من أهل الدار
اجبروا الخواطر
تاريخ التسجيل: October-2012
الجنس: أنثى
المشاركات: 15,991 المواضيع: 2,267
صوتيات:
90
سوالف عراقية:
0
وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّـكُم بِاللَّيْلِ ويَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ
قال الله عز وجل في محكم كتابه الكريم:
(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَيَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَة إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّة فِى ظُلُمَـتِ الاَْرْضِ وَلاَرَطْب وَلاَيَابِس إِلاَّ فِى كِتَـب مُّبِين(59) وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّـكُم بِاللَّيْلِ ويَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كِنتُمْ تَعْمَلُونَ
(60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ(61)ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَـهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَـسِبِينَ)(62) سورة الأنعام
في الآية الثانية ينتقل الكلام الى إِحاطة علم الله بأعمال الإِنسان وهو الهدف الأصلي وإِلى بيان قدرة الله القاهرة، لكي يستنتج الناس من هذا البحث الدروس التربوية اللازمة فتبدأ بالقول بأنّ الله هو الذي يقبض أرواحكم في الليل، ويعلم ما تعملون في النهار:
(وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار).
«توفى» تعني استرجع، فالقول بأنّ النوم هو استرجاع للروح يعود إِلى أنّ النوم أخو الموت، كما هو معروف، فالموت تعطيل كامل لجهاز الدماغ، وانقطاع تام في إِرتباط الروح بالجسد، بينما النوم تعطيل قسم من جهاز الدماغ وضعف في هذا الإِرتباط، وعليه فالنوم مرحلة صغيرة من مراحل الموت(1).
الجرح هو الفعل بالجارحة !«جرحتم» من «جرح»وهي هنا بمعنى الإِكتساب، أي أنّكم تعيشون تحت ظل قدرة الله وعلمه ليلا ونهاراً، وانّ الذي يعلم بإِنفلاق الحبّة ونموها في باطن الأرض، ويعلم بسقوط أوراق الأشجار وموتها في أي مكان وزمان، يعلم بأعمالكم أيضاً
وفيه إشارة إلى رحمته حيث يعلم مخالفتهم إياه ثم لا يعاجلهم بعقوبة ولا يمنعهم فضله ورحمته
ثمّ يقول: إِنّ نظام النوم واليقظة هذا يتكرر،فأنتم تنامون في الليل (ثمّ يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى)(2) أي ثمّ يوقظكم في النهار .. وتستمر هذه العملية حتى نهاية حياتكم.
ويبيّن القرآن النتيجه النهائية لهذا المبحث بالشكل التالي:
(ثمّ إِليه مرجعكم ثمّ ينبّئكم بما كنتم تعملون).
وفي الآية الثّالثة توضيح أكثر لإِحاطة علم الله بأعمال عباده وحفظها بكل دقة ليوم الحساب، بعد أن يسجلها مراقبون مرسلون لإِحصاء أعمالهم: (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة).
«القاهر» هو المتسلط الغالب المهيمن الذي لا تقف أمامه أية قوّة، ويرى بعضهم هذه الكلمة تستعمل حيث يكون المقهور عاقلا.
أمّا كلمة «الغالب» فليست فيها هذه الخصوصية، فهي عامّة واسعة المعنى.
«حفظة» جمع «حافظ» وهم هنا الملائكة الموكّلون بحفظ أعمال الناس، كما جاء في سورة الإِنفطار، الآيات 10 ـ 13:
(إن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون).
ويرى بعض المفسّرين أنّهم لا يحفظون أعمال الإِنسان، بل هم مأمورون بحفظ الإِنسان نفسه من الحوادث والبلايا حتى يحين أجله المعين، ويعتبرون (حتى إِذا جاء أحدكم الموت) بعد «حفظة» قرينة تدل على ذلك، كما يمكن اعتبار الآية (11) من سورة الرعد دليلا عليه كذلك(3).
ولكنّ بالتدقيق في مجموع الآية التي نحن بصددها نتبيّن أنّ القصد من الحفظ هنا هو حفظ الأعمال، أمّا بشأن الملائكة الموكّلين بحفظ الناس فقد ورد في سورة الرعد قوله تعالى:
( لَهُ مُعَقِّبَتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ)
ما هي المعقّبات؟
«المعقّبات» كما جاء في مجمع البيان للعلاّمة الطبرسي وكما قاله بعض المفسّرين جمع (معقبة) وهي بدورها جمع (معقّب) ومعناه المجموعة التي تعمل بشكل متناوب ومستمر. والظاهر من الآية أنّ الله سبحانه وتعالى أمر مجموعة من الملائكة بأن يحفظوا الإنسان في الليل والنهار ومن بين يديه ومن خلفه.
إنّ الإنسان ـ بدون شك ـ معرّض في حياته إلى كثير من الحوادث الروحية والجسمية، فالأمراض والمتغيّرات في السّماء والأرض محيطة بالإنسان، وخصوصاً في مرحلة الطفولة التي لا يدرك فيها ما يجري حوله ويكون هدفاً سهلا للإصابة بها، فقد يتعجّب الإنسان كيف ينجو الطفل وينمو من بين جميع هذه الحوادث، وخصوصاً في العوائل التي لا تدرك هذه المسائل وتعاني من قلّة الإمكانيات كأبناء الريف الذين يعانون من الحرمان والفقر وهم معرضون للأمراض أكثر من غيرهم.
وإذا ما أمعنّا النظر في هذه المسائل فسوف نجد أنّ هناك قوى محافظة، تحفظ الإنسان في مقابل هذه الحوادث كالدرع الواقي.
وكثيراً ما يتعرّض الإنسان إلى حوادث خطرة ويتخلّص منها بشكل إعجازي تجعله يشعر أنّ كلّ ذلك ليس صدفة وإنّما هناك قوى محافظة تحميه.
وهناك كثير من الأحاديث المنقولة عن أئمّة المسلمين تؤكّد ذلك ومن جملتها: الحديث المروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير هذه الآية يقول: «يحفظ بأمر الله من أن يقع في ركي أو يقع عليه حائط أو يصيبه شيء، حتّى إذا جاء القدر خلوا بينه وبينه يدفعونه إلى المقادير، وهما ملكان يحفظانه بالليل وملكان من نهار يتعاقبانه».
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول:
«ما من عبد إلاّ ومعه ملكان يحفظانه فإذا جاء الأمر من عند الله خليا بينه وبين أمر الله».
ونقرأ في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) :
«إنّ مع كلّ إنسان ملكين يحفظانه فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه».
كما نقرأ في نهج البلاغة في وصف الملائكة من الخطبة الأُولى «ومنهم الحفظة لعباده».
إنّ عدم إدراكنا لوجود المعقّبات عن طريق الحسّ أو التجربة العلمية ليس دليلا على عدم وجودهم، لأنّه غير منحصر في هذا المجال فقط، فالقرآن الكريم والمصادر المعرفية الأُخرى أشارت إلى اُمور كثيرة وراء الحسّ والتي لا يمكن إثباتها بالطرق العادية. وأكثر من ذلك ما قلنا سابقاً من أنّنا نتعرّض في حياتنا إلى كثير من المخاطر والتي لا يمكن النجاة منها إلاّ بوجود هذه القوى المحافظة
ثمّ يبيّن القرآن الكريم أن حفظ الأعمال يستمر حتى نهاية الأعمار وحلول الموت:
(حتى إِذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا).
وتبيّن الآية في النهاية أنّ هؤلاء الملائكة لا يقصرون ولا يفرطون في مهمتهم، فلا يتقدمون لحظة ولا يتأخرون في موعد قبض الروح.
ويحتمل أيضاً أنّ هذه الصفة ترتبط بالملائكة الذين يحفظون حساب أعمال البشر، فهم في حفظهم للحساب لا يصدر منهم أدنى تقصير أو قصور، والآية تركز على هذا القسم بالذات.
في الآية الاخيرة يشير القرآن الكريم إِلى آخر مراحل عمل الإِنسان، فيقول:
(ثمّ ردّوا إِلى الله مولاهم الحق)
أي عادوا إِلى الله بعد أنّ طووا مرحلة حياتهم، واختتم ملفهم الحاوي على كل شيءإشارة إلى رجوعهم إلى الله سبحانه بالبعث بعد الموت
وفيه تحليل لمعنى المولى ثم إثبات حق المولوية له تعالى، فالمولى هو الذي يملك الرقبة فيكون من حقه جواز التصرف فيها كيفما شاء، وإذ كان له تعالى حقيقة الملك، وكان هو المتصرف بالإِيجاد والتدبير والإِرجاع فهو المولى الحق الذي يثبت له معنى المولوية ثبوتاً لا زوال له بوجه البتة.
*************************************************
1 ـ هناك شرح أوفى لهذا في المجلد الثاني.
2 ـ الضمير في ـ «فيه» يعود على «النهار» و«يبعثكم» بمعنى يوقظكم وينهضكم، و«أجل مسمى» هو العمر المحدد لكل فرد.
3 ـ تفسير الميزان، ج 7، ص 134
المصدر:
تفسيرالأمثل في
سورتي الأنعام
و الرعد
تفسيرمجمع البيان
تفسير الميزان