TODAY - January 04, 2011
الجمداني.. قماش تغزله أنامل الصبايا في الصباح الباكر
صديق للبيئة وأجود أنواعه تنتج في بنغلاديش
نيودلهي: براكريتي غوبتا
قبل ظهور الديانة المسيحية بقرون كان سكان الهند معروفين بمهارتهم في الغزل، ومن هناك انتشرت هذه الصناعة إلى دول البحر المتوسط. ورغم تحديث هذه الصناعة ودخول الآلات في غزل الأقمشة، لا تزال هناك بعض الأنواع التي تظل حكرا على الهند ومصدر فخر لها، ومنها قماش «الجمداني»، الذي عاد إلى الصدارة في ظل هذا الهوس بالأقمشة الصديقة للبيئة. فهو ينحدر من قماش الموسلين القديم والمنسوج يدويا من القطن، وصديق للبيئة لأنه يصنع بواسطة أداة يتم تشغيلها باليد والقدم. وأساس هذا القماش هو خيوط من القطن ناصعة البياض دون إضافة مواد كيماوية ويتم عمل التصميم باستخدام هذه الخيوط مما يتيح عمل ظلال من الدرجات الفاتحة والداكنة. أما طريقة الغزل فتتم باستخدام مغزل يدوي ذي طراز قديم من خشب البامبو يوضع في حفرة غير عميقة، لتنتقل حركات الأيدي الماهرة بالخيط من جانب إلى آخر، فتتداخل الخيوط مع بعض منتجة أشكالا مختلفة، الجميل هنا أنه خلال عملية الغزل لا يصدر عن القماش أي صوت. ويقال إنه يبدو كأنه غزل من هواء نظرا لجودته وتفرده.
ونظرا للأشكال المتداخلة التي يحملها القماش المصنوع من أجود أنواع القطن، كان دائما أغلى قماش مصنوع يدويا منذ زمن بعيد ويحظى برواج من الهند إلى الصين وتركيا وإيطاليا من آلاف السنين.
ويستخدم القماش غالبا في صناعة الساري الهندي، لكنه أحيانا يستخدم في صناعة الأوشحة والمناديل ومنتجات أخرى، إلى حد أن الملابس المصنوعة من هذا القماش أصبحت جزءا لا يتجزأ من ملابس النساء، خاصة البنغاليات، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذا «الجمداني» هو مزيج من التقاليد البنغالية التي تعود إلى ألفي عام ومن التقنيات المختلفة الآتية من الشرق الأوسط. صناعة بعض أنواعه، خصوصا المستعملة في أزياء الزفاف والمناسبات الرسمية، يمكن أن تستغرق نحو 9 أشهر للحصول على تصميمات معقدة، بعضها من القطن الكامل أو بمزيج من القطن والحرير أو من الحرير الكامل أو من الحرير مع مجموعات من الغزل المطلي بالذهب أو الفضة أو المعادن النفيسة الحقيقية.
في البداية كان القماش ينسج باللون الأبيض ثم أصبح يزين بإطارات من اللون الأسود والرمادي والذهبي فيما بعد، ومن ثم ظهرت الألوان المختلفة في القرن التاسع عشر. وأهم ما يميز هذا النوع من القماش أن تصميماته لا تعد مسبقا أبدا، بل تصنع أثناء عملية الغزل من خلال إدخال الخيوط يدويا مما يجعله يبدو مثل التطريز.
في الماضي، كانت الشابات دون الثامنة عشرة هن اللواتي يفككن الخيوط لأن أصابعهن ناعمة ونحيفة، بينما كان أنسب وقت للعمل في الصباح الباكر لرطوبة الهواء.
أصل كلمة «جمداني» غير معروف على وجه الدقة، لكن ما هو مؤكد أن قماش الموسلين المطبوع قد عرف في عهد الإمبراطور أكبر (1556 - 1605) أو الإمبراطور جهانجير (1605 - 1627) أيام حكم المغول، باسم الجمداني. ويقال أيضا إن هذه الكلمة مشتقة من الكلمة الفارسية «جاما» التي تعني «قماش» و«دانا» التي تعني «الطبع برسوم» بمعنى «القماش المطبوع». وفي روايات أخرى يقال إن كلمة «جام» بالفارسية تعني زهرة و«داني» تعني مزهرية.
المهم أن المغول اكتشفوا جودة هذا القماش وأقروا بندرته. ففي عهد الإمبراطور جاهينغار وأورانجيب، كان نادرا ويقتصر على الأسر المالكة، حيث يكشف حجم التجارة عن وصول قماش الجمداني إلى ملوك المغول في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. وكان رائجا بين المغول صناعة الـ«أنجاركاس» وهو نوع من القمصان للرجال والنساء على حد سواء، من هذا القماش بالإضافة إلى بخارى وسمرقند وأجزاء أخرى من جنوب آسيا. وجذب قماش الجمداني فيما تلا ذلك من القرون شركات تصدير أوروبية قامت ببيعه بالتجزئة في مدن مثل هامبورغ ولندن ومدريد وكوبنهاغن. وبعد انتهاء حكم المغول، ظل قماش الجمداني يتطور برعاية نواب واجد علي شاه، الحاكم المحلي لتاندا ودكا، التابعتين لبنغلاديش حاليا. كان يتمتع غازلو دكا بالخبرة والمهارة في غزل تصميمات الساري الهندي والفساتين من الجمداني، بينما كان غازلو تاندا وفارانسي في إقليم أتر برديش يجيدون صناعة الساري الهندي والفساتين والمناديل والأوشحة والقبعات ومفارش الطاولات من غزل قماش الجمداني.
وأدرك المغول هذا التميز، واعترفوا بندرة القماش، فخلال فترة حكم الإمبراطور جهانجير والإمبراطور أورانغ زيب، كان الشخص الذي يصنع قماش الجمداني الفاخر يعتبر عملة نادرة وكان يخضع لسيطرة الإمبراطور. وتكشف الروايات التجارية كيف كان قماش الجمداني ينقل إلى قصور المغول في القرنين الـ15 والـ16. وكان يتم صنع هذا القماش للمغول على هيئة (قميص/ سروال) يحتوي على نقوش دقيقة يرتديه كل من الرجال والنساء. وكان هذا القماش ينقل أيضا إلى بخارى وسمرقند وأجزاء أخرى من غرب آسيا. وفي القرون التالية، كان يتم جلب قماش الجمداني من شركات التصدير الأوروبية التي كانت تبيعه بسعر التجزئة في مدن مثل هامبورغ ولندن ومدريد وكوبنهاغن... إلخ. وبعد ذلك، استمر إنتاج أقمشة الجمداني لحكام المغول تحت حماية «واجد علي شاه» حاكم تاندا وحكام دكا (عاصمة دولة بنغلاديش حاليا). وكان نساجو دكا خبراء في تصنيع قماش الجمداني، الذي كان يعرف باسم «الجمداني دكا» والذي كان يستخدم بشكل أساسي لإنتاج فساتين «الساري». بينما كان نساجو «تاندا» و«فاراناسي» في ولاية أتر برديش الهندية خبراء في غزل «الجمداني أوده» الذي كان يستخدم بشكل أساسي في صناعة فساتين «الساري» ومواد الفساتين وأغطية الرأس ومواد الزينة والقبعات وأغطية الطاولات وما شابه ذلك.
وخلال فترة حكم المغول والحماية، وصل غزل قماش الموسلين في البنغال إلى أوج تقدمه وتم نسج أقمشة «المياه المتدفقة» الأسطورية. وكان القطن المزروع محليا ناعما جدا لدرجة أنه كان يستخدم بشكل مثالي في نسج أنعم أقمشة الموسلين. وقيل إن السير جورج وات، خلال فترة الحكم البريطاني، كان مندهشا برقته المطلقة عندما كان يمرر القماش الرقيق عبر خاتمه. وعلى خلاف ذلك ما كان يحدث في مراكز نسيج أخرى، كانت هذه الحرفة ما زالت باقية على قيد الحياة، مع قدر بسيط جدا من التغيير، باستثناء أن الأنوال التي تستخدم اليوم أصبحت أنوالا أكثر سرعة ومتدرجة مقارنة بالأنوال المنخفضة في الأيام القديمة.
وهناك حكاية تقول إن الإمبراطور أورانغ زيب، عنف ابنته الأميرة زيب أون نيسا بحدة بسبب ارتدائها لملابس شفافة. وردت الأميرة أون نيسا بحدة قائلة إنها كانت ترتدي 7 طبقات من الملابس على جسمها النحيف، الأمر الذي يشير إلى أن الجمداني كان رقيقا بشكل كبير حتى إن 7 طبقات منه لا تكفي لتغطية الجسم تماما. ومع ذلك لا يزال «جمداني الموسلين» واحدا من أشهر وأرقى الأقمشة الهندية حتى في العصر الحديث.
والميزة الغالبة فيه هي تصميمه الفارسي بشكل أساسي، بينما تشبه طريقة الحياكة أعمال النسيج في مغازل صغيرة لخيوط ملونة باللون الذهبي والفضي، التي تمر عبر لحمة نسيجية. والتصميم المرغوب بشكل أكبر يعرف باسم «بانا هازار» (وترجمتها: ألف زمردة) وفيه يتم التركيز على رسومات الزهور مع انتشار الأزهار المتشابكة مثل الجواهر باستخدام خيط ذهبي أو فضي. وقد برزت أقمشة «كالكا» التي ربما يعود أصلها إلى المخطوطات المطبوعة لفترة حكم المغول، كنمط شائع بشكل عال.
وفي حقبة الستينات من القرن الماضي، أصبحت الأعمال الفنية على أقمشة الجمداني الحمراء شائعة جدا. ويمتلك متحف «فيكتوريا وألبرت» في العاصمة البريطانية لندن مجموعة منها تحتوي على أعمال فنية مرسومة على أقمشة بيضاء. ويشير تطور هذه الصناعة إلى عدة تغييرات؛ منها أن استخدام الذرة والأرز والشعير كان دارجا في تنفيذ هذه الرسوم. أما الآن فقد اعتاد المصممون على صباغة غزلهم واستخدامه في رسم الأشكال الفنية المختلفة. وبالنسبة للأصباغ، استخدم هؤلاء المصممون الزهور وأوراق النباتات المتسلقة. وبالنسبة لأقمشة الجمداني الفاخرة، استخدموا غزلا من 200 إلى 250 نوعا. وفي هذه الأيام، يشتري النساجون الغزل الناعم من السوق ويستخدمون أصباغا كيميائية بدلا من الأصباغ العشبية الطبيعية. التغيير لم يطرأ على طرق الرسم والصبغ وحدها، بل أيضا على التصميمات. فمن أجل تلبية الذوق الحديث، تتميز فساتين الساري الحالية المصنوعة من قماش الجمداني بنقوشات للورد والياسمين وزهرة اللوتس وعناقيد الموز وعناقيد الزنجبيل.
وبعد مرور عدة قرون على بداية هذه الصناعة فإن البعض يرى أنها معرضة للخطر، بسبب أن المنتج بدأ يفقد أصالته. ومن بين المشكلات الرئيسية وراء هذا الأمر أنه من الصعب إنتاجه بشكل رخيص، فعملية الحياكة والنسج المعقدة تتطلب وقتا طويلا، كما أن أسعار الغزل والألوان في ارتفاع دائم. ويمنع السعر المرتفع لأقمشة الجمداني من الإقبال عليه. وقد حاول نساجون في الكثير من الأماكن الأخرى بالهند صناعة قماش الجمداني، ولكن ما توصلوا إليه لا يرقى إلى ذلك الذي يصدر من دكا، لمهارة النساجين وأيضا لتوافر رطوبة فريدة ودرجة حرارة مثالية لنمو أرقى أنواع القطن، وهو ما يمنحه جودة خاصة.