
1 ـ الصوامت من الحروف والصوائت .
2 ـ علاقة اللهجات بالأصوات .
3 ـ علاقة الإعراب بالأصوات .
4 ـ التقديم والتأخير في حروف الكلمات وتأثيرهما على الصوت .
5 ـ علاقة الأفعال بالأصوات .
6 ـ الإعلال والإبدال والإدغام وأثرها في الأصوات .
7 ـ الأصوات وعلاقتها بالمعاني .
8 ـ زيادة المبنى الصوتي وأثره في المعنى .
الأصول العامة لمباحث الصوت
ويبدو لي أن هذه هي أهم الأصول العامة لمباحث الصوت اللغوي عند ابن جني في كتابيه ، والتوسع في كل أصل يقتضي بحثاً متكاملاً في كل مقوماته ، وبذلك يتوصل إلى فكره الصوتي ، في العرض والأسلوب والنتائج ، والسبيل ميسرة أمام الباحثين ، ولا بد لنا من الإشارة لملامح هذا الفكر في نقاط ، لأننا لسنا بأزاء تتبعه ، بل بأزاء القربة إليه لرصد مميزاته ومنهجه في المعالجة والإفاضة والتصنيف .
أولاً : لقد تتبع ابن جني الحروف في المخارج ، ورتبها ونظمها على مقاطع مستفيداً بما ابتكره الخليل ، إلا أنه كان مخالفاً له في الترتيب ، وموافقاً لسيبويه في الأغلب إلا في مقام تقديم الهاء على الألف ، وتسلسل حروف الصفير
ويرجح الدكتور حسام النعيمي أن تقدم الهاء على الألف في كتاب سيبويه من عمل النسّاخ ، لأن ابن جني ـ وهو أقرب إلى عصر سيبويه من النسّاخ المتأخرين ـ قد نصّ على أن الألف مقدمة على الهاء عند سيبويه ، وإن حروف الصفير وهي ( الزاي ، السنين ، الصاد ) من مخرج واحد فلا يتقدم أحدها على الآخر ، فلم يبال بالتقديم والتأخير بينها لذلك
وهكذا كان ترتيب الحروف عند ابن جني على ترتيب المخارج : الهمزة ، الألف ، الهاء ، العين ، الحاء ، الغين ، الخاء ، القاف ، الكاف ، الجيم ، الشين ، الياء ، الضاد ، اللام ، الراء ، النون ، الطاء ، الدال ، التاء ،
الصاد ، الزاي ، السين ، الظاء ، الذال ، الثاء ، الفاء ، الباء ، الميم ، والواو ـ
وهذا الترتيب مخالف للخليل ، وفيه بعض المخالفة لسيبويه في ترتيبه كما يظهر هذا لدى المقارنة في جدولة الترتيبين كما سبق .
وابن جني لا يخفي هذا الخلاف بل ينص عليه ، ويذهب إلى صحة رأيه دونهما فيقول :
« فهذا ترتيب الحروف على مذاقها وتصعدها ، وهو الصحيح ، فأما ترتيبها في كتاب العين ففيه خطل واضطراب ، ومخالفة لما قدمناه آنفاً محاربته سيبويه ، وتلاه أصحابه عليه ، وهو الصواب الذي يشهد التأمل له بصحته » .
ثانياً : ويضيف ابن جني إتماماً لنظريته في الأصوات : ستة أحرف مستحسنة على حروف المعجم العربي ، وثمانية أحرف فرعية مستقبحة ، ولا يصح ذلك عنده إلا بالسمع والمشافهة ، حتى تكون حروف المعجم مع الحروف الفرعية المستحسنة خمسة وثلاثين حرفاً ، وهما مع الحروف الفرعية المستقبحة ثلاثة وأربعون حرفاً .
ولا معنى لهذه الإضافات من قبله لو لم يكن معنياً بالصوت ، فحروف العربية تسعة وعشرون حرفاً ، لا شك في هذا ، ولكن الحروف المستقبحة والمستحسنة التي أضافها ، وإن لم يكن لها وجود في المعجم العربي ، إلا أن لها أصواتاً في الخارج عند السامعين ، وهو إنما يبحث في الأصوات فأثبتها ، فعادت الأصوات في العربية عنده ثلاثة وأربعين صوتاً ، وهو إحصاء دقيق ، وكشف جديد ، وتثبيت بارع .
وقد ذهب ابن جني في هذه الحروف مذهباً فنياً تدل عليه قرائن الأحوال ، فهو يعطي استعمالها في مواطنه ، وتشخيصها في مواضعه ، فالحروف المستحسنة عنده ، يؤخذ بها في القرآن وفصيح الكلام