الصوت اللغوي في القرآن (الجزء الأول)
1- استعمال كلمة حرف
استعمل الخليل كلمة ( حرف ) للدلالة على إرادة ( صوت ) منها ، فكانت الأصوات عنده هي : الحروف الذلق | الحروف الشفوية | حروف الحلق | حروف أقصى الحلق | الحروف الصحاح | الحروف الصم | حروف الجوف | حروف اللين | حروف مابين عكدة اللسان | الحروف اللهوية | الحروف الشجرية | الحروف الأسلية | الحروف النّطعية | الحروف اللثوية . . . إلخ .
وهو يريد بذلك ، أصوات الذلاقة ، وأصوات الشفة ، وأصوات الحلق ، وأصوات أسلة اللسان .... الخ .
ولا يكتفي بهذا حتى يسمي هذه الأصوات بالإضافة إلى مخارجها ومدارجها ، ناظراً إلى هيئة المخرج من المدرج ، وما يصطدم بها من أجهزة النطق أو يتجاوزها باندفاع الهواء ، فيصفها في مثل النحو الآتي :
فمنها ما يخرج من الجوف وليس لها حيّز تنسب إليه سواه ، ومنها ما يقع في مدرجة من مدارج اللسان ، وما يقع في مدرجة من مدارج الحلق ، وما يقع من مدرج اللهاة ، وما هي هوائية ، أي أنها في الهواء كالألف اللينة والواو والياء .
2 ـ يبتدع الخليل في هذه المقدمة أمراً ذا أهمية قصوى في حياة الأصوات ، فيصنع ـ وبدقة متناهية ـ مخططاً شاملاً لمخرج كل صوت ، ويقارن بين بعض الأصوات ، فيضعها في حيّز متميز عن حيّز الأصوات ألأخرى ، ويعطي بعض الخصائص المفرقة لصوت عن صوت ، ويعالج إلحاق بعض الأصوات ببعض المخارج دون سواها ، فتقف عند العلة والسبب ، وتستظهر العلة التي تخفى ولا تكاد تبين ، يقول الخليل في هذا التخطيط :
« فاقصى الحروف كلها العين ثم الحاء ، ولولا بحة في الحاء لأشبهت العين لقرب مخرجها من العين .
ثم الهاء ، ولولا هتة في الهاء لأشبهت الحاء لقرب مخرج الهاء من
الحاء ، فهذه ثلاثة أحرف في حيّز واحد بعضها أرفع من بعض ، ثم الخاء والغين في حيّز واحد كلها حلقية .
ثم القاف والكاف لهويتان ، والكاف أرفع .
ثم الجيم والشين والضاد في حيّز واحد .
ثم الصاد والسين والزاء في حيّز واحد .
ثم الطاء والدال والتاء في حيّز احد .
ثم الظاء والذال والثاء في حيّز واحد .
ثم الراء واللام والنون في حيّز واحد .
ثم الفاء والباء والميم في حيّز واحد .
ثم الألف والواو والياء في حيّز واحد .
والهمزة في الهواء لم يكن لها حيّز تنسب إليه . وأقف عند الهمزة ، فهي مختلف فيها ، ففي الوقت الذي لا يوجد لها حيّز عند الخليل ، إلا فيما نسبه إليه ابن كيسان فيما سبق ، نجد سيبويه يبتدىء بها ، ويعتبرها من حروف أقصى الحلق . في حين يعتبرها ابن جني أول الحروف مخرجاً ، ويبتدىء بها . بينما يعدّها الخليل هوائية منبعثة من الرئتين ، وقد يوافقه ابن الجزري لأنه يعتبرها صوتاً مرققاً ، سلس النطق ، لا مبالغة في تحقيقه .
2- الهمزة صوت مهموس غير مجهور
والحق أن الهمزة صوت مهموس غير مجهور ، وقد ذهب دانيال جونز D. Joenes فيما بين ذلك إلى أنه صوت ليس بالمجهور ، ولا هو بالمهموس ، وإنما هو حالة بين حالتين .
وذهب هفنر R.M.Heffner إلى أنه صوت مهموس دائماً ، ويبدو أن لا تعارض بين الرأيين ، فكلاهما قد نفى عن الهمزة صفة الجهر ، ولكن كلاً
منهما أصدر حكمه بناء على نظرة إلى الحنجرة تختلف عن نظر الآخر ، فجونز قد اعتبر أن للحنجرة ثلاثة أوضاع : الاحتباس ، الانفتاح دون ذبذبة ، الانفتاح مع الذبذبة ، وبذلك تكون الهمزة صوتاً لا هو بالمجهور ولا بالمهموس .
أما هفنر فقد اعتبر أن للحنجرة وظيفتين هما : ذبذبة الأوتار الصوتية ؛ وهي صفة الجهر ، وعدم ذبذبتها وهي صفة الهمس ، ويدخل في حالة عدم الذبذبة احتباس في الحنجرة أو انطلاق فيها في بقية المهموسات ،على أن من المسلم به لدى كل منهما : ان الهمزة عبارة عن احتباس في الحنجرة .
إن هذا العرض إنما تم لجونز وهفنر بعد تقدم العلم الفيزولوجي الذي أعانهما على فهم جهاز الحنجرة بتفصيلات ذبذبته وعدمها ، ومع هذا فقد اختلفا من وجه في الهمزة ، أما الخليل فقد عينها حسياً بذاته دون الاستعانة بخبرة تشريحية معقدة ، وانبعاثها من الرئتين دون حيز تنسب إليه لا يضير معرفته الدقيقة بجهة انطلاقها واصطدامها وخرووجها من فضاء الفم ، إذا كان العلم الحديث يميل إلى رأي سيبويه في الموضوع على فرض أن الخليل لم يعتبرها أول الأصوات ، فسيبويه في الموضوع تلميذ الخليل وابنه حملة علمه ، فالعائدية على الخليل في كلتا الحالتين ، وهذا ما يقرب ما نسبه ابن كيسان إلى الخليل في شأن الهمزة ، فيبدو لنا أنه لم يبدأ بها لأن العين أنصح منها ليس غير .
3 ـ في هذه المقدمة : إشارات صوتية ، وإشاررات لغوية ، وقد يدخل الملحظ الصوتي ضمن الملحظ اللغوي كما فعل الخليل هذا لدى حديثه عن ألف الخماسي باعتبارها ليست أصلية فقال :
« أدخلت هذه الألفات في الأفعال وأمثالها من الكلام لتكون الألف عماداً سلماً للّسان إلى حرف البناء لأن اللسان لا ينطلق بالساكن من الحروف فيحتاج إلى ألف الوصل » .
لقد كان بامكان الخليل التصريح بأن هذه الألف من حروف الزيادة ، ولكنه لم يفعل ، بل أراد وهو معيب بهذه الإرادة ، أنها وسيلة لإخراج الصوت ، فكأن أي صوت لا يمكن للمعرب أن ينطقه ، ولا أن يأخذ الصوت مادته وصفته إلا بعد اعتماده على صوت الألف الأولى قبله ، ومن أجل ذلك دعاها عماداً أو سلّماً ، كما أشار إلى أن إخراج الصوت ، وهو ساكن بصفته : محتاج إلى وسيلة إخراجه ، لأن اللسان لا ينطلق بالساكن من الحروف ، وكانت هذه الوسيلة هي ألف الوصل .
3- التمازج الصوتي
والخليل يراعي هذا التمازج الصوتي في اللغة فيحكم أن الاسم لا يكون أقل من ثلاثة أحرف . حرف يبتدأ به ، وحرف يحشى به الكلمة ، وحرف يوقف عليه ، فهذه ثلاثة أحرف ، فإن صيرت الثنائي مثل : قد ، هل ، لو ، أسماً أدخلت عليه التشديد فقلت : هذه لوّ مكتوبة ، وهذه قد حسنة الكتبة ، زدت واواً على واو ، ودالاً على دال ، ثم أدغمت وشدّدت . فالتشديد علامة الإدغام ، والحرف الثالث .
إن هذا الاهتمام السليم في ربط اللغة بالصوت ، واعتبار الصوت امتداداً للبنية التركيبة ، وأصلاً للأفكار المنطورة في اللغة ، هو الذي توصل إليه بعد قرون عدة الأستاذ اللغوي فرديناند دي سوسور في أن اللغة فكرة منظمة مقرونة بالصوت من خلال تأمل عنصرين يشتركان في تأدية اللغة لوظيفتها ، وهما : الأفكار والأصوات من خلال الربط بينهما كما صنع الخليل .
يقول دي سوسور : « إن المادة الصوتية ليست أكثر ثبوتاً ، ولا أشد تحديداً من الفكر : وهي ليست قالباً يصب فيه الفكر بالضرورة ، بل هي مادة مرنة تنقسم في كل حالة إلى أجزاء متميزة لتوفر الدوال significes التي يحتاج إليها الفكر . وبذلك يمكن أن نتصور الحقيقة اللغوية في مجملها على أنها سلسلة من التقسيمات المتجاورة التي حددت على مستويين : المستوى غير المحدد للأفكار المكدسة ، ومستوى الأصوات .
إن الدور المميز للغة بالنسبة للفكر ليس وسيلة صوتية مادية للتعبير عن الأفكار ، بل القيام بوظيفة حلقة الوصل بين الفكر والصوت ، في ظروف تؤدي بالضرورة إلى التمييز المتبادل لوحدات الفكر والصوت » .
إن هذا المنحنى من التخطيط الصوتي هو الذي يرمي إليه الخليل في مقدمة العين ليخلص إلى صلة التفاعل الحقيقي بين الأفكار والأصوات ، بل أنه يحصر ما في كتاب العين من لغة وتصريف واشتقاق بمنطق تذوقه لأصوات حروف المعجم « فإذا سئلت عن كلمة وأردت أن تعرف موضعها ، فانظر إلى حروف الكلمة ، فمهما وجدت منها واحداً في الكتاب المقدم ( يعني مقدمة العين ) فهو ذلك الكتاب » ( يعني كتاب العين ) .
فهو يرى في اللغة امتداداً طبيعاً للأصوات أولاً فيربطها بها ارتباط الأصل بالفرع ، ونعني بذلك ربط الأصوات أصلاً ، باللغة باعتبارها متفرعة عن الأصوات .
4 ـ ولعل أهم ما توصل إليه الخليل في علم الأصوات حصره للمعجم العربي بأبعاد صوتية فضلاً عن وصف الأصوات منفردة ومجتمعة منضمّة إلى سواها . وإني ليمتلكني العجب حينما أجده يضع حداً جديداً ، ومعياراً فنياً متوازناً ، للكلمات العربية باشتمالها على الحروف الذلق والشفوية ؛ وللكلمات الأعجمية التي لا تتشمل على واحد من حروف الذلاقة والشفة .
هذا المقياس الفني الصوتي لدى الخليل لم يخطىء ولا مرة واحدة حتى في كلمة احدة ، فيما له من مقياس ما أكلمه .
يقول الخليل : « فإن وردت عليك كلمة رباعية أو خماسية معرّاة من حروف الذلق أو الشفوية ، ولا يكون في تلك الكلمة من هذه الحروف حرف واحد أو اثنان أو فوق ذلك ، فاعلم أن تلك الكلمة محدثة مبتدعة ، ليست من كلام العرب ، لأنك لست واجداً من يسمع من كلام العرب
4- حروف الذلق أو الشفوية
بكلمة واحدة رباعية أو خماسية إلاّ وفيها من حروف الذلق أو الشفوية واحد أو اثنان أو أكثر » .
فهو هنا وبحس صوتي جامع مانع : يدرأ الدخيل والمعرّب والمولّد والمحدث والمبتدع عن لغة العرب ، وتلك ميزة ما بعدها ميزة في هذا الخضم المتلاطم من الكلمات واللغى .
قال الليث : قلت : فكيف تكون الكلمة المولدة المبتدعة غير مشوبة بشيء من هذه الحروف ؟ فقال نحو :
(الكشعثج والخضعثج والكشعطج وأشباههن ) فهذه مولدات لا تجوز في كلام العرب ، لأنه ليس فيهن شيء من حروف الذلق والشفوية فلا تقبلن منها شيئاً ، وإن أشبه لفظهم وتأليفهم ، فإن النحارير منهم ربما أدخلوا على الناس ما ليس في كلام العرب إرادة اللبس والتعنيت » .
وليس جديداً بعد العروض السابقة القول بأن الخليل كان ضليعاً بكل تفصيلات الجهاز الصوتي عند الإنسان ، ولا يضيره ـ إن صح ما يقال ـ أن لا يذكر الوترين الصوتيين ، لأنه ليس عالماً بالتشريح ، ولا متخصصاً بجراحة الحنجرة ، وما اضطلع بمهمة طبية قط ، وما ذكره من أجزاء هذا الجهاز فيه الكفاية لعصره إن لم نقل للعصور كافة ، لأنه قد تضمن بكثير من الأبعاد الإشارة لهذه المباحث التي تفرغ لها الأوروبييون .
قال جملة من الأساتيذ :
« ومن أحسن ما عرض له العرب في دراسة الأصوات ما نجده عند الخليل من وصف الجهاز الصوتي ، وهو الحلق والفم إلى الشفتين ، وتقسيمه إياه إلى مناطق ومدارج يختص كل منها بحرف أو مجموعة حروف ، وما أشار إليه من ذوق الحروف لبيان حقيقة المخرج ، فقد هدي بذكائه المتفوق في ذلك إلى مقاييس صحيحة أقرّ كثيراً منها علماء الأصوات المحدثون »