نظام الأسرة في الأسلام
إن من يطلع على ما يدور في أروقة المحاكم الشرعية المنتشرة في مدن وقرى المملكة ليذهل من كثرة عدد قضايا النزاع التي ينظرها القضاة ويتصدون لحلها بين أبناء الأسرة المسلمة. فهذا أب يطلب أبناءه بالنفقة، وهذه زوجة تشتكي زوجها: من سوء معاملته وفظاظته معها، وذاك رجل يشكو من نشوز زوجته وسوء أخلاقها، وآخر يطالب بحقه من تركة أبيه، وهكذا.. إن كل ما يدور من نزاع يدل دلالة واضحة على أن كثيرا من المسلمين ينسون بل يتناسون أحكام هذا الدين ويقيمون علاقاتهم فيما بينهم على غير الأسس والقواعد التي شرعها الله سبحانه وتعالى، والله تعالى يناديهم ليقيموا علاقاتهم على أسس التقوى. قال تعالى: >يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا< سورة النساء آية (1).. إن تكوين الأسرة في الاسلام ضرورة فطرية حيوية تعبدية وضرورة اجتماعية اقتصادية وضرورة ثقافية أخلاقية، ذلك أن الفطرة السليمة تقتضي الإنسان أن يعيش حياته الإجتماعية في أسرة متعاونة متقاربة في المشاعر والتجارب والأهداف، وهي النواة الصغيرة للمجتمع، فيها ينشأ الأطفال، رجال الغد، وبسببها يستمر النوع البشري على الأرض. ولقد اعتنى الاسلام بها ووضع لها نظاما يكفل تماسكها ويعينها على أداء رسالتها لتنطبع نفوس الاطفال على ما ينفع الأمة ويعز شأنها، ولذلك جاء القرآن الكريم والسنة المطهرة بتفصيل دقيق وشامل وكامل للأسرة حيث فصل كل جزئيات نظام الأسرة في الزواج والخطبة والحقوق الزوجية والميراث والمهر والطلاق والعدة الزوجية وأحكام الرضاع والحضانة، فقال تعالى: >ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون< سورة الروم آية (21).. وقد كان تشريع الاسلام للزواج نقطة البدء في تكوين الأسرة وأدائها لرسالتها وفق قواعد وأحكام وتعاليم وآداب بلغت منزلة عالية من الرقي والسمو لا تدانيها منزلة في الشرائع السماوية السابقة وقد حث الحبيب محمد صلوات الله وسلامه عليه على اقامة هذه الرابطة فقال: >تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة< أخرجه ابن حبان وصححه ورواه أحمد والطبراني واسناده حسن. نعم إن الحياة الزوجية من وجهة النظر الإسلامية هي في الحقيقة حياة منضبطة، تقوم على قواعد اخلاقية، وتحكمها آداب وتوجيهات ربانية، وتحدد علاقاتها أحكام وتعاليم شرعية، وبهذا فهي ليست حياة لا مسؤولة يتصرف فيها أفراد الأسرة بما يحلو لهم من تصرفات دون شعور بمسؤولية وبلا وازع من دين، أو رادع من إيمان. ومن يتتبع احكام الاسلام في الزواج وفي تنظيمه لحياة الاسرة، يجد أن الاسلام قد حرص على سلامة الاسرة ووقايتها من اسباب الانحراف والفساد ويجد أن الاسلام قد حرم الزنى على الرجال والنساء تحريما قاطعا، وحرم كل ما يؤدي اليه، فحرم الاختلاط الماجن بين الذكور والاناث، وضبط العلاقة بين الرجال والنساء على أسس سليمة، فحرم الخلوة بين الرجل والمرأة الاجنبية، وحرم دخول الرجل غير المحرم على المرأة عندما يكون محرمها أو زوجها غائبا عن البيت، وحرم على المرأة التبرج واظهار زينتها لغير زوجها ومحارمها، وحرم على الرجال اغراء الزوجات للخلاص من ازواجهن، كما حرم على النساء اغراء الازواج للخلاص من زوجاتهم. وحث على ستر العورات وحرم كشفها وكل ما من شأنه أن يؤدي الى الزنى، وعد ذلك من أبواب الفاحشة وارتكاب المعصية، قال تعالى: >ولا تقربوا الزنى، انه كان فاحشة وساء سبيلا< سورة الإسراء الآية (32).. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما< رواه الترمذي واسناده صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم : >إياكم والدخول على النساء، فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت< رواه البخاري في كتاب النكاح، ويعني أن الفتنة منه تكون أكثر من غيره لتساهل الناس في دخوله عليهم، والمراد هنا اخوة الزوج وأقرباؤه الأدنون. ولصيانة الأسرة وسلامة العيش فيها، ولتحقيق رسالتها الخيرة في المجتمع الاسلامي، حرم الاسلام الخمر على أي فرد من أفرادها كما حرم القمار. قال تعالى: >يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون< سورة المائدة الآيات (90-91)، ذلك أن الخمر والميسر يهدمان الأسرة بعد أن يهدما العقل، فلتحذر الفتيات وليحذر آباء الفتيات من أن يزوجوا بناتهم ممن يتعاطون شرب الخمرة أو يلعبون القمار، فإن فعل ذلك، يكون قد كتب على ابنته أن تعيش حياة تعيسة، سوف يلاحقه إثمها في حياته وبعد مماته، ولهذا حثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على تزويج الرجل الصالح بالمرأة ذات الدين فقال عليه الصلاة والسلام: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها ولجمالها، ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك) رواه البخاري في كتاب النكاح. وقال عليه واله الصلاة والسلام: >اذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا ذلك تكن فتنة في الأرض وفساد عريض< رواه الترمذي. نعم إن الذي يمعن النظر في أحكام الإسلام في تنظيم الأسرة يدرك أن ديننا الحنيف يسعى في أحكامه الى أن يكون كل عضو من أعضاء الأسرة عامل خير وعطاء لنفسه ولأسرته ولمجتمعه، فقد أوجب الإسلام على الزوجين رعاية الأولاد رعاية كاملة تحميهم من التشرد والضياع، وتضمن تربيتهم التربية البناءة للعقل والجسم والروح، قال الله تعالى: >يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا..< سورة التحريم الآية (6).. وقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: (علموا أولادكم الصلاة اذا بلغوا سبعا، واضربوهم عليها اذا بلغوا عشرا، وفرقوا بينهم في المضاجع) رواه الامام أحمد في مسنده والترمذي والطبراني والحاكم في المستدرك. والضرب هنا ضرب التأديب والتعليم، وليس الضرب المؤذي العنيف والعلماء لهذا يحرمون صفع الوجه، كما يوجب الحديث التفريق بين الأبناء في المضاجع بعدم نومهم جميعا تحت غطاء واحد. كما أوجب الأسلام على الزوجين أن تكون حياتهما قائمة على التفاهم والتراحم والمودة، وأن يبتعدا عن الخلافات والمنازعات، وعلى الزوج أن يتحمل ما يجده في زوجته من خلق معوج وأن يحاول تقويمه حسب المستطاع، قال عليه واله الصلاة والسلام: >خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي< رواه الترمذي، وذلك لما قد يترتب على النزاع بين الأبوين من تعقيد لنفوس الأولاد وتنشئتهم النشأة الفاسدة، التي لا يرضى عنها الله تعالى، الى غير ذلك من واجبات وضحتها الشريعة السمحة على كل عضو من أعضاء الأسرة ليأخذ بيدها الى الخير والسعادة، كما وضحت حقوق كل واحد من أفرادها على الآخرين، فاتقوا الله عباد الله، >اتقوا الله حق تقاته ولاتموتن إلا وانتم مسلمون< سورة آل عمران آية (102).. واعلموا أننا جميعا سنسأل يوم القيامة عن أسرنا وأبنائنا، فالحذر الحذر عباد الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت) رواه احمد والحاكم والبيهقي. وقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: (إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) رواه النسائي وابن حبان.