TODAY - January 04, 2011
تعجيل المؤجل وتأجيل المعجل
هاني فحص
أنا، رجل الدين الموصول بالحوزة، أوافق أي محافظ عراقي أو رئيس مجلس أي محافظة عراقية، على إصدار تعميم بمنع الخمور والمخدرات وسفور السيدات واختلاطهن بالرجال، ومنع صناعة التماثيل وتحطيم ما هو موجود منها في الساحات العامة والمتاحف والمنازل ومخيلة النحاتين وصولاً الى جدارية فائق حسن، وإغلاق دور السينما والمسارح، ومنع تدريس كل الفنون في المدارس والجامعات والمعاهد...
(حتى الخط العربي!)
وصولاً الى منع الشعراء من كتابة قصائد الغزل او الخمريات، وإتلاف ما هو موجود منها في المكتبات العامة والخاصة، من رباعيات الخيام الى حجازيات الشريف الرضي وصولاً الى خمريات وغزليات محمد سعيد الحبوبي والخميني ومصطفى جمال الدين، وأوافق على منع كتّاب الرواية من كتابة الروايات الا اذا كانت في تاريخ الاسلام، وكانت متضمنة للعبرة والموعظة الحسنة، والاقتصار في الشعر على المدائح النبوية والرثاء والملاحم. ولا مانع لديّ من منع النشيد الوطني ومنع قراءة القرآن مرتلاً على المقامات الموسيقية المعروفة (سيكا ونهاوند وبيات وحجاز الخ...).
أوافق على ذلك كله، لو طلب مني ابداء رأيي، واوقع على بيان تأييد للإجراءات مع بند جزائي اذا ما تراجعت عندما تظهر صعوبات التنفيذ وسلبياته... واوافق على تشكيل قوة تنفيذية مسلحة بالسلاح الحربي الابيض والأسود وبالايديولوجيا الجاهزة، على طريق «كشت ثأر الله» التي شاهدتها في السنوات الأولى في ايران، وكانت تبالغ في قمعها للمخالفين وغيرهم فتثور ثائرة الناس والمسؤولين، فتبادر الدولة الى وضع حد لها ليبدأ الخبثاء من اعداء الدولة الجديدة في المبالغة في مظاهر التحرر فتثور ثائرة الناس والمسؤولين فتبادر الدولة الى إعادة «الكشوت» أي الدوريات.
وأوافق على إنزال أشد العقوبات الجسدية والمعنوية في المخالفين من دون تفريق بين ابناء المسؤولين وغيرهم، بما يقتضي ذلك من تحوّل المواطنين جميعاً الى جهاز أمن يومي على سلوكيات الأفراد فيتجسّس كل احد وفي كل شيء، من دون تفريق بين الممارسة السرية او العلنية، وان كان في ذلك مخالفة للشرع، فإن فيه ترسيخاً لسلطة الدولة او سلطة السلطة.
ولي على ذلك شرط هو ان يتم ذلك بعد استكمال بناء الدولة في العراق، ويصبح الامن شاملا او شبه شامل، والاستقرار راسخاً او شبه راسخ، ودورة الانتاج والعمران والعلم والعمل مزدهرة، والحرية مصونة والقانون سائداً والقضاء قوياً ومستقلاً والحدود آمنة والبطالة متراجعة والعافية عامة والعلاج متوفراً واطفال الشوارع في المعاهد والايتام في المياتم وبائعات الهوى قد تم إصلاح أمورهن وإعدادهن للاندماج في المجتمع الخ... ولا أصر ان يتم ذلك كله وأرضى ببعضه على امل بالتبعية، ولا ارفض التدرج في التنفيذ، وأعد ان يكون نقدي للأداء موضوعياً وبناء من دون الوقوع في شبهة اشاعة الفاحشة او التشجيع عليها او الرضا بها.
ان اي دولة او سلطة تحقق نسبة مقبولة من هذه الامور تصبح قادرة على فرض ما تشاء حتى لو كان مخالفاً للشريعة ومحكوماً بضرورات معينة او غير محكوم.
وقد ينقسم المجتمع الاهلي والمدني والسياسي بين مؤيد ومعارض ولا مشكلة في ذلك، اذا استطاعت الجهات الفاعلة في الادارة ان تؤمن الحوار او السجال بين المختلفين.
أقول قولي هذا وكأني أضع مشروع الدولة بديلاً عن الحرية او الحريات! أبداً... فأنا اعتبر الدولة تحت سقف القانون ضامناً وناظماً للحريات العامة والفردية، وحارسا للقيم السلوكية... والفنية والجمالية ايضاً... وهذا الدور لا بد ان تقتنع به الدولة وأهلها نظرياً، وان تطبقه عملياً، فإذا كان الاقتناع النظري صعباً في العراق لأسباب ثقافية وتاريخية وسياسية، تتصل بالنظام البائد وممارساته التي وضعت الاخلاق في هامش اهتماماتها، بل حاولت ان تعمم الانفلات تغطية للجرائم والانحرافات... اذا كان الاقتناع النظري صعباً على بعض الناس بضرورة الحرية، وتأجيل الكثير من الامور الى حين استواء الدولة على حالة من الادارة الكفية والتنمية الناجعة، فلا بد من الاقتناع العملي، اي الدخول في التجربة، لنرى الى اين يصل بنا الخطأ في تعجيل المؤجل وتأجيل المعجل، واذكر هنا ببلدان قريبة مارست هذا المسلك، وبمستويات مختلفة من التسامح والتشدد... وفي النهاية سمعنا كباراً في هذا البلد يبدون رغبتهم - بمرارة - في ان يتولوا دعوة الشباب الذين ذهبوا الى المخدرات بأعداد مذهلة، بسبب اوضاعهم وبطالتهم، دعوتهم الى شرب الخمرة المحرمة والضارة بدل المخدرات القاتلة!!! هذا مع وجود الدولة... ولكنها الدولة التي استبدت بها الايديولوجيا او تحويل الدين الى ايديولوجيا سياسية على طريقة السوفيات في تحويل الالحاد الى ايديولوجيا سياسية... فكانت النتائج في التجربة الاشتراكية اندفاعاً في العودة الى الدين... والحرية... ما يخشى معه ان يذهب شبابنا الى اللادين والحرية. وبذلك نكون قد خربنا الدين والدنيا والدولة معاً!
لقد تعلمنا التدرج من القرآن... لقد كان النص القرآني واقعياً...
وعلي عليه السلام يقول: «ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع في غير ارضه»... المستحق في العراق هو الدولة والباقي مؤجل.
*نقلاً عن "السفير" اللبنانية