- عدي بن حاتم الطائي
صحابي كريم، كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يكرمه اذا دخل عليه، وزعيم عظيم، وخطيب مدره، وشجاع مرهوب. أسلم سنة تسع وحسن اسلامه. قال: «فلما قدمت المدينة استشرفني الناس فقالوا: عدي بن حاتم ! وقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: يا عدي أسلم تسلم، قلت: ان لي ديناً، قال: أنا أعلم بدينك منك.. قد أظن أنه انما يمنعك غضاضة تراها ممن حولي، وأنك ترى الناس علينا الباً واحداً. قال: هل اتيت الحيرة ؟ قلت: لم آتها وقد علمت مكانها. قال: يوشك ان تخرج الظعينة منها بغير جوار حتى تطوف بالبيت، ولتفتحن علينا كنوز كسرى بن هرمز. فقلت: كسرى بن هرمز ؟ قال: نعم وليفيضن المال حتى يهم الرجل من يقبل صدقته». قال عدي: «فرأيت اثنتين: الظعينة، وكنت في أول خيل غارت على كنوز كسرى، وأحلف باللّه لتجيئن الثالثة(1)». وقال: «أتيت عمر في أناس من قومي فجعل يفرض للرجل ويعرض عني، فاستقبلته فقلت: أتعرفني ؟. قال: نعم آمنت اذ كفروا، وعرفت اذ نكروا، ووفيت اذ غدروا، وأقبلت اذ أدبروا. ان أول صدقة بيضت وجوه أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم صدقة طيئ(2)». وقال: «ما اقيمت الصلاة منذ أسلمت الا وأنا على وضوء(3)».
* * *
ونازعه الراية يوم صفين عائذ بن قيس الحزمري الطائي، وكانت بنو حزمر أكثر من «عدي»(4) رهط حاتم، فوثب عليهم «عبد اللّه بن خليفة الطائي» البولاني عند علي عليه السلام فقال: «يا بني حزمر أعلى عدي تتوثبون ؟ وهل فيكم مثل عدي ؟. أو في آبائكم مثل أبي عدي ؟ أليس بحامي القربة ؟. ومانع الماء يوم (رويّة) ؟ أليس بابن ذي المرباع
______________________________
(1) و(2) و(3) الاصابة (ج 4 ص 228 - 229).
(4) هو الاب الخامس لعدي. فعدي الصحابي هو ابن حاتم بن عبد اللّه بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي - هذا -.
[355]
وابن جواد العرب ؟. أليس بابن المنهب ماله ومانع جاره ؟ أليس من لم يغدر، ولم يفجر، ولم يجهل، ولم يبخل، ولم يمنن ولم يجبن ؟. هاتوا في آبائكم مثل أبيه !، أو هاتوا فيكم مثله !. أَوَليس أفضلكم في الاسلام ؟. أَوَليس وافدكم الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ؟. أليس برأسكم - يوم النخيلة - ويوم القادسية - ويوم المدائن - ويوم جلولاء الوقيعة - ويوم نهاوند - ويوم تستر ؟. فما لكم وله !. واللّه ما من قومكم أحد يطلب مثل الذي تطلبون».
فقال له علي عليه السلام: «حسبك يا ابن خليفة. هلم أيها القوم اليّ، وعلي بجماعة طي». فأتوه جميعاً. فقال علي عليه السلام: «من كان رأسكم في هذه المواطن ؟»، قالت له طيئ: «عدي». فقال له ابن خليفة: «فسلهم يا أمير المؤمنين: أليسوا راضين مسلمين لعدي الرياسة»، ففعل. فقالوا: «نعم». فقال لهم: «عديّ أحقكم بالراية. فسلموها له(1)».
* * *
وبعث اليه زياد سنة (51) وكان في مسجده الذي يعرف (بمسجد عدي) في الكوفة فأخرجه منه، وحبسه. فلم يبق رجل من أهل المصر من اليمن وربيعة ومضر الا فزع لعدي بن حاتم. فأتوا زياداً وكلموه فيه، وقالوا: «تفعل هذا بعدي بن حاتم صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ؟».
وطلب زياد من عدي أن يجيئه بعبد اللّه بن خليفة الطائي، وكان من أصحاب حجر بن عدي أشدائهم على شرطة زياد «الحمراء»، فأبى ثم رضي زياد من عدي أن يغيب ابن خليفة عن الكوفة(2).
ودخل عدي بن حاتم على معاوية، وان معاوية ليهابه ويعرف سداده
______________________________
(1) الطبري (ج 6 ص 5).
(2) ابن الاثير (ج 3 ص 189).
[356]الحصيف في مزالق الفتن، وتمرسه البصير في الشدائد، وبصيرته النافذة وتجاربه الكثيرة الماضية، فجرى في حديثه معه عند «موهبته الخاصة» التي كان يفزع اليها في منازلة العظماء من أعدائه، فقال: «يا عدي أين الطرفات ؟ - يعني بنيه طريفاً وطارفاً وطرفة -» قال: «قتلوا يوم صفين بين يدي علي بن أبي طالب». فقال: «ما أنصفك ابن أبي طالب، اذ قدم بنيك واخر بنيه». قال، «بل ما أنصفت أنا علياً، اذ قتل وبقيت بعده». فقال معاوية: «أما انه قد بقي قطرة من دم عثمان ما يمحوها الا دم شريف من أشراف اليمن !». فقال عدي: «واللّه ان قلوبنا التي ابغضناك بها لفي صدورنا، وان أسيافنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن أدنيت لنا من الغدر فترا لندنين اليك من الشر شبراً ! وان حز الحلقوم، وحشرجة الحيزوم، لاهون علينا من أن نسمع المساءة في علي فسلم السيف يا معاوية لباعث السيف».
فقال معاوية: «هذه كلمات حكم فاكتبوها» - هزيمة منكرة من معاوية - وأقبل على عدي يحادثه كأنه ما خاطبه بشيء(1).
«ولا خير في حلم اذا لم يكن له***بوادر تحمي صفوه ان يكدرا»
ثم قال له: «صف لي علياً». فقال: «ان رأيت ان تعفيني». قال: «لا أعفيك». قال:
«كان واللّه بعيد المدى، شديد القوى، يقول عدلاً، ويحكم فصلاً، تتفجر الحكمة من جوانبه، والعلم من نواحيه. يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته. وكان واللّه غزير الدمعة، طويل الفكرة، يحاسب نفسه اذا خلا، ويقلب كفيه على ما مضى. يعجبه من اللباس القصير، ومن المعاش الخشن. وكان فينا كأحدنا يجيبنا اذا سألناه، ويدنينا اذا أتيناه. ونحن مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه لهيبته، ولا نرفع أعيننا اليه لعظمته. فان تبسم فعن اللؤلؤ المنظوم. يعظم أهل الدين،
______________________________
(1) المسعودي هامش ابن الاثير (ج 6 ص 65).
[357]ويتحبب الى المساكين. لا يخاف القوي ظلمه، ولا ييأس الضعيف من عدله. فأقسم لقد رأيته ليلة وقد مثل في محرابه، وأرخى الليل سرباله، وغارت نجومه، ودموعه تتحادر على لحيته، وهو يتململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني الآن أسمعه وهو يقول:
«يا دنيا ! اليّ تعرضت أم الي أقبلت ؟، غري غيري، لاحان حينك، قد طلقتك ثلاثاً، لا رجعة لي فيك، فعيشك حقير، وخطرك يسير. آهٍ من قلة الزاد وبعد السفر وقلة الانيس».
فوكفت عينا معاوية، وجعل ينشفهما بكمه. ثم قال: «يرحم اللّه أبا الحسن، كان كذلك. فكيف صبرك عنه ؟» قال: «كصبر من ذبح ولدها في حجرها، فهي لا ترقأ دمعتها، ولا تسكن عبرتها». قال: «فكيف ذكرك له ؟» قال: «وهل يتركني الدهر أن انساه ؟(1)».
اقول: وتوفي عدي بن حاتم في عهد المختار بن أبي عبيد سنة (68)(2) وهو ابن مائة وعشرين سنة فماتت معه نفس كريمة لا تخلق الا في ملك، ورأي حصيف لا يختمر الا في حكيم، وايمان صادق لا يعهد الا في وليّ.
_________________________________
(1) البيهقي في المحاسن والمساوئ (ج 1 ص 33).
(2) تاريخ الكوفة (ص 388) والاصابة (ج 4 ص 119)