وفق طبيعة وسلوك الحضارات او تأريخ وثقافة المدن الكبرى وعلاقاتها المدينية، وفي مختلف بقاع العالم فان لتلك المدن القدرة على استيعاب الهجرات الوافدة أليها من القرى والأرياف ومن ثم ترويضها وإذابتها في بوتقة ثقافتها وسلوكها الحضاري المديني المختلف بشكل ظاهر وكبير عن ثقافة وعلاقات وطبائع المهاجرين والنازحين أليها من الأرياف والقرى . وكلما تعرضت القرى والأرياف للأهمال واتسعت دائرة البطالة اتجه القرويون نحو المدن،وكانت المدن بشكل طبيعي ميكانيكي تحتضنهم وتقدم لهم ما يسعفهم لتقبل طبيعة الحياة الأجتماعية الجديدة والثقافية للمدينة ومن ثم الذوبان والاندماج فيها لتكون المدينة بوتقة ووعاء حاوي لثقافات متعددة وفي الوقت ذاته فارضا خصوصيات المدينة الاجتماعية والثقافية و مشذبا ثقافة الريف وطاردا عنها ما يعتورها من تشوهات ونتوءات بعيدة عن الحضارة والمدنية.
واحدة من اكثر المصائب التي وقعت على راس العراق وكانت سببا في الكثير من التداعيات الخطرة التي تلعب اليوم دور حاسم في رسم خارطة العراق الثقافية والاجتماعية والعمرانية وحتى الاقتصادية لا بل بدت ظاهرة عيانية تفصح عن نفسها دون توريات من خلال الحراك اليومي الفاضح لطبيعة الذائقة الثقافية والأجتماعية للأفراد والجماعات لتعلن عن رسوخ مفعول تلك الثقافة الريفية وتغلغل مفاهيمها وقيمها في ثقافة ومناهج التفكير الفردي والجمعي لأبناء العراق بشكل عام.
الملاحظ أن ما حدث خلال مفاصل وتحولات تأريخية مهمة في حياة الشعب العراقي كان له أثره ومفعوله الكبير في تأجيج الظاهرة وأستشراء تأثيرها، فالأقطاع خلال العهد الملكي ومن ثم صدور قانون الأصلاح الزراعي وما شابه من أختلال على عهد الزعيم عبد الكريم قاسم وبعده، وفي القريب هناك سياسات العهد العارفي وأيضا الحصار الاقتصادي على عهد المقبور صدام وحروبه التدميرية وأهماله المتعمد للريف وأخيرا غزو الكويت وما رافقه من هروب وهجرة غالبية الفلاحين عن اراضيهم إثر أنتفاضة آذار ليأتي الاحتلال الأمريكي ليكون القشة التي قصمت ظهر البعير لتنفتح مع أتساع البطالة وفوضى الحريات جميع الأبواب على هجرة جماعية لم تعرفها المدن العراقية الكبيرة سابقا.
مازاد الطين بله في أتساع ظاهرة ابتلاع ثقافة الريف لثقافة المدينة ظهور قيادات في الساحة السياسية العراقية بعد الأحتلال أغلبها من أصول ريفية أصبحت بقدرة المحتل تسيطر وتدير مؤسسات مهمة في هيكل الدولة العراقية وهذه القيادات تحرك تلك المؤسسات والدوائر وتدير شؤونها بمعارف قروية ريفية عشائرية تدفع وفي جميع المراحل نحو عمليات عشوائية تخريبية تنأى بتلك الدوائر بعيدا عن طبيعة العمل المهني الحرفي المؤسساتي لتتعامل وفق منهج العشائرية والطائفية وطرق الحلول الريفية والدينية ولم يكن هذا بعيدا عن الطبيعة البشرية لجميع هؤلاء الذين قادهم الأحتلال مثلما قاد الأنقلاب العسكري من سبقهم ليضعهم على رأس الدولة العراقية فمن كان بدويا عشائريا أو من سكنة الريف ثم عاش جل شبابه في مروي إيران وحسنياتها أو حجيرة السيدة زينب يعتاش على ما يقدم له من نذور أو كان ممارسا للرعي أو مهربا في بادية العراق والشام أوكان خادما مطيعا لصدام وتوابعه أو شخصا هامشيا لا يمتد حلمه أبعد من أن يكون معلما في مدرسة من مناطق العراق النائية القريبة من عشيرته، كل هؤلاء نجدهم اليوم في حالة دهشة وفزع ورهبة ووله أمام مغارة العراق المليئة بالذهب فتراهم لا يفكرون بغير تثبيت سلطة الراس وسرقة المال، قادة مجتمع يعملون على ترسيخ ثقافة الريف وتغييب المدنية والحضارة لصالح تسيد قيم العشيرة في النهب والسلب وتحطيم قيم المعرفة والثقافة المدنية.
ربما لو أردت وصف وتعداد تلك التحولات ومظاهرها لعجزت عن الإحاطة والألمام بها جميعا ولكن كمظهر لمثل تلك الثقافة الريفية أدعو للتامل بالصورتين من الخبرين المرفقين. فثقافة العشيرة وتفخيف رأس العشيرة وثقافة الريف تطغي عليهما وتفصح عن طبيعة التفكير الذي تمارسه قيادات العراق اليوم. فرأس العشيرة يجب أن يجلس فوق وسائد من ريش النعام أما باقي عشيرته فعليهم الجلوس خلفه على تخوت متهالكة.
في الروابط المرفقة توجد صور موحية تدل على ما يفسر طغيان ورسوخ ثقافة أهل القرى والأرياف والعشائرية في عقل المسؤول العراقي وتوبعه، ففي الصف الأول مقاعد ضخمة بقدر ضخامة وفخامة من يجلس عليها وخلفه يجلس العامة على كراسي عادية، تقليد عربي عشائري بأمتياز لا يسمح بأن يجلس التوابع على ذات النوع من مقاعد علية القوم، ولو فكر أهل ثقافة المدينة بالأمر وأراد أحدهم أن يتساوى جميع الجلوس كبشر لأعترض عليه رأس العشيرة بثقافته الريفية وعنفه أمام الجميع باقذع الكلمات.
وهناك آلاف الملاحظات عن ثقافة أهل القرى نراها في ما يتحدثون به أو يرتدونه من ملابس أو ما يفعلونه كسلوك يومي مع عوائلهم أو المحيطين بهم.
منقول