عظمةوخلود شخصيّة أميرالمؤمنين (عليه السّلام):ــ من الأمورالمتسالم عليها في التاريخ الإسلاميّ ، وبين أتباع جميع الفِرق الإسلاميّة، حتّىالخوارج ـ الذين جاهروا أمير المؤمنين ( ع) ـ بالعداء ـ أبدَوا ندمهم فيالفترات اللاحقة ، ــ بل أنكروا أنّهم عادَوه وحاربوه يوماً ما ــ وحتّى أتباع الاتّجاهالعثماني ، والذين يعدّهم الوهّابيون أسلافهم في الحديث والسُّنّة ـ الذين لامواأمير المؤمنين (ع) على خوضه الحروب التي أُجبر على خوضها واقتحامأُتونها ، والذين أعدائه مدعاة للفُرقة بين المسلمين ـ لم يلبثوا إلاّ قليلاً حتّىعادوا بعده، فأقرّوا بعظمة شخصية الإمام (عليه السّلام ) ،ـــ والشاهد على هذه المقولةمسند أحمد بن حنبل ــ المشحون بفضائل أمير المؤمنين ع. أمّا إعجاب غير المسلمين بشخصيّة أمير المؤمنين ( ع ) ، فقد أبرزته كلمات العديدين منهم ــ من بينهم ــ على سبيل المثال: ـــ جورججرداق وبولس سلامة وسليمان كتّاني وجبران خليل جبران ـــ ، وغيرهم كثير من المؤلّفينالمسيحيين العرب الذين تعرّفوا على شيء من أبعاد شخصيته الفذّة ( ع ) ومن الحكايات الشيّقة ، حكاية ـــ تعامل الصدر الأعظمالقاجاريمع كاتبٍ له ــ كان قد دوّن ( عهد الإمام عليّ ( ع ) إلى مالك الأشتر قيلإنّ كاتباً كتب ( عهد الإمام ( ع) إلى مالك ) بخطّ جميل وأخذه إلىالصدر الأعظم القاجاري فسلّمه إليه ، وكان المجلس مكتظّاً ، فأمره الصدر الأعظمبالجلوس والانتظار ، فلمّا انفضّ المجلس وتفرّق الناس قال له :ــ لماذا فعلتَ ما فعلت؟قال:ــ أنت الصدر الأعظم ، ويمكنك أن تستفيد من هذا العهد , قال الصدر الأعظم :ــ لوكان لهذه المدوَّنة قيمة ، لكان عليّ بن أبي طالب ( ع ) قد أفاد منها في حكومته ، فلميبقَ وحيداً ، ولم يُستشهَد , ( سأ ل الكاتب :ــ فلِمَ لم تَقُل ذلك أمام الناس ؟ قال : لو كنتُ قلتُه ، لثاروا في وجهي وخالفوني .قال الكاتب:.. إنّ هذا الأمر يدلّل بنفسهعلى أنّ شخصيّة الإمام علي ( ع ) ـ بوضعها الذي تصفه ـ قد حظيت بالقبولبحيث إنّ صدراً أعظم مثلك لا يجرؤ بعد ألف سنة ونيف على أن يتفوّه بشيء ضدّه أمامالناس )،
بينما نرى معاوية ـــ الذي انتصر في الظاهر ـــ قد أبغضته القلوب بحيث إنّأحداً لا يمكنه التصريح بمتابعته وحبّه. أما الإمام ( عليه السّلام ) بقي مع الناس مابقي التشيّع يجسّد الخلود على مدىالتاريخ
حركة المعارضة ورفض الانسياق للأكثريّة :ـــ فقد بايعأكثر الناس في حادثة السقيفة أبا بكر ، بينما تابع عدد يسير منهم الإمام عليّ(ع ) سرّاً أو علانية . وتكرّر الأمر في عصر الإمام الحسن ( ع )ثمّ في عصر الإمام الحسين ( ع ) ، أي أنّ أئمّة أهل البيت ( ع ) لم يحظوا بمتابعة الأكثريّة ,ولقد وَلِيَ أمير المؤمنين ( ع ) الخلافة فبايعهأكثر الناس ، لكنّهم سرعان ما انفضّوا عنه ليلتحقوا بمعاوية ، و لم يلبثوا أن شطّت بهم الأهواء عنهوقد جاء في التنزيل العزيز أنّ هذه المسألة تعرّض لهاالأنبياء السابقون ، الذين مثّلوا مع أتباعهم الأقليّة في مجتمعاتهم بينما وقفمخالفوهم في صفّ الأكثريّة ؟
وعلى الرغم من أنّ هذه المخالفة كانت ترجع في أصلهاإلى أمر الإيمان بالدين الذي جاء به أولئك الأنبياء ، إلاّ أنّهم كانوا يشكّلون ـعلى أيّ حال ـ الأقليّة مقابل الأكثرية الساحقة ، وهو أمرٌ قد يجعل البعض يتساءل عنمدى الملازمة بين الأكثريّة وبين الاستمساك بالحقّإنّ قاموس الدين الذي يتعامل مع الحقّ والباطل على أساسالمعايير السماويّة ، والذي تستأثر فيه النصوص الدينيّة بالقول الفصل ، قد صرّحبأنّ الحقّ سيبقى حقّاً ولو لم يتّبعه حتّى نفر واحد ، وهذا هو الأساس الذي آمن بهالإمام عليّ ( ع ) وتحرّك على ضوئه . وعلى الرغم من أنّ الإمام لا يمكنه ــبدون متابعة الناس وحضورهم في الساحة ــ أن يَشْرَع في عمله التغيير ، لكنّ ذلك لايعني أن يعتبر الحقّ تابعاً لرأي الناس ؛ لذا وجدنا أمير المؤمنين (ع)يخاطب أصحابه( لا تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَىلِقِلَّةِ أَهْلِهِ) فَإِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى مَائِدَةٍ شِبَعُهَاقَصِيرٌ وجُوعُهَا طَوِيلٌوالأساس الذي يقوم عليه العمل في قاموس الدين هو حُكم اللهورسوله ، وليس ثَمَّة حاجة ( إذا قضى الله ورسوله أمراً ) لاتّباع رأي الناس؛ لذلكرأينا الإمام ( ع) يعتبر حضوره في الساحة يستند إلى حضور الناس ، لكنّهمع ذلك يصرّح بأنَّ رسالته هي إجراء الأحكام الإلهيّة ، لا متابعة آراء الناس ,وقد ذَكَرَ ـ دونما تورية ـ أنّه غير مستعدّ إلى التشاورمع الناس في ما يعلم أنّ الله تعالى حَكَمَ به ، يقول ( ع ) في الخطبةمن نهج البلاغة ، مخاطباً طلحة والزبير... ((واللَّهِ،مَا كَانَتْ لِي فِيالْخِلافَةِ رَغْبَةٌ ، ولا فِي الْوِلايَةِ إِرْبَةٌ ، ولَكِنَّكُمْدَعَوْتُمُونِي إِلَيْهَا وحَمَلْتُمُونِي عَلَيْهَا . فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَيَّ ،نَظَرْتُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ ومَا وَضَعَ لَنَا وأَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِهِفَاتَّبَعْتُهُ ، ومَا اسْتَنَّ النَّبِيُّ (ص(فافتديته، فَلَمْ أَحْتَجْ فِي ذَلِكَ إِلَى رَأْيِكُمَا ولا رَأْيِغَيْرِكُمَا ،ولا وَقَعَ حُكْمٌ جَهِلْتُهُ فَأَسْتَشِيرَكُمَا وإِخْوَانِي مِنَالْمُسْلِمِينَ))
ـــ ومن هنا اعتبر أمير المؤمنين (ع) خلال تبيينهالواجبات التي تقع على عاتق الإمام ، والحقّ الذي للإمام على الناس،أنّ العملبكتاب الله وسُنّة نبيّه وإحياء سيرة النبيّ الأكرم ( ص)هو المنهج الذي يسير على ضوئه ويلتزم بهيقول ( ع ) في الخطبة (170) بعد إشارته إلىمُخالفة مَن خالفه )) ولَكُم عَلَينا العمَلُ بكتابِ اللهِ، وسيرةِ رسولِ الله ص((تجربة الإمام عليّ ( ع ) في التعامل مع الناس تجربة فذّة ، فقد أعتلى الإمام منصب الخلافة بطلبٍ من عامّة الناس ، ثمّ تفرّق عنه مريدوه فبقي وحيداً.
ــأمّاشيعة الإمام ( ع ) فقد بايعوه على أساس الموالاة ـــ وحفظوا له حقّه فيالطاعة والمودّة والاحترام . وقد نقل الطبري أنّ طائفة من الناس بايعوا عليّا ( عليهالسّلام ) على أن يوالُوا مَن والاه ويُعادُوا مَن عاداه ، وهم الخواصّوعلينا أن نذكّر قبل أيّ شيء آخر أنّ التغييرالاجتماعي والسياسي له مناهجه وقوانينه الخاصّة التي لا يتخطّاها ، وأنّ بالإمكانالتعرّف على هذه القوانين إلى حدود معيّنة . وأنّنا إذا تعرّفنا على السنن الإلهيّةالجارية في المجتمع ، وتعرّفنا على طبيعة وتركيبة المجتمع الذي نرغب في دراسته ، فإنَّنا سنتمكّن من متابعة مسيرة التغيير في ذلك المجتمع على نحوٍ أفضل ,
ـــ إنّ سئلت ؟ من قبيل: (لماذا وصل الشخص الفلاني أو الدولةالفلانية إلى سُّدَّة الحكم ؟ ولماذا سقط الشخص الفلاني أو الدولة الفلانيّة ) لها إجاباتها العلميّة الخاصّة التي تستند إلى تركيب أفراد المجتمع ، ووضع قدرةأولئك الأفراد في المجتمع والأحزاب والقبائل والأشراف ، ومواضعهم وعلاقاتهم . وقدترتبط أحياناً بوجود أفراد من ذوي القدرة ، وبوجود الصفوة والرؤساء ، وبطائفة منالآداب والعادات والعقائد والأفعال وردود الأفعال التي حصلت في ذلك المجتمع في حينها. ولوسادت مجتمعاً ما حسّاسياتٌ أخلاقية أو دينية أو قَبلَية أو عسكريّة وسلطوية ذاتخصائص معيّنة ، فإنّ التغيير الأساس سيدور حول ذلك المحور المعيّنوكان للمجتمع الذي اعتلى فيه الخلافة أمير المؤمنين ( ع ) بعد 25 سنة من استشهاد النبيّ الأكرم ( ص ) تعقيداتهالخاصّة التي ينبغي دراستها من جانبيَن
الجانب الأوّل:_بألحاظ التعرّف على القبائلومحاور النفوذ والقدرة الجانب الثاني_:بألحاظ الآثار التي تركتهاالسنوات المنصرمة منذ استشهاد رسول الله ( ص ) وهناك ـ في الجانب الأول ـ عدة ملاحظاتإنّ القوّة كانت في يد قريش وحدها ، وإنّ الآخرين لميكن لهم القدرة على تشكيل دولة تضمّ جميع الأطراف.
ــــأنّ قبيلتَي تَيْم وعَدِيّ القرشيّتَين،ونفراً منبنيّ أُميّة (عثمان) قد تصدّوا للحكم خلال السنوات التي أعقبت النبيّص) وانتهت بخلافة أمير المؤمنين ( ع ) وأنّ هذه القبائل القرشيّة ، بل قريش بأ جمعها ـ عدا بني هاشم ـ قد خسرت الميدان .
أنّ مرشّحي الجناح الآخر لحزب قريش وهم بنو هاشم:- قد وصلوا إلى الحكم مدعومين من قبل سائر الأحزاب الأخرى أي من قِبل قبائل العراق) شيعة عليع(وقد ساهم التاريخ المشرق لهذا المرشّح ، وتميّزه بعدم اختلاطه بالحكومات السابقةفي حيازته تأييد الأحزاب المخالفة، كما كان لشيعته (أهل العراق ) دور فعّال في الدعوة إليه وفيإرساء قواعد حكومتهإنّ الأجنحة القرشيّة الأخرى شرعت بمخالفة أمير المؤمنين ( ع ) بعد أن بايعه الناس ، وخاضت ضدّه حربَي الجَمَل وصِفِّين ، وشقّوا اتّحاد قبائل في العراق في متابعته فنشأ اتّحاد جديد ضدّه يتألّف من قبائل الشام ـــها أمير المؤمنين ( ع) يقف وحيدا سنة 40 هجريّة، تفرّق جُنده عنه( وكانوا يفتقرون إلى تركيبة قبليّة منسجمة) فانحازبعضهم إلى الخوارج وشبّوا في معسكره نار حربٍ داخليّة جديدة وبقي البعض الآخر لا حول له ولا قوّة، بينما يتحرّك في المقابل اتحاد جديد أوجَدَه معاوية بينالقبائل المعارضة، في طريقه إلى السلطة نيابةً عن الجناح القرشيّ المهزوم , وقواعدلعبة السياسة الماكرة تقتضي هنا أن يكون معاوية هو الفائز في الميدان, وقد استند هذا التحوّل إلى حقيقة الدور الكبير الذي لعبته القبيلة, ابتداءً من الأهميّة الكبيرة للمنافع القبلية ومروراً بالعناصرالثلاثة التي قادت مسير هذه التحولات قريش.موضع سائر قبائلالإسلام , فقد كانت السيادة لقريش وكانت القبائل الأخرى هي الوسيلةلوصول قريش إلى الحكم. ونقصد بقُريش بنو تَيم وبنوَدي وبنو هاشم وبنو أُميّةوكان الإسلام الذريعة التي استخدمتها غالبيّة قريش وعامّة الناس للوصول إلى السلطة ، وكان الجميع بطبيعة الحال يصلّون ويحجّون. أمّا الإمام ( ع ) وخواصّه، فقد انحصر همّهم في أن ينظروا إلىكلّ شيء من خلال الرؤية الإسلاميّة الخالصة، أي من رؤية كتاب الله وسُنّة رسولهص بينما لم يتجاوز هذا الأمر لدى الآخرين مجرّدذريعة التي يتوصّلون بها إلى مقاصدهم إذ لم ينظروا إليها إلاّ في حدود منافعقبائلهم التي تقوم على أساس من رعاية منافع النُّخبةوحسب تعبير الإمام ( ع ) نفسه يقول ( كان الفاصلالكبير الذي يفصل بينه وبين الناس, أنّه كان يفكّر في الإسلام, وأولئك كانوايفكّرون في أنفسهم ؛ فكانوا لذلك يريدون إماماً يضمن لهممنافعهم الشخصيّة)ـــأمّا أمير المؤمنين (ع ) فكان يريد قوماً يقيم بهم حدود الإسلام يقولعليه السّلام ) إني أُريدكم لله ، وأنتم تُريدوننيلأنفسكم)وكفى بذلك فارقاً كبيراً بين الطرفَين ، فقد كان الإمام)ع) ينظر نظرةً إلهيّة دينيّة ، بينما لم يتجاوز نظر الناس منافعهمالقبَليّة . كان الناس يريدون منه أن يُغدق عليهم الغنائممن الثغور ، وأن يعيشوا في رفاه واستقرار، وأن يصلّوا ـ بطبيعة الحال ـ ويصوموا ، وأن يكون للأشراف والنّخبةمنافعهم الخاصّة التي تمكّنهم من استقطاب عامّة الناس ، وبغير ذلك فإنّهم سوف يثورونويمدّون أيديهم إلى عدوّ عليّ ( ع ) اللدود كما فعلوا ذلك فيما بعدـــوالأمر الآخر الذي ينبغي مناقشته هو الوقائع التي جرت خلالهذه السنوات الخمس والعشرين جرى في بادئ الأمرتحرّك سريع لقمع مخالفي تيّار السقيفة ، تبعها ـ في المرحلة اللاحقة ـ فتوحاتوانتصارات متلاحقة وتدفّقت الغنائم على نحوٍ تغيّر معه وضع المسلمين كليّاً . وكانالطرف الآخر في هذه الحروب الكفّار ، لا أهل القِبلة ، أي أنّ المسلمين كانوايجاهدون في هذهالفتوحات دون أن يدور بينهم خلاف ماحصل في هذه المرحلة اجتماعي مهمّ ، هاجرت خلاله قبائلكثيرة من جزيرة العرب إلى العراق والشام ، فتشكّلت ـ على نحو هادئ ــ دولةعظيمة مركزها المدينةــ،وحاكمها( الخليفة)حصل تحوّل في المجتمع العربي المسلم في العراق والشام من جراءتزايد الأعاجم بالهجرة أو بالأسر، ممّا جعل إدارة أمورها أصعب وأعسر من قبل.ظلّت دفّة الحكم بيد قريش ، وكانت الدولة ـ كلّمااقتربنا من عهد عثمان ـ تصطبغ بالتدريج بصبغة قريش ، بل بصبغة بني أُميّة ، وظهرنظام واسع يحاول الاستئثار بكلّ شيء ، ويسعى إلى إدارة هذه الدولةالكبيرة من خلال أُفق ضيّق قبلي ، بعيداً عن الإسلام وروحه ، وقد عبّر عنسذاجته في إدارة الحكم بحصره جميع المنافع في الأُمويّين ، ممّا أثار حفيظة باقيالقبائل ،- ودفعها إلى الثورة ـ وقد رأت منافعها مُصادرَةً لحساب الآخرين,
ــتمّ في هذه المرحلة--جرّاء السياسات الماليّة للخلفاءإرساء ( نوعٍ من التفرقة الطبقيّة الخاصّة بين الناس فُضّل المهاجرون والأنصار على سواهم )، فكان في ذلك خدش للعدالة الاجتماعيّة.وكان الصحابة الذين تفرّقوا في المدن المختلفة يديرونالأمور بألحاظ الفكري ، ولم يكن للخليفة في المدينة حظّ كبير في العِلم ، ولم يكنالصحابة ـ من الجانب الآخر ـ قد تلموا تعليماً منظّماً ، فظهر إثر ذلك اختلاف فيوجهات النظر في الدين والفقه، وتزايد الغموض والإبهام لا نعدام المرجعية العلميةالواحدة وعدم التفافهم حول الوصي، وظلّت الأسئلة تُطرح دون أن يُجيب عليها أحد ، وكان موج من المسائلالجديدة يتدفّق من أطراف دولة من قِبل الذين أسلموا حديثاً ومن قبل غيرالمسلمين ، فيزيد في الغموض والإبهامواستتبع مجموع هذه المشاكل منها تسلط أقارب الخليفة الثالث (بنو أمية) على مقدرات المسلمين واللعب ببيت أموال المسلمين حسب شهواتهم وعلى مرمى ومسمع من الخليفة الثالث ووقوف عائشة بوجه عثمان حتى لقبته ( نعثل ) ونعتل هذا رجل يهودي مات على يهوديته وكان يغتسل ببوله , ـــ مما أدىأن يفكّر الناس في الثورة علىعثمان ـ وأيضا نتيجة سخط سائر أجنحة قريش على حكومة عثمان وبني أُميّة ، وسَخط قبائلالعراق على الجناح القرشيّ الحاكم ـ أن يفكّروا في مصلح يُعيد تنظيم الأمور ويُقرّالعدل في توزيع الثروات . وكان هناك ممن يستهدفون في ثورتهم إحياء الإسلام، ـــ وهو نفسه الهاجس الرئيس لدى أمير المؤمنين (عليه السّلام ) ، إلاّ أنّ هناك منكانوا يرغبون في أن يُعاد تقسيم الثروات على أن يكون للخواصّ والأشراف امتيازاتهمالخاصّةوكان الشيعة يهدفون إلى القضاء على الطبقية ، وإلىتحقيق العدالة الاجتماعية ، وإلى الاستمداد من عِلم الإمام ( ع ) بوصفه آخر الأوصياء فيالإجابة عن المسائل العالقة ، ويأملون في إقرار حكومة لا تفكّر في الغنائم، بل تضع نَصب عينها حماية الفكر والأخلاق في المجتمع الإسلامي ،وتغلّ أيدي بني أُميّة المتطاولة وتكبح جماع شَرّهم كان الإمام عليّ ( ع ) يريد الناس لله ويريدهملإحياء السُّنّة النبويّة ,
ـــفبدأ عمله في الإصلاح ضمن هذا الإطار، فلقيَ تجاوباًجماهيريّاً في بادئ الأمر ، وعَمِل ( ع ) على الانتصاف للمظلومين منظالميهم، وعلى إزالة الفواصل الطبقيّة بين الأشراف والأتباع . فلمّا يئس الأشرافوالخاصّة من بني أٌمية ومن تبعهم باطله وكان لهم نفوذهم بين الناس قاوموه ــ ولم يكن الإسلام قداستحكم في النفوس ، ولم يكن عامّة الناس قد تلقّوا طوال السنوات الخمس والعشرينتربية ثقافية كافية وعالية تحصن أنفسهم من حبائل الشيطان،
ــــوكان للقبيلة مركزها الكبير الذي زاد تأثيره خلال الفترة التيأعقبت ارتحال رسول الله ( ص ) فلا عجب أن يعبّر أميرالمؤمنين ( ع ) عن قلقه من هذا الوضع في قوله ( ع)(( في الخطبةفَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْنِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ وأَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ ، فَإِنَّمَا تِلْكَالْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ ونَخَوَاتِهِ ،و نَزغَاتِهِ ونَفَثَاتِهِ . واعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِكُمْ ، وإِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ ، وخَلْعَ التَّكَبُّرِ مِنْأَعْنَاقِكُمْ ، واتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ... أَلا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْوكُبَرَائِكُمْ ، الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وتَرَفَّعُوا فَوْقَنَسَبِهِمْ ... فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ ودَعَائِمُ أَرْكَانِالْفِتْنَةِ وسُيُوفُ اعْتِزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ((لقد ترسّخت الممارسات التي استُعملت طوال السنوات السابقةفأضحت سُنّة، ولم يكن للناس دين راسخ يوحّدهم ، ولا حميّة يدافعون بها عن كيانها، وكان همّهم في الغنائم ، ذلك الهمّ الذي ورِثوهوألِفوهوقد ذكر أمير المؤمنين( ع ) في الخطبة السالفةتحليلاً مفصّلاً عن الوضع التاريخي لبني إسرائيل ، وأسْرهم مِن قِبل الأكاسرةوالقياصرة والفراعنة ، ثمّ خاطبهم بقوله)) أَلاوإِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ وثَلَمْتُمْحِصْنَ اللَّهِ الْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ بِأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ ... واعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً ، وبَعْدَالْمُوَالاةِ أَحْزَاباً . مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الإِسْلامِ إِلاَّ بِاسْمِهِ ، ولا تَعْرِفُونَ مِنَ الإِيمَانِ إِلاَّ رَسْمَهُ ... أَلا وقَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَالإِسْلامِ ، وعَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ ، وأَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ .((ثمّ احتدمت الحرب ـ في مسيرة الإصلاحات ـ بين الإمامومخالفيه ، وكانوا من أهل القبلة ، واختفت الغنائم في هذه الحرب فلم تَعُد علىالناس بنفع مادّي ؛ لذا نلحظ أمير المؤمنين(ع )وهو يشير إلى صعوبةالحرب مع أهل القِبلة ، ـــ ويبيّن أنّ أصحاب البصائر هم وحدهم الذين يمكنهم تشخيصالحدّ الفاصل بين الحقّ والباطل,)) يقول (ع ) في الخطبةوقَدْ فُتِحَ بَابُ الْحَرْبِ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ أَهْلِالْقِبْلَةِ ، ولا يَحْمِلُ هَذَا الْعَلَمَ إِلاَّ أَهْلُ الْبَصَرِ والصَّبْروالْعِلْمِ بِمَوَاضِعِ الْحَقِّ ، فَامْضُوا لِمَا تُؤْمَرُونَ بِهِ ، وقِفُواعِنْدَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ، ولا تَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ حَتَّى تَتَبَيَّنُوا)),ــوعلى أيّ حال فقد تزايدت الشُّبهات خلال هذه الحروبالمدمّرة التي راح ضحيّتها عدد كبير ، وكان معاوية يستعمل الدين كذريعةٍ ليس إلاّ ، وكان من مصلحته ـ ذلك ـ أن تزداد الشبهات لدى أهل العراق . وكانت هناك أرضيّة
بطبيعة الحال لرواج مثل هذه الشُّبهات ؛ فقد شهد الناس حضور زوجة النبيّ (ص) في حرب الجَمَل ، كما شاهدوا في صفّ خصوم أمير المؤمنين( ع ) صحابيَّين من كبار صحابة النبيّ (ص) ، هماطلحة والزبير ــوكان مثيرو الشُّبهات لا يبرحون يقولون انظروا كيف يُعامَلأصحاب النبيّ(ص)وأدّى تزايد الشُّبهات واستحكامها في النفوس إلى تفرّقالناس عن الحقّ ، وكان عدد أنصار أمير المؤمنين ( ع ) يتناقصون بمرورالأيّام ، ولا ينبغي نسيان الحِيَل التي كان معاوية وأعوانه يستخدمونها في إلقاء الشُّبهات،وفي بثّ بذور التفرقة في صفوف الإمام عليّ (ع ) ــوكان لرؤساء القبائل دور رئيسي في تسيير الناس والتأثيرعليهم في الانحياز إلى أحد أطراف المواجهة ، وكان الناس في ذلك العصر ـ ونقصدبالناس المستضعفين ذوي الوعي القليل ـ قد ابتعدوا عن الإسلام من حيث لا يعلمون باعتباره المحورالأساسي للتحرّك ، بل تخلّوا عن أهل البيت ( ع ) ، أحد الثقلَين اللذين أوصى بهما رسولُالله ( ص ) ثمّ جاءوا إلى أمير المؤمنين ( ع )يبايعونه وينتظرون منه أن يسير بهم سيرة (عمر) ، فيفضّل أشراف المهاجرين والأنصار،ولم يكونوا يدركون الأبعاد الحقيقية لأمير المؤمنين (ع) باعتباره إمامأهل البيت (ع )
((يقول أمير المؤمنين عليّ ع قَدْ خَاضُوا بِحَارَ الْفِتَنِ ، وأَخَذُوا بِالْبِدَعِ دُونَالسُّنَنِ ، وأَرَزَ الْمُؤْمِنُونَ ونَطَقَ الضَّالُّونَ والْخَزَنَةُ والأَبْوَابُ ، ولا تُؤْتَى الْبُيُوتُإِلاَّ مِنْ أَبْوَابِهَا ، فَمَنْ أَتَاهَا مِنْ غَيْرِ أَبْوَابِهَا سُمِّيَسَارِقاً. ))
وكان لحضور الناس وكثرتهم أهميّة في نظر الإمام ( ع ) في قبوله تحمّل المسؤولية في قيادتهم . أمّا إذا عجز الإمام ( ع ) ـ وهو القائدـ عن الانتصاف للمظلوم وعن تطبيق أحكام الدين ، فإنّ الرغبات المنحرفة لأكثريّةالناس لن يكون لها في نظره أيّ اعتبار ، وحكومتهم على هذا الأساس ستكون لديه أدنىمن عَفطة عَنز كما في تعبيره الرائع (ع) فإنّ العارف برسول الله ( ص ) وبأهل بيته (ع) حقّ المعرفة إذا مات علىالْمُكَذِّبُونَ ، نَحْنُالشِّعَارُ والأَصْحَابُ معرفته ، كان من الفائزين ولو مات على فراشه,
يقول أمير المؤمنين ( ع) في الخطبة(( ألزموا الأَرْضَ ، واصْبِرُوا عَلَى الْبَلاءِ ، ولاتُحَرِّكُوا بِأَيْدِيكُمْ وسُيُوفِكُمْ فِي هَوَى أَلْسِنَتِكُمْ ولاتَسْتَعْجِلُوا بِمَا لَمْ يُعَجِّلْهُ اللَّهُ لَكُمْ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ مَاتَمِنْكُمْ ع َلَى فِرَاشِهِ وهُوَ عَلَى مَعْرِفَةِ حَقِّ رَبِّهِ وحَقِّ رَسُولِهوأَهْلِ بَيْتِهِ ، مَاتَ شَهِيداً ووَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ((
·
· الدعوة إلى الإصلاح ونكوص الناس:_
·بدأ الإمام عليّ ( ع) حركته الإصلاحية الواسعة ، وخصّص أكثر خُطَبه في بيان معرفة الله ورسولهوأهل بيته ، وسعى دائباً ـ في المرتبة اللاحقة ـ إلى تحذير الناس من الميولالدنيويّة الهابطة ، وجاهد في إحياء السُّنّة النبويّة ، وفي القضاء على الظلموالفساد ، وفي إرساء قواعد العدل والقضاء على الامتيازات الظالمة .
·ــ يُشير علم النفس الاجتماعي إلى أنّ الفساد إذا ساد مجتمعاًما ، ولمس أفراد المجتمع الأضرار المترتّبة على ذلك الفساد ، وعانَوا منه الأمرَّين, فإنّهم سيقفون إمام الفساد الجديد ، ويتّجهون إلى الإصلاح ويتَّبعون المُنادين به
·ـــ أمّا إذا قلّت معاناة أفراد المجتمع من الفساد ، فإنّهم على العكس ، سيعارضون مَنيحارب الفساد ويُنادي بالإصلاح . ولذلك يعمد أصحاب الحيلة والمكر إلى دراسة الظروفالسائدة في المجتمع في فترة معيّنة ، ويتعرّفون على رغبات الناس ، ثمّ ينظّمونشعاراتهم على أساس تلك الرغبات ، فيكسبون الناس إلى جانبهم.
·لقد كان المجتمع قبل خلافة الإمام ( ع) في طريقهالتدريجي إلى الانحراف عن تعاليم الإسلام الحقة ، وكانت الفتوحات قد أثمرت غنائم وجواري وعبيداً ، وكانالكثير ممّن ثاروا على عثمان يستنكرون استئثار بني أُميّة بكلّ شيء، وكان بعض هؤلاء يتصوّرون أنّ الإمام ( ع) ـوقد استُخلف الآن ـ سيقدّم لهم مااستأثر به بنو أُميّة .
· وكان الهدف لقسم منهم هو أصلاح الوضع السائد فيعهد عثمان ، لا العودة إلى السيرة النبويّة الأصيلة التي نادى بها الإمام ، وكانذلك هو السبب في رفض الإمام ( ع) في البداية للتصدّي لمقام الخلافة ، ولميقبل بها إلاّ بعد أن عاهدوه على إجراء السيرة النبويّة وقد بايعوه على هذا الأمر,ـــوكان إصرار الإمام (ع) على العودة إلى السيرةالنبويّة يستلزم الدعم الجماهيريّ ،فقد كان بعض الناس يُصرّح بأنّ على الإمام أنيسير بسيرة من سبقه من ( الخلفاء ) ،ولذلك كان كلّما زاد وتعالى نداء الإمام بالإصلاح ، تباعدعنه مَن حوله وتشتّتوا, . وقد شاهدنا أنّ طلحة والزبير اللذين وقفا بالأمس القريبضدّ عثمان ، كانا يتوقّعان من الإمام ( ع) أن يُشركهما في الحكم ، فلّمارأيا إصراره على الالتزام بالسيرة النبويّة ، ابتعدا عنه ـ مع أنّهما يفتخرانبصُحبتهما وسابقتهما ـ وأثارا عليه العوامّ.ـــ ومن العجب أنّ المُناداة بشعار الإصلاح تجعل أكثر الناسيفرُّون ،
·
·
· تماماً كما في قوله تعالى((وَلَقَدْصَرَّفْنَا فِي هَـذَا الْقُرْآنِلِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً(( ــإذ ليس المقصود بهذه الآية أنّ القرآن نعوذ بالله ـ سبب لإضلال الناس ، بل يعني أنّ مَن يحبّ الفساد سينفر من دعوةالحقّ ، فينغمس في الباطل والفساد أكثر فأكثروفي مثل هذه الظروف ، فإنّ دعوة الناس إلى الهداية كلّما زادت قلّت استجابتهم لها ، بل إذا أدرك هؤلاء الناس أنّ هذا المنادي يقصد هدايتهموإصلاحهم فإنّهم سيفرّون منهم فرارهم من الأسد وقد أظهرت تجربة حكومة أمير المؤمنين ( ع ) أنّالناس قد وقفوا بالتدريج في وجه حكومة الإمام عليّ ( ع) العادلة ، علىالرغم من تكالبهم عليه بادئ الأمر ، وإصرارهم على مبايعته ؛ نقمةً منهم على فساد عثمان ، ذلك أنّ ترجيحهم للدَّعة والراحة لم يسمح لهم أن يكونوا في ركاب الإمامع لتحقيق أهدافه الكبيرة ،
· يقول أمير المؤمنين ـ ع ـ (( في الخطبة فيتقسيم الناس إلى قسمينوإنّما الناس رَجُلانمُتَّبِعٌ شِرعَةً ومُبتدعٌ بِدعةً ، ليس معه مِن الله سبحانه بُرهانُ سُنّةٍ ولاضياءُ حُجّة((
· وليسَت هذه البدع التي يُشير إليها الإمام ع إلاّ المسيرة المنحرفة التي وُجدت في عصر الخلفاء قبله . وقد وصف أمير المؤمنينع الناسَ في خطبه بمجانبة الحقّ والانحياز إلى صفّ الباطل ، وكانيدعوهم إلى التزام الحقّ ولو رأوا في الباطل نفعاً دُنيويّاً عاجلاً ،
· يقول ( ع) في الخطبة)) إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِِنْدَ اللَّهِ مَنْ كَانَ الْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَيْهِ ـ وإِنْ نَقَصَهُوكَرَثَهُ ـ مِنَ الْبَاطِلِ وإِنْ جَرَّ إِلَيْهِ فَائِدَةً وزَادَهُ ، فَأَيْنَيُتَاهُ بِكُمْ؟!ومِنْ أَيْنَ أُتِيتُمْ ؟! ... مَا أَنْتُمْ بِوَثِيقَةٍ يُعْلَقُبِهَا ، ولا زَوَافِرِ عِزٍّ يُعْتَصَمُ إِلَيْهَا ، لَبِئْسَ حُشَّاشُ نَارِالْحَرْبِ أَنْتُمْ !! أُفٍّ لَكُمْ !! لَقَدْ لَقِيتُ مِنْكُمْ بَرْحاً ، يَوْماًنَادِيكُمْ ويَوْماً أُنَاجِيكُمْ ، فلا أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ النِّدَاءِ،ولا إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ النَّجَاءِ)) ــ ونلاحظ أنّ أمير المؤمنين ( عليه السّلام) يستعمل أحياناًتعبيرات شديدة في وصف اختلاف الناس وتفرّقهم عن الحقّ ، وكان ذلك منه (ع) في وقتٍ كان يرى فيه معاوية على شرف الانتصار في الحرب ،ويرى أصحابهيختلقون الذرائع , لأنّه كان يشاهد عياناً أنّ معاوية على وشك الهجوم على العراق ، وأنّه ( ع) استنفر أهل الكوفة فلميجتمع له منهم إلاّ ألف نفر ، فخطبهم ( ع) قائلا)) أَيَّتُهَا النُّفُوسُالْمُخْتَلِفَةُ والْقُلُوبُ الْمُتَشَتِّتَةُ ، الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْوالْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ ، أَظْأَرُكُمْ عَلَى الْحَقِّ وأَنْتُمْتَنْفِرُونَ عَنْهُ نُفُورَ الْمِعْزَى مِنْ وَعْوَعَةِ الأَسَدِ ! هَيْهَاتَ أَنْأَطْلَعَ بِكُمْ سَرَارَ الْعَدْلِ أَوْ أُقِيمَ اعْوِجَاجَ ))
الحسرة على الرجال الصادقينالراحلين:__
تطرّق أمير المؤمنين ( ع) في أواخر أيّامه ـ ضمن انتقاده الأشخاص الذين خذلوه في مسيرته لتحقيق الأهداف الإسلاميّة الأصيلة إلى الكلام عن الرجال الصادقين الذينعاصروا رسول الله ( ص) وكانوا في إيمانهم وأعمالهم فُرسانَساحة الإسلام والإنسانية وكان يتحسّر لفراقهم ، ليس لكونهم الأكثريّة ، بل لسبقهمإلى الحقّ ، وتسابقهم إلى التضحية والفداء من أجل المبدأ,
يقول ( ع) (( أَيْنَ الْقَوْمُ الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الإِسْلامِ فَقَبِلُوهُ ، وقَرَءُوا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ ، وهِيجُوا إِلَىالْجِهَادِ فَوَلِهُوا وَلَهَ اللِّقَاحِ إِلَى أَوْلادِهَا ، وسَلَبُوا السُّيُوفَأَغْمَادَهَا ، وأَخَذُوا بِأَطْرَافِ الأَرْضِ زَحْفاً زَحْفاً ، وصَفّاًصَفّاً بَعْضٌ هَلَكَ وَ بَعْضٌ نَجَا . لا يُبَشَّرُونَبِالأَحْيَاءِ ، ولا يُعَزَّوْنَ عَنِ الْمَوْتَى . مُرْهُ الْعُيُونِ مِنَلْبُكَاءِ ، خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الصِّيَامِ ، ذُبُلُ الشِّفَاهِ مِنَالدُّعَاءِ ، صُفْرُ الأَلْوَانِ مِنَ السَّهَرِ ، عَلَى وُجُوهِهِمْ غَبَرَةُالْخَاشِعِينَ ، أُولَئِكَ إِخْوَانِي الذَّاهِبُونَ ؛ فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَأَإِلَيْهِمْ ، ونَعَضَّ الأَيْدِي عَلَى فِرَاقِهِمْ . إِنَّ الشَّيْطَانَ يُسَنِّيلَكُمْ طُرُقَهُ ويُرِيدُ أَنْ يَحُلَّ دِينَكُمْ عُقْدَةً عُقْدَةً ، ويُعْطِيَكُمْ بِالْجَمَاعَةِ الْفُرْقَةَ ، وبِالْفُرْقَةِ الْفِتْنَةَ ، فَاصْدِفُوا عَنْ نَزَغَاتِهِ ونَفَثَاتِهِ ، واقْبَلُوا النَّصِيحَةَ مِمَّنْأَهْدَاهَا إِلَيْكُمْ ، واعْقِلُوهَا عَلَى أَنْفُسِكُم))
ـــ وقد بيّن أمامنا( ع ) في خطبته المفصّلة نقاطاًمهمّة ، حيث يقول نَوْف البَكاليّ :ــ خَطَبنا بهذه الخطبة أميرُ المؤمنين عليّ ( ع) بالكوفة ، وهو قائم على حجارةٍ نصَبها له جعدة بن هُبَيرة المخزوميّ ، وعليه مِدرَعة من صوف ، وحَمائلُ سَيفه لِيفٌ ، وفي رِجلَيه نَعلانِ من لِيف ، وفيجبينه ثَفنة من أثر السُّجود (( مَا ضَرَّ إِخْوَانَنَاالَّذِينَ سُفِكَتْ دِمَاؤُهُمْ ـ وهُمْ بِصِفِّينَ ـ أَلاَّ يَكُونُوا الْيَوْمَأَحْيَاءً يُسِيغُونَ الْغُصَصَ ، ويَشْرَبُونَ الرَّنْقَ ! قَدْ ـ واللَّهِ ـلَقُوا اللَّهَ فَوَفَّاهُمْ أُجُورَهُمْ ، وأَحَلَّهُمْ دَارَ الأَمْنِ بَعْدَخَوْفِهِمْ . أَيْنَ إِخْوَانِيَ الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّرِيقَ ومَضَوْا عَلَىالْحَقِّ ! أَيْنَ عَمَّارٌ ! وأَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ ! وأَيْنَ ذُوالشَّهَادَتَيْنِ ! وأَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَتَعَاقَدُوا عَلَى الْمَنِيَّةِ ، وأُبْرِدَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى الْفَجَرَةِ))
ثم قال نوفل البكالي :- ثمّ ضَرَب الإمام ( ع ) بيده على لِحيته الشريفة الكريمة فأطالالبُكاء ، ثمّ دعاهم إلى الجهادوقد سبق أن ذكرنا أنّ أتباع الإمام كانوا صِنفَين من الناس عامّة الناس ، وهم الذين تركوا أمير المؤمنين( ع ) وانحازوا إلى معاوية خلال عواصف المسيرة ومنعطفاتها,وشيعته المخلصون ، كان يُدعَون بشَرَطَة الخميس ، وهمالذين اعتمد عليهم الإمام في حركته التغيرية الكبيرة ، وقد خاطبهم ( ع) بقوله:ــــ ( ( أَنْتُمُ الأَنْصَارُ عَلَى الْحَقِّوالإِخْوَانُ فِي الدِّين والْجُنَنُ يَوْمَ الْبَأْسِ" والْبِطَانَةُ دُونَ النَّاسِ كُمْ أَضْرِبُ الْمُدْبِرَ" وأَرْجُو طَاعَةَ الْمُقْبِلِفَأَعِينُونِيبِمُنَاصَحَةٍ خَلِيَّةٍ مِنَ الْغِشِّ سَلِيمَةٍ مِنَالريب فو اللَّهِ إِنِّي لأَوْلَىالنَّاسِ بِالنَّاسِ(( وهؤلاء الأتباع المخلصون هم الذين وقفوا إلى جانب الإمامأمير المؤمنين ( عليه السّلام) في جهاده العظيم ، وكانوا يقبلون النصيحة ويَفُونبالعهد الذي عاهدوا عليه إمامهم ( عليه السّلام) في أحلك الأوقات . وكان الشيعة الخلص يلمسون عياناً السيرةَ النبويّة وقد تجسّدت في السيرة العَلَويّة ، فيحفظون مودّتهم ونُصرتهم لعليّ( عليه السّلام ) وأهل بيته على هذا الأساس
تَعـــارُض الرغبــات:____
و لابدّ من الحديث عن مَعلَم آخرفي السيرة العلويّة ،وهو أنّ أمير المؤمنين ( عليه السّلام ) كان يسعى في شرح مواقفه وآرائه للناس ـ وكان قد رأى عصيانهم وتخاذلهم ـ أن لا يحملهم على ما يريد بالقوةوالإكراه ، ويتجلّى ذلك في قوله ( عليه السّلام) في الخطبة (208))(لَقَدْ كُنْتُ أَمْسِ أَمِيراًفَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَأْمُوراً ، وكُنْتُ أَمْسِ نَاهِياً فَأَصْبَحْتُالْيَوْمَ مَنْهِيّاً ، وقَدْ أَحْبَبْتُمُ الْبَقَاءَ ولَيْسَ لِي أَنْأَحْمِلَكُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُونَ))معاويةومُداراة الناستمكّن معاوية بدهائه منجذب عامّة الناس إلى معسكره ، فحفظ منافع الشام لنفسه ، وكسب رضا الناس ، فمنحوه طاعتهم وأسلسوا إليه قِيادَهموإذا كانت الأكثريّة في صفّ معاوية ، والأقليّة في صفّالإمام عليّ ( عليه السّلام ) ،فما هو الفارق الأساس بينهما ؟لقد أجاز معاوية لنفسه استخدام سلاح الترغيب والترهيب فيكسب الناس إلى صفّه ، بينما رفض أمير المؤمنين ( عليه السّلام ) هذا الأسلوب ولميُجِز لنفسه اتِّباعه ،( فقال عليه السّلام أتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ(ـــ أميرالمؤمنين ( ع) المدافع عن حقوق الناسولا يُنافي جميع ما ذكرناه كَونالحكومة مكلّفة بالدفاع عن حقوق الناس المشروعة ، وحقيقة كون أمير المؤمنين ( عليه السّلام ) المُدافعَ الحقيقي عن تلك الحقوق المشروعة التي تستتبع كونهم مواطنين ، سواء كانوا مسلمين أم من أهل الذمّة وقد عدّ أمير المؤمنين( ع) من أهم واجبات الإمام :رعاية أحوال الناس وإجراء العدالة بينهم ، وتوعيتهم على أحكام الدين ــ وكان ( عليه السّلام) يأمر جميع ولاته برعاية الناس وكسبودّهم ، حيث قال ( ع) في هذا الشأن)) إِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلاةِاسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلادِ وظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ((وكَتَب ( ع) إلى أحد ولاته على الأمصار((أَنْصِفِ اللَّهَ وأَنْصِفِالنَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ ومَنْ لَكَ فِيهِ هَوًى مِنْرَعِيَّتِكَ ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ ، ومَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِكَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ ((وعدّ أمير المؤمنين ( عليه السّلام) في الخطبةمهمّته الأساسيّة :الانتصافللمظلوم من الظالم ، على شرط أن يُعينه الناس في ذلك، حيث يقول)) أَيُّهَا النَّاسُ ، أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ . وايْمُاللَّهِ ، لأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ ، ولأَ قُودَنَّ الظَّالِمَبِخِزَامَتِهِ حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وإِنْ كَانَ كَارِها)) ولأميرالمؤمنين ( ع ) خُطب كثيرة تحدّث فيها عن العدالة وعن رعاية حقّ الناس ،وَرَدَ معظمها في كتابالغُرَر والدُّرَر للآمُدي .وكان ( عليهالسّلام ) يعتبر أنّ من واجبات الإمام أن يجعل حياته في مستوى أدنى طبقات المجتمعوأفقرها ،حيث قال (عليه السّلام) ـ وقد استكثر عليه البعض زُهدَه المتناهي (( إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ ؛ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ ، كَيْلا يَتَبَيَّغَبِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ .((لقد دافعأمير المؤمنين ( عليه السّلام ) طوال حياته الثرّة الطافحة بالبركة عن حقوق الناس ،وعن المستضعَفين منهم على الخصوص ، وواسى فقبرهم وعطف على أراملهم وأيتامهم ،لكنّهم ظلموه وغمطوا حقّه ولم يَفُوا معه بعهده .
فسلامٌ عليك سيدي يوم ولدتَ في بيت الله ويوم أُستشهت في بيت الله وبين هذا وذاك قارعت الظلم وأهله فكنت للفقير عونا ولليتم أبا وللضال هاديا وللإسلام رافعا وناصرا فلعن الله قاتليك ومبغضيك إلى يوميبعثون