دولةٌ بشوارب غليظةأحمد عبد الحسين
وُلدتْ الدولة العراقيّة من دون المرأة. لم يستشعرْ أحدٌ الحاجةَ إليها. إذْ ما نفع المرأة في دولةٍ ـ معسكرٍ؟ ما فائدتها في دولةٍ تناوب على خلقها عرفٌ عشائريّ ذكوريّ متوحش احتقر ذلك الجنس الذي يُنشّأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين؟
لم نحتج المرأة لتسهم في خلق العراق. ولا يبدو اننا نحتاج إليها الآن كذلك.
دولتنا دولة طوارئ منذ تأسيسها، دولة صيغتْ ليكون لها نظام حربيّ، وتخترقها في العمق علاقاتٌ عسكريّة، ويخطئ من يظنّ ان صعود العسكر إلى حكم العراق كان عرضاً طارئاً، لأننا في صميم وجداننا الجمعيّ والفرديّ، كما في خلاصة ثقافتنا المكوّنة لذواتنا التأريخيّة لا نطمئنّ إلا للقوّة العضليّة ولا ننقاد إلا لها.
حصة المرأة التي قنّنها الدينُ ورسم لها ملامح حادّة غليظة، أجهزتْ عليها أعرافٌ قبليّة كانتْ على الدوام أكبر مما قرّره الشرعُ وأكثر تأثيراً. أعراف هي في محصلة الأمر الحاكمة في المجتمع رغماً عن الدولة التي وجدتْ نفسها أخيراً أوهى وأضعف من أن تصطدم بهذا الجدار الصلد المكوّن من أعرافٍ متجاوزة للدين والدولة معاً.
من دون امرأة اجتمع رجال القبائل وأسسوا دولة سموها العراق، ومن دون امرأة صعد رجال إلى سدّة الحكم ليباشروا الهدم حروباً وتقتيلاً وغزوات، ومن دون المرأة أضاع رجال الدولة دولتهم، وها هم يرومون تأسيسها ثانية من دون المرأة.
في الدولة ـ المعسكر ليس للمرأة إلا أن تصبح مستودعاً لآلامها الخاصة، تشارك بأحزانها، بعزلتها وهي تعدّد أسماء أبنائها أو أخوتها الذين تختطفهم الدولة في حروبها مع الآخرين أو في حربها الداخلية التي لا تنتهي. وإذا كانتْ قد مرّتْ على أسماعنا هتافاتٌ (نزيهة صارت بالحكم، موتوا يا رجعية)، فإنها سرعان ما تلاشتْ أمام ضحكات "الرجعيّة" التي انتصرتْ ولم تزلْ إلى الآن تتخلل الدولة والمجتمع والثقافة، لتعود المرأة العراقيّة إلى صورتها القدرية التي لا تريد أن تنتهي: عباءة سوداء تضمّ جسداً منكسراً تحت وطأة دولةٍ ذكوريّة مسلّحة بجهل القرون.
كلما كانت تهتزّ شواربُ الرجل الأوحد كانتْ تحدث حربٌ ترسّخ مشهداً بات أليفاً تتوسطه نساء ينحن على ثمرات أرحامهنّ، أو أرامل يندبن ضياعهنّ. واليوم في حرب الرجال المجانين الأقوياء، في الشوارع الملأى بشوارب ولحى أهل الطوائف الذين يكره بعضهم البعض، لا يراد للمرأة أن تغادر تلك الصورة السوداء المؤبدة. حصتها في البرلمان لن تمسح غبار القرون عنها. والحريّة التي جرجرتها إلى مضاربنا دبابة أميركية صارتْ ـ بفضل المقدّسين لدينا ـ حرية أن يقتل الرجالُ الرجالَ تاركين المرأة في حصنها الحصين، حصن الأنظمة ـ الدينية والمجتمعية ـ التي أكرمتْها لفظاً وشعاراً وأمعنتْ في إذلالها وامتهانها واقعاً.
لن يكون للمرأة صوتٌ إلا صوتها الخاصّ. لن يسمعها أحد ما لم تخط خطوتها المستحيلة في مغادرة سجن الحريم الذي قد يتهدم العراق كلّه لكنه وحده يظلّ عامراً بسبايانا من النساء اللواتي آن لهنّ أن ينتفضن علينا، نحن الرجال الجوف الذين قد نتقاتل حتى الموت لكننا نتفق جميعاً على أن تظلّ المرأة عباءة سوداء وحجاباً غليظاً يستر عار عقائدنا.